للفنان: نور الدين شاطر
أبداعات عربية
سراويل المدينة
الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 12:54 م
عبد اللطيف الإدريسي
غربة داخلية
تأملت ساعتى اليدوية، سفر مفاجئ؛ أو ربما اقتراب موعد.. ربّما.. دنوت من أحد زبائن المقهى. أمعنت النظر فى فنجان القهوة السادة وكأس الماء الذى كلف وزارة الداخلية آنذاك إنفاق أربعين مليارا لإخماد نار عطش المواطنين.
كان أغلى كأس ماء لم أشربه فى حياتى !
أمعن النظر فى يدي.. لا أملك ساعة يدوية ولا حائطية ولا هم يحزنون.. ساعتى كحلم «الحراقة» السود الذين طردهم واقعهم المرّ فانكبّوا على المدينة كالجراد، حسب البعض، إلا أن هذا الجراد غير مدمر، بل العكس صنع أغنياء جددا من النوع الرذيل، أولئك الذين يتاجرون ببنى البشر وبمآسيهم، يرسلونهم على ظهر بواخر مجنونة، يتاجرون ويطمعون فيما تبقى من الفقر، يبيعون الحلم والآمال، يجردون قرى فى أدغال وصحارى إفريقيا من أبنائها ومن أموالها وذلك على مرأى العالم والعالمين. إنها لعبة اليانصيب.. زهر النرد.. هذا يعيش غناه، أما الآخر فيحلمه مستيقظا وهو يملؤها ورقة اليانصيب.
ذكرنى هذا، أنا المهجّر، بأبى عندما رنا أحد أخوتى وهو يقوم برسم علامة الضرب على ورقة « الكنيينة»، اليانصيب الرياضى الإسباني، تمتم هامساً بين شفتيه:
- إنها ضريبة على الفقراء، وخاصة الأغبياء منهم!
أعدت النظر إلى ساعتى اليدوية الخيالية. أمعنت فيها النظر طويلا.. عضضت على طرف من شفتى السفلى.. فجأة، وفى حركة دائرية خلعت مسدسا خياليا وسدّدته نحو سيارة من نوع «مرسيدس».
ما أكثر سيارات المرسيدس فى المدينة، فمن مرسيدسات خصوصية ومرسيدسات التاكسى إلى مرسيدسات «سراق البلايص» الذين يخاطرون بأنفسهم، طمعاً فى كسب لقمة عيش، وبحياة المسافرين الذين لا حول ولا قوة لهم إلا هذه الوسيلة للوصول إلى مآربهم.
لم أفهم، ربّما بسبب عامل الهجرة، لماذا أصرت الدولة على أن تجعل من سيارة المرسديس السيارة المثالية لتاكسى المدينة الكبير!؟ مع العلم أن أى سيارة أخرى يمكن أن تقوم بنفس المهمة. كم نحب التكرار.. عشقنا فى الإطناب. شظايا الغرب.. بقية أمراء غرناطة..
رميت السيارة بمسدسي.. سُمع دوى الرصاص خارجا من فمي:
- كوخ.. كوخ..
نفخت فى فوهة مسدسي.. رددته فى حزامه ثم صرخت عاليا:
«مافيا»..
مقام مخالفة النفس
فتاة جميلة بزى عصرى شفاف تقتحم الساحة متجهة نحو «دروج مريكان».. كل الساحة تنظر إلى مؤخرتها.. لم يعد يهمنى إست الستات:
صحت فى وجه الساحة:
- مافيا..
عضضت ثانية على نفس الطرف من شفتى السفلى.. غابت الفتاة الجميلة عن الأنظار.. نادانى أحد زبائن مقهى «فونطيس».. ناولنى بعض الدريهمات وأذنى تلتقط توجيهات وتعليمات الزبون المتناثرة.. أعدت العض مرة أخرى.. ابتسمت ابتسامة أبطال أفلام رعاة البقر.. رفعت ثغر أنفى ووجنتى الأيمنين تجاه عينى اليمنى.
قلت:
- لم تنقطع الرحمة من هذه البلاد بعد. ثم أخذت فنجانى واحتسيت جرعة من قهوة معصرة بأغلى ماء عرفه التاريخ.
وما أن انتهيت من وضع الفنجان على الطاولة حتى كان أنا الآخر قد تلاشى فى الطبيعة..
- يا محسنين .. يا كرماء ..
أحسست، أنا المغترب مرتين، بدوران فى الرأس.. ظننته ناتجاً عن تأثير الشمس خاصة فى وقت «الصمايم» التى تدوم حسب جدّتى أربعين يوماً. شممت رائحة أعرفها منذ نعومة طفولتي، لكننى لم أستطع تمييزها فى بادئ الأمر. وفى حركة آلية أدرت رأسى إلى اليمين ثم إلى الشمال بشكل متناسق ومنسجم لكى أتغلب على دوران الرأس هذا، فإذا بى أرمق سائحاً «مافيويا»، لا عربيا ولا بربريا ولا أسود، مع صديقته الشقراء وهما يتصدران مقهى «سنطرال» على مرأى من العين، قاب قوسين من الأنف، يضرمانها.. فهمت.. تيقنت.. دوران الرأس. الرائحة التى أعرفها ولم أتعرّف عليها.. ابتسمت داخل رأسي. قلت:
- إنها «هي».. نعم هى بالذات. هكذا يسميها أهل البلد.
قال أحد الجالسين فى مقهى «فونطيس» كان يضع على عينيه نظارة من نوع رايبين المزورة، وكان على مقربة من سائحنا وصديقته:
- إنهم، فى فرنسا، يقطعون الرؤوس بـ«الهاش»، أما نحن، بالعكس، ننغّم بها هذه الرؤوس..
قالها مربّتا على قفا السائح.. قهقهت رحبة مقهى «فونطيس» وقهقهت رحبة مقهى «سنطرال» وقهقه بائع التليفزيونات والثلاجات وقهقه صاحب أوطيل الساحة الذى كان إلى عهد قريب ملجأ لمومسات المدينة وأصبح الآن مستودعا للأفارقة السود «الحراقة» كما يسميهم أهل البلد.. كما قهقه معهم السائح ورفيقته ببلادة.. يروى أنّ أهل دار الدباغ وآل رحبة عيساوة وسكّان دروج مريكان قهقهوا أيضا؛ لم يقهقه الأفارقة السود.. لم يقهقه أنا الغائب.. لم أقهقه أنا الحاضر، توقّف المارّة.. إنها نكتة جديدة..
ودونكم طايشة..
- يا محسنين.. يا كرماء..
تابع المارّة سيرهم.
«فونطيس»، «سنطرال»، «السوق الداخل»، «طريق فواس» [تحريف لطريق أقواس بسبب الخط المحلّي]، «دار الدباغ» ثدى المدينة الملوّث، «دار البارود» تلك الساحة ومدافعها التى تطلّ على باب قارة بأكملها تنتظر جيشاً لن يقدم، وتشاهد جيشاً بدون سلاح يحاول الفرار هربانا. مدافع أصبحت تحرس معرض الجثث المفقودة الهوية بـ«باب المرسى». وفى انتظار موسم الهجرة فلن تبقى على هذه الحال. لوازم النسيان والفناء متوفرة.. «هي»، «الهاش»، «حشيش»، «الطوبو»، «غريفلة»، «غريبة»، «زيرو»، «سوبير»، «الغبرة»، «البيضا»، «الطالك»، «البربو».. مصطلحات تشهد على رواج السلعة..
السوق الداخلي.. بقايا غرب ما هو بغرب، وفتات شرق ورائحته النتنة متصاعدة بخارا من مراحيض الجامع الكبير متسللة عبر الأزقة مخترقة فضاء الساحة حيث المقاهى والمطاعم والبازارات مختلطة بروائح بقايا النعناع المحروق والمخدرات و«الكازوال» وبول القطط والنفايات المنزلية التى مرّ على تواجدها أمام أبواب المنازل أكثر من يوم حار. طايب وهاري.. رائحة مركّبة طازج مثل تلك التى تتنعم بها فى الحسين والإمام الشافعى والسيدة نفيسة والفسطاط وباب اليمن وعبد المغنى وحارة الفليحى والسايلة..
تعجّبت متسائلا إن كانت هذه المدن قد وقعت اتفاقية توأمة!
النظافة من الإيمان.
تساءل أنا الغائب مرّة:
- لماذا حرّم الله الخنزير؟
لم يبالوا بسؤاله.. مضروب.. مسكون..
مرّ سائح أمريكى مع زوجته من النوع الذى يستيقظ وينام فى «الماكدونالد». فرح أعيان وأغنياء المدينة وأبناؤهم وحتى الفقراء بتدشين أول مطعم «ماكدونالد» فى المدينة. غضب أصحاب مطاعم «البيصرة» و«الحريرة» و«المعقودة» وطواجن «الكرعين» و«العلاوة» و«تواغر» السردين والشطون.
زرت المدينة وكان الشهر شهر صيام. كم كان المنظر مروعاً حقاً أمام المدخل الرئيسى لماكدونالد وسط المدينة الجديد، طابور لا نهاية له، كأنه الحشر. متوسط الوجبة بين خمسة وأربعين وخمسين درهم. ابن عمى يقضى يومه يكسر الصخور ويغربلها لحساب شركة إسبانية مكلفة بناء طريق سيّار، يتقاضى خمسين درهما مقابل عشر ساعات كاملة من الكسر والغربلة والحمل والكسر والغربلة والحمل، بمعدل سبعة دراهم فاصلة بعض السنتيمات فى الساعة تخفض منها الرسوم والطوابع والتأمينات –التى لا أمان فيها- وحقّ الغائب.. وزيد وزيد... الباقي.. الفضل..
خمسون درهما فى اليوم.
استهزأت من السائح الأمريكى الذى اشترى طربوشاً يشبه طربوش «الكوبوي» مصنوعاً من الجلد الرخيص بأغلى ثمن.. لتحيا العولمة.. الصنع محلّى والخيال أمريكاني. ما أمهركم يا صناع مدينتى التقليديين.. إنكم بارعون. لقد جعلتم صورة راعى البقر تتحكم فى مخيلة صاحبنا الأمريكى مع أننى لم أر قطّ أحدا من أبناء مدينتى الفاضلة يلبس طربوشاً كهذا..
ثمن الوجبة خمسون درهماً.
- يا محسنين يا كرماء..
تذكرت حديثى مع صاحب وقائع حارة الزعفرانى الذى فوجئ لما زار مدينتى بالطابع المحلى الأصيل. هذا الطابع الذى يميز أهل مدينتى وتعلقهم بأصالتهم فى المسكن والملبس والمطبخ إذ قال: إن مدينتك مدينة إذا ما دخلت بيوتها ولبست زيها وأكلت طبخها قلت أنا فى مدينتك.
قلت:
- كلّ شيء جائز، إلا هذا الطربوش و«الماكدونالد».
طلب الأمريكى من زوجته أن تلتقط له صورة تذكارية أمام مقهى «سنطرال». كان باستطاعته أن يأخذ مبنى أى مقهى فى مدينة «هافانا» عاصمة «كوبا». أو تراه يظن أن المبنى من الآثار المحليّة التى خلّفها عقبة بن نافع أو إدريس بن عبد الله؟ ربما لا يعلم أنه قد بناه الإسبان إبّان الاستعمار، وأنّ الحى برمّته كان إسبانيا إلى عهد قريب.. أسماؤه شاهدة عليه.
رجعت، أنا الغائب، وأنا أمسك بيدى شيئاً صغير الحجم.. اقتربت من زبون مقهى «فونطيس» وناولته سيجارتين من نوع أمريكي. صاحبنا لم يكن من المحسنين الكرماء.. إنه أرسلنى لشراء السجائر الأمريكية المهربة الباردة العفنة بالتقسيط.
- يا محسنين .. يا كرماء ..
قلما تبالى به سيقان المحسنين الكرماء.
بقية زبائن مقاهى السوق الداخلى أجسادهم حاضرة، قائمة، تأخذ حيزاً فى المكان، حسب التعبير الفلسفى الذى كان عزيزاً على أستاذ الفلسفة المعتزلى المذهب عندما كان يريد تدمير الفكر اللاهوتى المسيحى الذى يقول بالثالوث الأقدس. كيف يستطيع الله أن يأخذ حيّزاً فى المكان والزمان وهو خالق الزمان والمكان؟ آلهة من لحم تزين الكراسى كزملائهم فى لؤلؤة الحسين والفيشاوى وفى شوارع صنعاء المفتوحة والمغلقة..
ضريبة على قيمة مضافة
نطق أحد آلهة مقهى «سنطرال» مثيراً غيبوبة مجمع أرباب «البانتيون» قائلا:
- الوسخ بن العاهرة. طلب منّى أن أؤدى «الطيفيا» TVA، وعندما طلبت منه أن يشرح لى معنى ومدلول ما يسميه بـ«الطيفيا» رفض مبرّرا رأيه بأننى لن أستطيع فهم ذلك.. وسخ.. وقح.. يريد أن أدفع الثمن دون أن أفهم.. ومتى كان ذلك؟
شاب نحيل وطويل القد وعلى عينيه نظارة من البلاستيك الأسود، لا نكاد أن نميزها لسواد بشرته. كان رافعاً ذقنه شيئاً ما كأنه ينظر إلى السماء وكانت عيناه مصوبة تجاه الفتاة الأجنبية. كنت أظنه مكفوفا لأنه لم يحرك رأسه ولو مرة واحدة وكأنه كان يطيل السمع. نظر فى اتجاه الآلهة، حدّق برهة فى صاحب «الطيفيا» ثم أعاد رأسه فى الوضع الذى كان عليه سابقا. خلع النظارة، عينان صغيرتان ومقلتان منكمشتان من كثرة تدخين «الكيف» صوّبهما تجاه الفتاة الأجنبية وقال بهدوء:
- «كيس كوسى لا الطيفيا ؟ »
أجابه صاحب «الطيفيا» على التو:
- لو كنت أعرف ما هى «الطيفيا» لما وجدتنى جالساً بين وجوه النحس هذه، ونعت بيده إلى مجمع أرباب «البانتيون» المنحوسة.
همّ أحد الجالسين بالقول:
- «الطيفيا» يا سادتى الكرام.. مأخوذة عن لغة أجنبية وهى «طاكس سور لا فالور أجوطي»..
قاطعه الشاب الأسمر ورأسه دائما فى نفس الوضع:
- برافو .. فو كوبراند.. فرنسيس..
- اسكت يا «خرا بلع». قذف بها صاحب «الطيفيا» بكل ما فى صدره من حقد وضغينة.
-... و«الطيفيا»... هو ما تأخذه الدولة كضريبة إضافية من ثمن البيع. أى إذا اشتريت حذاء ثمنه مائة درهم، ففى تلك المائة درهم نسبة مئوية زيادة تأخذها الدولة.
هكذا تكلم زارادوشترا..
كان الشخص المتدخل أحدا من أبناء المدينة الذين أقاموا فى العدوة الأخرى لمتابعة دراساتهم الجامعية. لقد قضى فى مدينة بعيدة عن مدينته خمس سنوات حصّل إثرها على دكتوراه فى الاقتصاد، ولما رجع بالشهادة والأفكار والآمال بالأطنان ليخدم مدينته وأهله، وجد نفسه مخلوعا وعاطلا من الدرجة السفلى ..
بقى لا ديدى لا حبّ الملوك ..
حدّق إله «كافى سنطرال» فى وجه الطالب بشراسة وكأنه يواجه «الطيفيا» نفسها، ثمّ قال:
- الدولة.. أخذت كلّ شيء. لم يبق لها الآن إلاّ أن تتدخل فى حقّ «الشطارة» والمساومة. لعنة الله على «الطيفيا»..
ما كيدخل بين الظفر واللحم غير الوساخ.
لقد تعوّد صاحبنا المساومة، إنها مبدأ العرض والطلب، كلّ من البائع والشارى يقترح الثمن الذى يناسبه، فيستمرّ العرض والطلب وهكذا دواليك، وقد يتناسى الطرفان موضوع البيع والشراء والمقايضة، ويخوضان فى أمور أخرى، ويشارك أناس آخرون أطراف الحديث ويحومون حول العالم قبل أن يوافق شنّ طبقة. ومن أغرب الأمور أن سياح العُدوة الأخرى يتناسون الأحكام العرفية المتعامل بها فى مدينتهم من ثمن محدود وثمن متضمن لضريبة القيمة المضافة، ويطالبون تجار هذه العدوة أن يساوموهم ضاربين عرض الحائط بتوجيهات صندوق النقد الذى يطالب مدنا مثل مدينتنا بتنظيم اقتصادها، ويحثها على إقامة ضرائب إضافية على المواد والسلع لعلّ وعسى أن...
لا شيء..
أضاف إله «كافى سنطرال»:
- «الشطارة» يا مولاى هى قانون البيع والشراء، إنها أصل الحوار ومنبعه. إنها شطارة الذى يخرج يده من الشهد دون أن يقرصه النحل. البائع شاطر والشارى شاطر..
واللى بلسانو ما يتلف.
ما كاد صاحبنا أن ينتهى من درسه حتى حطّ النادل كأس شاى منعنعا فوق الطاولة. صوب نحوه صاحبنا نظرة جاسوسية، وكأن وسوسة «الطيفيا» سكنته، ثمّ قال:
أتضرع إلى الله ألاّ تطلب منى أن أؤدى «الطيفيا» على هذا الشاي.. لأنى أقسم بالله الذى ترجع إليه الأمور والذى لا يطلب من عباده أيّة طيفيا وهو الأحقّ بها، أننى لن تطأ قدماى هذه الرحبة من الآن. عليك الاختيار، إما هى وإما أنا.
حدق النادل فى وجهه بعينين جاحظتين وقد فاجأه كلام الزبون. استرجع أنفاسه ثم قال:
- من هى ؟
- الطيفيا ..
- أية «طافيا» يا السى آدم الله يهديك، أنا لا أدخّن.
تنهد السى آدم التؤدة وردد بين شفتيه متمتماً:
- الحمد لله. ما زال على هذه البسيطة أناس طيبون.
قال أحد الزبائن الذين تتبّعوا حديث «الطيفيا» منذ البداية.
- لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
- يا محسنين يا كرماء..
أخذ السى آدم كأس الشاى بين يديه ووضع حاشيته الدائرية بين شفتيه وراح يتذوق حلاوته محاولا بذلك التغلب على علقم «الطيفيا» وشبحها.
رحم الله القارورة
عرفتها فى إحدى الملاهى الليلية.. كانت مسنّة، فاجرة، مومس.. ومن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر ويشحن عليها.. أهديتها بيرة صفراء من النوع الرخيص، جعّة كنهها العلقم، شربتها، حقرتها، ركلتها، وبالبصق زيّنتها، وبالركل رجمتها.. الكل يضحك، الهرم الغربي، سادن مكة، بائع المخدرات، بائع قوارب الموت، رجل الأمن الذى لا أمان فيه.. لعنت عيشتها، تقيّأتها، تقيّأت قلبها.. لن تأمه بأسراره لأحد.. وضعته فى سطل.. وشدت على بطنها بحبل من قنب..
لكن قبل أن يبيضّ شعر رأسها الآث، وقبل أن تتقيّأ قلبها وتضعه فى سطل وتشد عليه بحبل من قنّب باحت لى بمكنونه.. كان ذلك فى ليلة من ليالى الجنس الجماعى فى ملهى ليلى لأحد أعيان المدينة.
- اسمع ما سأقوله لك.. فتح ودنيك مزيان.. رانى غدّا غادية نسافر..
- فين غادية بالسلامة.. لالاّ مكّة.. والخدمة؟.. والكنيف شكون اللى غدى يغسلو وينظفو ؟
- سأضع كل شيء فى سطل وسأستريح..
- ما لك كتدخلى وتخرجى فى الكلام ياك ما تحشّشت ؟
- افتح أذنيك وأنصت :
كان زوجى يعمل صانعا كهربائيا فى الفندق الذى يحتوى هذا الملهى الليلي.. ذهب ضحية شحنة كهربائية..
- زبائننا.. يبقون من دون كهرباء.. موش ممكن..
عاتبه مدير الأوطيل وهدده بالطرد.. كيف البقاء من دون كهرباء فى مدينة الترفيه؟ المدينة التى تبهر بلمعان ضوئها.. فكر فى وفى ابننا الصغير.. حاول .. أعاد المحاولة.. تكهرب.. ضحا ظلّه..
لم أحصل على ديّة، طالبتهم بالتعويضات، عوّضوا زوجى بأمهر منه.. أصبحت أرملة.. أمّ بطفل. تمحنت.. تعذبت.. ألف خدمة وشغل، كسبت عيشي، صنت شرفى وحميت ابني..
صافح الهم الغمّ، بكت «ملبولين» دما.. خطفت المأساة ابني. ضاع تحت عجلة إحدى سيارات المدينة الجديدة الفخمة.
- سمعت فرقعة من الجهة اليمنى أيها السائق..
- لا تقلقوا سيادتكم، إنها مجرد قارورة من البلاستيك. أنتم تعلمون سيادتكم مدى نتانة سكان ضواحى المدينة الجديدة. إنهم قاذورات متحركة.
- أنت متأكد أيها السائق ؟
- كلّ التأكيد يا سيّدي. تلك عادة «أولاد السوق».
- كم تعجبنى عبارة «أولاد السوق» هذه أيها السائق.. «ولد السوق».. إذا كان السوق أباه، فمن هى أمّه؟.. قالها وهو يضحك.
- نعم سيّدى أولاد السوق. يرمون بالقوارير البلاستيكية وسط الشارع لتصدمها عجلات السيارات، وهكذا عندما تصدم السيارة القارورة تحدث فرقعة وعندما يسمع أولاد السوق فرقعتها يولون ضاحكين.. مجرد لعبة.. لعبة أولاد السوق..
هبت الصبا.. خطفت جوزلي.. ذهبت بعقلي.. ولولت. ناديت. يبس الدم فى عروقي.. نفثت أطراف كبدي.. صحت:
- ضاع كبدي.. ضاع كبدي..
الغرب يحبون بقلوبهم ونحن بأكبادنا.
جمعوا ما تبقى من ابنى فى سطل. أرسلوا زبّالا لينظف الأرض من شظايا القارورة ومائها الأحمر الذى انسكب..
عفوا، أهدر..
رحم الله القارورة.
صرت عويشة الثكلى.. طالبتهم.. محاكم، قضاة، محامون، بنكيون، مؤمّنون.. لم يعوّضني.. ماتت عويشة الأرملة الذبول، أصبحت من أخوات كان، وازدادت كلتوم.. مجاز مرسل.. حيّ بن يقظان بن طفيل فى غابة الأسمنت والمال.. كناية.. بعت جسمى بأرخص الأثمان وأبخسها.. أصبحت سطلا يبول فيه هرمو الغرب وسدّان مكة وبائعو المخدّرات وقوارب الموت..
- هى الفاجرة..
صاح فى وجهى سكان ضواحى المدينة، بل صاح فقرهم، جهلهم، تعاستهم.
- المنية ولا الدنية.. عاهرة.. فاجرة.. مومس.. قحبة.. أرسلوها بعيدا.
صاح واحد منهم –به مسّ من جنون- قائلا:
- أرسلوها بعيدا على ظهر باخرة الحمقى..
أنا العاهرة.. الدنيئة.
فمن كان منكم بلا خطيئة
فليرجمنى بحجر أو يصمت.
استأذنك بالغياب لحظة قصيرة لأقلع الكحل الممزوج بالدموع والبصق الممزوج بالبيرة، ولأتكحّل من جديد.. أتكحل بسحيق الملهاة لأرونق المأساة فى حانة الجنة فى الأرض حيث شغّلتنى كمومس من الدرجة الأولى والثانية والثالثة. لن أصبح مومسا من الدرجة الرابعة أو الخامسة وأنتهى حارسة مراحيض حانات المدينة..
هى ذاكرة المدينة.. ظلت هكذا إلى أن قرّرت فى إحدى الليالى الشتوية أن تخلع سروالها وترتدى جلبابا كانت تلبسه أيام المرحوم زوجها وتحمل سطل مرحاض حانة الجنة فى الأرض وتضع فيه زوجها وابنها وترتبط بهما بشريط من قنب وتهجّر المدينة من أهلها إلى الأبد.. وهكذا أصبحت المدينة فارغة من كل المخلوقات إلا من عويشة وزوجها وطفلهما.
كان آخر قرار اتّخذته عويشة قبل رحيلها، هو أن تبول وهى واقفة على عتبة حانة الجنة فى الأرض. ومنذ ذلك اليوم وهى تبول واقفة.