للفنان: نور الدين شاطر
للفنان: نور الدين شاطر


أبداعات عربية

سراويل المدينة

أخبار الأدب

الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 12:54 م

عبد‭ ‬اللطيف‭ ‬الإدريسي

غربة‭ ‬داخلية

تأملت‭ ‬ساعتى‭ ‬اليدوية،‭ ‬سفر‭ ‬مفاجئ؛‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬اقتراب‭ ‬موعد‭.. ‬ربّما‭.. ‬دنوت‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬زبائن‭ ‬المقهى‭. ‬أمعنت‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬فنجان‭ ‬القهوة‭ ‬السادة‭ ‬وكأس‭ ‬الماء‭ ‬الذى‭ ‬كلف‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية‭ ‬آنذاك‭ ‬إنفاق‭ ‬أربعين‭ ‬مليارا‭ ‬لإخماد‭ ‬نار‭ ‬عطش‭ ‬المواطنين‭. ‬

كان‭ ‬أغلى‭ ‬كأس‭ ‬ماء‭ ‬لم‭ ‬أشربه‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ! ‬

أمعن‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬يدي‭.. ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬ساعة‭ ‬يدوية‭ ‬ولا‭ ‬حائطية‭ ‬ولا‭ ‬هم‭ ‬يحزنون‭.. ‬ساعتى‭ ‬كحلم‭ ‬‮«‬الحراقة‮»‬‭ ‬السود‭ ‬الذين‭ ‬طردهم‭ ‬واقعهم‭ ‬المرّ‭ ‬فانكبّوا‭ ‬على‭ ‬المدينة‭ ‬كالجراد،‭ ‬حسب‭ ‬البعض،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجراد‭ ‬غير‭ ‬مدمر،‭ ‬بل‭ ‬العكس‭ ‬صنع‭ ‬أغنياء‭ ‬جددا‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الرذيل،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتاجرون‭ ‬ببنى‭ ‬البشر‭ ‬وبمآسيهم،‭ ‬يرسلونهم‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬بواخر‭ ‬مجنونة،‭ ‬يتاجرون‭ ‬ويطمعون‭ ‬فيما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬الفقر،‭ ‬يبيعون‭ ‬الحلم‭ ‬والآمال،‭ ‬يجردون‭ ‬قرى‭ ‬فى‭ ‬أدغال‭ ‬وصحارى‭ ‬إفريقيا‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬ومن‭ ‬أموالها‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬العالم‭ ‬والعالمين‭. ‬إنها‭ ‬لعبة‭ ‬اليانصيب‭.. ‬زهر‭ ‬النرد‭.. ‬هذا‭ ‬يعيش‭ ‬غناه،‭ ‬أما‭ ‬الآخر‭ ‬فيحلمه‭ ‬مستيقظا‭ ‬وهو‭ ‬يملؤها‭ ‬ورقة‭ ‬اليانصيب‭.‬

ذكرنى‭ ‬هذا،‭ ‬أنا‭ ‬المهجّر،‭ ‬بأبى‭ ‬عندما‭ ‬رنا‭ ‬أحد‭ ‬أخوتى‭ ‬وهو‭ ‬يقوم‭ ‬برسم‭ ‬علامة‭ ‬الضرب‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬‮«‬‭ ‬الكنيينة‮»‬،‭ ‬اليانصيب‭ ‬الرياضى‭ ‬الإسباني،‭ ‬تمتم‭ ‬هامساً‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭:‬

‭- ‬إنها‭ ‬ضريبة‭ ‬على‭ ‬الفقراء،‭ ‬وخاصة‭ ‬الأغبياء‭ ‬منهم‭! ‬

أعدت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬ساعتى‭ ‬اليدوية‭ ‬الخيالية‭. ‬أمعنت‭ ‬فيها‭ ‬النظر‭ ‬طويلا‭.. ‬عضضت‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬شفتى‭ ‬السفلى‭.. ‬فجأة،‭ ‬وفى‭ ‬حركة‭ ‬دائرية‭ ‬خلعت‭ ‬مسدسا‭ ‬خياليا‭ ‬وسدّدته‭ ‬نحو‭ ‬سيارة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‮«‬مرسيدس‮»‬‭. ‬

ما‭ ‬أكثر‭ ‬سيارات‭ ‬المرسيدس‭ ‬فى‭ ‬المدينة،‭ ‬فمن‭ ‬مرسيدسات‭ ‬خصوصية‭ ‬ومرسيدسات‭ ‬التاكسى‭ ‬إلى‭ ‬مرسيدسات‭ ‬‮«‬سراق‭ ‬البلايص‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يخاطرون‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬طمعاً‭ ‬فى‭ ‬كسب‭ ‬لقمة‭ ‬عيش،‭ ‬وبحياة‭ ‬المسافرين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬لهم‭ ‬إلا‭ ‬هذه‭ ‬الوسيلة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مآربهم‭.‬

لم‭ ‬أفهم،‭ ‬ربّما‭ ‬بسبب‭ ‬عامل‭ ‬الهجرة،‭ ‬لماذا‭ ‬أصرت‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬سيارة‭ ‬المرسديس‭ ‬السيارة‭ ‬المثالية‭ ‬لتاكسى‭ ‬المدينة‭ ‬الكبير‭!‬؟‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬أى‭ ‬سيارة‭ ‬أخرى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بنفس‭ ‬المهمة‭. ‬كم‭ ‬نحب‭ ‬التكرار‭.. ‬عشقنا‭ ‬فى‭ ‬الإطناب‭. ‬شظايا‭ ‬الغرب‭.. ‬بقية‭ ‬أمراء‭ ‬غرناطة‭.. ‬

رميت‭ ‬السيارة‭ ‬بمسدسي‭.. ‬سُمع‭ ‬دوى‭ ‬الرصاص‭ ‬خارجا‭ ‬من‭ ‬فمي‭:‬

‭- ‬كوخ‭.. ‬كوخ‭..‬

نفخت‭ ‬فى‭ ‬فوهة‭ ‬مسدسي‭.. ‬رددته‭ ‬فى‭ ‬حزامه‭ ‬ثم‭ ‬صرخت‭ ‬عاليا‭:‬

‮«‬مافيا‮»‬‭..‬

مقام‭ ‬مخالفة‭ ‬النفس

فتاة‭ ‬جميلة‭ ‬بزى‭ ‬عصرى‭ ‬شفاف‭ ‬تقتحم‭ ‬الساحة‭ ‬متجهة‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬دروج‭ ‬مريكان‮»‬‭.. ‬كل‭ ‬الساحة‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬مؤخرتها‭.. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يهمنى‭ ‬إست‭ ‬الستات‭:‬

صحت‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬الساحة‭:‬

‭- ‬مافيا‭..‬

عضضت‭ ‬ثانية‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الطرف‭ ‬من‭ ‬شفتى‭ ‬السفلى‭.. ‬غابت‭ ‬الفتاة‭ ‬الجميلة‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭.. ‬نادانى‭ ‬أحد‭ ‬زبائن‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬فونطيس‮»‬‭.. ‬ناولنى‭ ‬بعض‭ ‬الدريهمات‭ ‬وأذنى‭ ‬تلتقط‭ ‬توجيهات‭ ‬وتعليمات‭ ‬الزبون‭ ‬المتناثرة‭.. ‬أعدت‭ ‬العض‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.. ‬ابتسمت‭ ‬ابتسامة‭ ‬أبطال‭ ‬أفلام‭ ‬رعاة‭ ‬البقر‭.. ‬رفعت‭ ‬ثغر‭ ‬أنفى‭ ‬ووجنتى‭ ‬الأيمنين‭ ‬تجاه‭ ‬عينى‭ ‬اليمنى‭.‬

قلت‭:‬

‭- ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬الرحمة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬بعد‭. ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬فنجانى‭ ‬واحتسيت‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬قهوة‭ ‬معصرة‭ ‬بأغلى‭ ‬ماء‭ ‬عرفه‭ ‬التاريخ‭.‬

وما‭ ‬أن‭ ‬انتهيت‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬الفنجان‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬أنا‭ ‬الآخر‭ ‬قد‭ ‬تلاشى‭ ‬فى‭ ‬الطبيعة‭..‬

‭- ‬يا‭ ‬محسنين‭ .. ‬يا‭ ‬كرماء‭ ..‬

أحسست،‭ ‬أنا‭ ‬المغترب‭ ‬مرتين،‭ ‬بدوران‭ ‬فى‭ ‬الرأس‭.. ‬ظننته‭ ‬ناتجاً‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬الشمس‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬‮«‬الصمايم‮»‬‭ ‬التى‭ ‬تدوم‭ ‬حسب‭ ‬جدّتى‭ ‬أربعين‭ ‬يوماً‭. ‬شممت‭ ‬رائحة‭ ‬أعرفها‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬طفولتي،‭ ‬لكننى‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬تمييزها‭ ‬فى‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭. ‬وفى‭ ‬حركة‭ ‬آلية‭ ‬أدرت‭ ‬رأسى‭ ‬إلى‭ ‬اليمين‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬بشكل‭ ‬متناسق‭ ‬ومنسجم‭ ‬لكى‭ ‬أتغلب‭ ‬على‭ ‬دوران‭ ‬الرأس‭ ‬هذا،‭ ‬فإذا‭ ‬بى‭ ‬أرمق‭ ‬سائحاً‭ ‬‮«‬مافيويا‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬عربيا‭ ‬ولا‭ ‬بربريا‭ ‬ولا‭ ‬أسود،‭ ‬مع‭ ‬صديقته‭ ‬الشقراء‭ ‬وهما‭ ‬يتصدران‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬سنطرال‮»‬‭ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬من‭ ‬العين،‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬من‭ ‬الأنف،‭ ‬يضرمانها‭.. ‬فهمت‭.. ‬تيقنت‭.. ‬دوران‭ ‬الرأس‭. ‬الرائحة‭ ‬التى‭ ‬أعرفها‭ ‬ولم‭ ‬أتعرّف‭ ‬عليها‭.. ‬ابتسمت‭ ‬داخل‭ ‬رأسي‭. ‬قلت‭:‬

‭- ‬إنها‭ ‬‮«‬هي‮»‬‭.. ‬نعم‭ ‬هى‭ ‬بالذات‭. ‬هكذا‭ ‬يسميها‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭.‬

قال‭ ‬أحد‭ ‬الجالسين‭ ‬فى‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬فونطيس‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬على‭ ‬عينيه‭ ‬نظارة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬رايبين‭ ‬المزورة،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬سائحنا‭ ‬وصديقته‭:‬

‭- ‬إنهم،‭ ‬فى‭ ‬فرنسا،‭ ‬يقطعون‭ ‬الرؤوس‭ ‬بـ«الهاش‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬نحن،‭ ‬بالعكس،‭ ‬ننغّم‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬الرؤوس‭.. ‬

قالها‭ ‬مربّتا‭ ‬على‭ ‬قفا‭ ‬السائح‭.. ‬قهقهت‭ ‬رحبة‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬فونطيس‮»‬‭ ‬وقهقهت‭ ‬رحبة‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬سنطرال‮»‬‭ ‬وقهقه‭ ‬بائع‭ ‬التليفزيونات‭ ‬والثلاجات‭ ‬وقهقه‭ ‬صاحب‭ ‬أوطيل‭ ‬الساحة‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬ملجأ‭ ‬لمومسات‭ ‬المدينة‭ ‬وأصبح‭ ‬الآن‭ ‬مستودعا‭ ‬للأفارقة‭ ‬السود‭ ‬‮«‬الحراقة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يسميهم‭ ‬أهل‭ ‬البلد‭.. ‬كما‭ ‬قهقه‭ ‬معهم‭ ‬السائح‭ ‬ورفيقته‭ ‬ببلادة‭.. ‬يروى‭ ‬أنّ‭ ‬أهل‭ ‬دار‭ ‬الدباغ‭ ‬وآل‭ ‬رحبة‭ ‬عيساوة‭ ‬وسكّان‭ ‬دروج‭ ‬مريكان‭ ‬قهقهوا‭ ‬أيضا؛‭ ‬لم‭ ‬يقهقه‭ ‬الأفارقة‭ ‬السود‭.. ‬لم‭ ‬يقهقه‭ ‬أنا‭ ‬الغائب‭.. ‬لم‭ ‬أقهقه‭ ‬أنا‭ ‬الحاضر،‭ ‬توقّف‭ ‬المارّة‭.. ‬إنها‭ ‬نكتة‭ ‬جديدة‭.. ‬

ودونكم‭ ‬طايشة‭..‬

‭- ‬يا‭ ‬محسنين‭.. ‬يا‭ ‬كرماء‭..‬

تابع‭ ‬المارّة‭ ‬سيرهم‭.‬

‮«‬فونطيس‮»‬،‭ ‬‮«‬سنطرال‮»‬،‭ ‬‮«‬السوق‭ ‬الداخل‮»‬،‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬فواس‮»‬‭ [‬تحريف‭ ‬لطريق‭ ‬أقواس‭ ‬بسبب‭ ‬الخط‭ ‬المحلّي‭]‬،‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الدباغ‮»‬‭ ‬ثدى‭ ‬المدينة‭ ‬الملوّث،‭ ‬‮«‬دار‭ ‬البارود‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬الساحة‭ ‬ومدافعها‭ ‬التى‭ ‬تطلّ‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬قارة‭ ‬بأكملها‭ ‬تنتظر‭ ‬جيشاً‭ ‬لن‭ ‬يقدم،‭ ‬وتشاهد‭ ‬جيشاً‭ ‬بدون‭ ‬سلاح‭ ‬يحاول‭ ‬الفرار‭ ‬هربانا‭. ‬مدافع‭ ‬أصبحت‭ ‬تحرس‭ ‬معرض‭ ‬الجثث‭ ‬المفقودة‭ ‬الهوية‭ ‬بـ«باب‭ ‬المرسى‮»‬‭. ‬وفى‭ ‬انتظار‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬فلن‭ ‬تبقى‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭. ‬لوازم‭ ‬النسيان‭ ‬والفناء‭ ‬متوفرة‭.. ‬‮«‬هي‮»‬،‭ ‬‮«‬الهاش‮»‬،‭ ‬‮«‬حشيش‮»‬،‭ ‬‮«‬الطوبو‮»‬،‭ ‬‮«‬غريفلة‮»‬،‭ ‬‮«‬غريبة‮»‬،‭ ‬‮«‬زيرو‮»‬،‭ ‬‮«‬سوبير‮»‬،‭ ‬‮«‬الغبرة‮»‬،‭ ‬‮«‬البيضا‮»‬،‭ ‬‮«‬الطالك‮»‬،‭ ‬‮«‬البربو‮»‬‭.. ‬مصطلحات‭ ‬تشهد‭ ‬على‭ ‬رواج‭ ‬السلعة‭..‬

السوق‭ ‬الداخلي‭.. ‬بقايا‭ ‬غرب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بغرب،‭ ‬وفتات‭ ‬شرق‭ ‬ورائحته‭ ‬النتنة‭ ‬متصاعدة‭ ‬بخارا‭ ‬من‭ ‬مراحيض‭ ‬الجامع‭ ‬الكبير‭ ‬متسللة‭ ‬عبر‭ ‬الأزقة‭ ‬مخترقة‭ ‬فضاء‭ ‬الساحة‭ ‬حيث‭ ‬المقاهى‭ ‬والمطاعم‭ ‬والبازارات‭ ‬مختلطة‭ ‬بروائح‭ ‬بقايا‭ ‬النعناع‭ ‬المحروق‭ ‬والمخدرات‭ ‬و‮«‬الكازوال‮»‬‭ ‬وبول‭ ‬القطط‭ ‬والنفايات‭ ‬المنزلية‭ ‬التى‭ ‬مرّ‭ ‬على‭ ‬تواجدها‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬المنازل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬حار‭. ‬طايب‭ ‬وهاري‭.. ‬رائحة‭ ‬مركّبة‭ ‬طازج‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬تتنعم‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬الحسين‭ ‬والإمام‭ ‬الشافعى‭ ‬والسيدة‭ ‬نفيسة‭ ‬والفسطاط‭ ‬وباب‭ ‬اليمن‭ ‬وعبد‭ ‬المغنى‭ ‬وحارة‭ ‬الفليحى‭ ‬والسايلة‭.. ‬

تعجّبت‭ ‬متسائلا‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المدن‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬اتفاقية‭ ‬توأمة‍‍‭! ‬

النظافة‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭.‬

تساءل‭ ‬أنا‭ ‬الغائب‭ ‬مرّة‭:‬

‭- ‬لماذا‭ ‬حرّم‭ ‬الله‭ ‬الخنزير؟

لم‭ ‬يبالوا‭ ‬بسؤاله‭.. ‬مضروب‭.. ‬مسكون‭..‬

مرّ‭ ‬سائح‭ ‬أمريكى‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذى‭ ‬يستيقظ‭ ‬وينام‭ ‬فى‭ ‬‮«‬الماكدونالد‮»‬‭. ‬فرح‭ ‬أعيان‭ ‬وأغنياء‭ ‬المدينة‭ ‬وأبناؤهم‭ ‬وحتى‭ ‬الفقراء‭ ‬بتدشين‭ ‬أول‭ ‬مطعم‭ ‬‮«‬ماكدونالد‮»‬‭ ‬فى‭ ‬المدينة‭. ‬غضب‭ ‬أصحاب‭ ‬مطاعم‭ ‬‮«‬البيصرة‮»‬‭ ‬و‮«‬الحريرة‮»‬‭ ‬و«المعقودة‮»‬‭ ‬وطواجن‭ ‬‮«‬الكرعين‮»‬‭ ‬و«العلاوة‮»‬‭ ‬و«تواغر‮»‬‭ ‬السردين‭ ‬والشطون‭. ‬

زرت‭ ‬المدينة‭ ‬وكان‭ ‬الشهر‭ ‬شهر‭ ‬صيام‭. ‬كم‭ ‬كان‭ ‬المنظر‭ ‬مروعاً‭ ‬حقاً‭ ‬أمام‭ ‬المدخل‭ ‬الرئيسى‭ ‬لماكدونالد‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬الجديد،‭ ‬طابور‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له،‭ ‬كأنه‭ ‬الحشر‭. ‬متوسط‭ ‬الوجبة‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬وأربعين‭ ‬وخمسين‭ ‬درهم‭. ‬ابن‭ ‬عمى‭ ‬يقضى‭ ‬يومه‭ ‬يكسر‭ ‬الصخور‭ ‬ويغربلها‭ ‬لحساب‭ ‬شركة‭ ‬إسبانية‭ ‬مكلفة‭ ‬بناء‭ ‬طريق‭ ‬سيّار،‭ ‬يتقاضى‭ ‬خمسين‭ ‬درهما‭ ‬مقابل‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الكسر‭ ‬والغربلة‭ ‬والحمل‭ ‬والكسر‭ ‬والغربلة‭ ‬والحمل،‭ ‬بمعدل‭ ‬سبعة‭ ‬دراهم‭ ‬فاصلة‭ ‬بعض‭ ‬السنتيمات‭ ‬فى‭ ‬الساعة‭ ‬تخفض‭ ‬منها‭ ‬الرسوم‭ ‬والطوابع‭ ‬والتأمينات‭ ‬–التى‭ ‬لا‭ ‬أمان‭ ‬فيها‭- ‬وحقّ‭ ‬الغائب‭.. ‬وزيد‭ ‬وزيد‭... ‬الباقي‭.. ‬الفضل‭..  ‬

خمسون‭ ‬درهما‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭. ‬

استهزأت‭ ‬من‭ ‬السائح‭ ‬الأمريكى‭ ‬الذى‭ ‬اشترى‭ ‬طربوشاً‭ ‬يشبه‭ ‬طربوش‭ ‬‮«‬الكوبوي‮»‬‭ ‬مصنوعاً‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬الرخيص‭ ‬بأغلى‭ ‬ثمن‭.. ‬لتحيا‭ ‬العولمة‭.. ‬الصنع‭ ‬محلّى‭ ‬والخيال‭ ‬أمريكاني‭. ‬ما‭ ‬أمهركم‭ ‬يا‭ ‬صناع‭ ‬مدينتى‭ ‬التقليديين‭.. ‬إنكم‭ ‬بارعون‭. ‬لقد‭ ‬جعلتم‭ ‬صورة‭ ‬راعى‭ ‬البقر‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬مخيلة‭ ‬صاحبنا‭ ‬الأمريكى‭ ‬مع‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬قطّ‭ ‬أحدا‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬مدينتى‭ ‬الفاضلة‭ ‬يلبس‭ ‬طربوشاً‭ ‬كهذا‭..‬

ثمن‭ ‬الوجبة‭ ‬خمسون‭ ‬درهماً‭. ‬

‭- ‬يا‭ ‬محسنين‭ ‬يا‭ ‬كرماء‭..‬

تذكرت‭ ‬حديثى‭ ‬مع‭ ‬صاحب‭ ‬وقائع‭ ‬حارة‭ ‬الزعفرانى‭ ‬الذى‭ ‬فوجئ‭ ‬لما‭ ‬زار‭ ‬مدينتى‭ ‬بالطابع‭ ‬المحلى‭ ‬الأصيل‭. ‬هذا‭ ‬الطابع‭ ‬الذى‭ ‬يميز‭ ‬أهل‭ ‬مدينتى‭ ‬وتعلقهم‭ ‬بأصالتهم‭ ‬فى‭ ‬المسكن‭ ‬والملبس‭ ‬والمطبخ‭ ‬إذ‭ ‬قال‭: ‬إن‭ ‬مدينتك‭ ‬مدينة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬دخلت‭ ‬بيوتها‭ ‬ولبست‭ ‬زيها‭ ‬وأكلت‭ ‬طبخها‭ ‬قلت‭ ‬أنا‭ ‬فى‭ ‬مدينتك‭.‬

قلت‭:‬

‭- ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬جائز،‭ ‬إلا‭ ‬هذا‭ ‬الطربوش‭ ‬و«الماكدونالد‮»‬‭.‬

طلب‭ ‬الأمريكى‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬تلتقط‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬تذكارية‭ ‬أمام‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬سنطرال‮»‬‭. ‬كان‭ ‬باستطاعته‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬مبنى‭ ‬أى‭ ‬مقهى‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬هافانا‮»‬‭ ‬عاصمة‭ ‬‮«‬كوبا‮»‬‭. ‬أو‭ ‬تراه‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬المبنى‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬المحليّة‭ ‬التى‭ ‬خلّفها‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬أو‭ ‬إدريس‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الله؟‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬بناه‭ ‬الإسبان‭ ‬إبّان‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وأنّ‭ ‬الحى‭ ‬برمّته‭ ‬كان‭ ‬إسبانيا‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭.. ‬أسماؤه‭ ‬شاهدة‭ ‬عليه‭.‬

رجعت،‭ ‬أنا‭ ‬الغائب،‭ ‬وأنا‭ ‬أمسك‭ ‬بيدى‭ ‬شيئاً‭ ‬صغير‭ ‬الحجم‭.. ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬زبون‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬فونطيس‮»‬‭ ‬وناولته‭ ‬سيجارتين‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬أمريكي‭. ‬صاحبنا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المحسنين‭ ‬الكرماء‭.. ‬إنه‭ ‬أرسلنى‭ ‬لشراء‭ ‬السجائر‭ ‬الأمريكية‭ ‬المهربة‭ ‬الباردة‭ ‬العفنة‭ ‬بالتقسيط‭. ‬

‭- ‬يا‭ ‬محسنين‭ .. ‬يا‭ ‬كرماء‭ ..‬

قلما‭ ‬تبالى‭ ‬به‭ ‬سيقان‭ ‬المحسنين‭ ‬الكرماء‭.‬

بقية‭ ‬زبائن‭ ‬مقاهى‭ ‬السوق‭ ‬الداخلى‭ ‬أجسادهم‭ ‬حاضرة،‭ ‬قائمة،‭ ‬تأخذ‭ ‬حيزاً‭ ‬فى‭ ‬المكان،‭ ‬حسب‭ ‬التعبير‭ ‬الفلسفى‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬عزيزاً‭ ‬على‭ ‬أستاذ‭ ‬الفلسفة‭ ‬المعتزلى‭ ‬المذهب‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬تدمير‭ ‬الفكر‭ ‬اللاهوتى‭ ‬المسيحى‭ ‬الذى‭ ‬يقول‭ ‬بالثالوث‭ ‬الأقدس‭. ‬كيف‭ ‬يستطيع‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬حيّزاً‭ ‬فى‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬وهو‭ ‬خالق‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان؟‭ ‬آلهة‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬تزين‭ ‬الكراسى‭ ‬كزملائهم‭ ‬فى‭ ‬لؤلؤة‭ ‬الحسين‭ ‬والفيشاوى‭ ‬وفى‭ ‬شوارع‭ ‬صنعاء‭ ‬المفتوحة‭ ‬والمغلقة‭..‬

ضريبة‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬مضافة

نطق‭ ‬أحد‭ ‬آلهة‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬سنطرال‮»‬‭ ‬مثيراً‭ ‬غيبوبة‭ ‬مجمع‭ ‬أرباب‭ ‬‮«‬البانتيون‮»‬‭ ‬قائلا‭:‬

‭- ‬الوسخ‭ ‬بن‭ ‬العاهرة‭. ‬طلب‭ ‬منّى‭ ‬أن‭ ‬أؤدى‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬TVA،‭ ‬وعندما‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬لى‭ ‬معنى‭ ‬ومدلول‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بـ«الطيفيا‮»‬‭ ‬رفض‭ ‬مبرّرا‭ ‬رأيه‭ ‬بأننى‭ ‬لن‭ ‬أستطيع‭ ‬فهم‭ ‬ذلك‭.. ‬وسخ‭.. ‬وقح‭.. ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬أدفع‭ ‬الثمن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أفهم‭.. ‬ومتى‭ ‬كان‭ ‬ذلك؟

شاب‭ ‬نحيل‭ ‬وطويل‭ ‬القد‭ ‬وعلى‭ ‬عينيه‭ ‬نظارة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬الأسود،‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬أن‭ ‬نميزها‭ ‬لسواد‭ ‬بشرته‭. ‬كان‭ ‬رافعاً‭ ‬ذقنه‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬كأنه‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬وكانت‭ ‬عيناه‭ ‬مصوبة‭ ‬تجاه‭ ‬الفتاة‭ ‬الأجنبية‭. ‬كنت‭ ‬أظنه‭ ‬مكفوفا‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يحرك‭ ‬رأسه‭ ‬ولو‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬يطيل‭ ‬السمع‭.  ‬نظر‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬الآلهة،‭ ‬حدّق‭ ‬برهة‭ ‬فى‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬أعاد‭ ‬رأسه‭ ‬فى‭ ‬الوضع‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬سابقا‭. ‬خلع‭ ‬النظارة،‭ ‬عينان‭ ‬صغيرتان‭ ‬ومقلتان‭ ‬منكمشتان‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬تدخين‭ ‬‮«‬الكيف‮»‬‭ ‬صوّبهما‭ ‬تجاه‭ ‬الفتاة‭ ‬الأجنبية‭ ‬وقال‭ ‬بهدوء‭:‬

‭- ‬‮«‬كيس‭ ‬كوسى‭ ‬لا‭ ‬الطيفيا‭ ‬؟‭ ‬‮»‬

أجابه‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬على‭ ‬التو‭:‬

‭- ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬لما‭ ‬وجدتنى‭ ‬جالساً‭ ‬بين‭ ‬وجوه‭ ‬النحس‭ ‬هذه،‭ ‬ونعت‭ ‬بيده‭ ‬إلى‭ ‬مجمع‭ ‬أرباب‭ ‬‮«‬البانتيون‮»‬‭ ‬المنحوسة‭. ‬

همّ‭ ‬أحد‭ ‬الجالسين‭ ‬بالقول‭:‬

‭- ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬يا‭ ‬سادتى‭ ‬الكرام‭.. ‬مأخوذة‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭ ‬وهى‭ ‬‮«‬طاكس‭ ‬سور‭ ‬لا‭ ‬فالور‭ ‬أجوطي‮»‬‭..‬

قاطعه‭ ‬الشاب‭ ‬الأسمر‭ ‬ورأسه‭ ‬دائما‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوضع‭:‬

‭- ‬برافو‭ .. ‬فو‭ ‬كوبراند‭.. ‬فرنسيس‭.. ‬

‭- ‬اسكت‭ ‬يا‭ ‬‮«‬خرا‭ ‬بلع‮»‬‭. ‬قذف‭ ‬بها‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬صدره‭ ‬من‭ ‬حقد‭ ‬وضغينة‭.      ‬

‭-... ‬و«الطيفيا‮»‬‭... ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تأخذه‭ ‬الدولة‭ ‬كضريبة‭ ‬إضافية‭ ‬من‭ ‬ثمن‭ ‬البيع‭. ‬أى‭ ‬إذا‭ ‬اشتريت‭ ‬حذاء‭ ‬ثمنه‭ ‬مائة‭ ‬درهم،‭ ‬ففى‭ ‬تلك‭ ‬المائة‭ ‬درهم‭ ‬نسبة‭ ‬مئوية‭ ‬زيادة‭ ‬تأخذها‭ ‬الدولة‭.‬

هكذا‭ ‬تكلم‭ ‬زارادوشترا‭.. ‬

كان‭ ‬الشخص‭ ‬المتدخل‭ ‬أحدا‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المدينة‭ ‬الذين‭ ‬أقاموا‭ ‬فى‭ ‬العدوة‭ ‬الأخرى‭ ‬لمتابعة‭ ‬دراساتهم‭ ‬الجامعية‭. ‬لقد‭ ‬قضى‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬مدينته‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬حصّل‭ ‬إثرها‭ ‬على‭ ‬دكتوراه‭ ‬فى‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬ولما‭ ‬رجع‭ ‬بالشهادة‭ ‬والأفكار‭ ‬والآمال‭ ‬بالأطنان‭ ‬ليخدم‭ ‬مدينته‭ ‬وأهله،‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مخلوعا‭ ‬وعاطلا‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬السفلى‭ .. ‬

بقى‭ ‬لا‭ ‬ديدى‭ ‬لا‭ ‬حبّ‭ ‬الملوك‭ ..‬

حدّق‭ ‬إله‭ ‬‮«‬كافى‭ ‬سنطرال‮»‬‭ ‬فى‭ ‬وجه‭ ‬الطالب‭ ‬بشراسة‭ ‬وكأنه‭ ‬يواجه‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬نفسها،‭ ‬ثمّ‭ ‬قال‭:‬

‭- ‬الدولة‭.. ‬أخذت‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭. ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬لها‭ ‬الآن‭ ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬تتدخل‭ ‬فى‭ ‬حقّ‭ ‬‮«‬الشطارة‮»‬‭ ‬والمساومة‭. ‬لعنة‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭.. ‬

ما‭ ‬كيدخل‭ ‬بين‭ ‬الظفر‭ ‬واللحم‭ ‬غير‭ ‬الوساخ‭.‬

لقد‭ ‬تعوّد‭ ‬صاحبنا‭ ‬المساومة،‭ ‬إنها‭ ‬مبدأ‭ ‬العرض‭ ‬والطلب،‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬البائع‭ ‬والشارى‭ ‬يقترح‭ ‬الثمن‭ ‬الذى‭ ‬يناسبه،‭ ‬فيستمرّ‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك،‭ ‬وقد‭ ‬يتناسى‭ ‬الطرفان‭ ‬موضوع‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬والمقايضة،‭ ‬ويخوضان‭ ‬فى‭ ‬أمور‭ ‬أخرى،‭ ‬ويشارك‭ ‬أناس‭ ‬آخرون‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬ويحومون‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يوافق‭ ‬شنّ‭ ‬طبقة‭. ‬ومن‭ ‬أغرب‭ ‬الأمور‭ ‬أن‭ ‬سياح‭ ‬العُدوة‭ ‬الأخرى‭ ‬يتناسون‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬المتعامل‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬مدينتهم‭ ‬من‭ ‬ثمن‭ ‬محدود‭ ‬وثمن‭ ‬متضمن‭ ‬لضريبة‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة،‭ ‬ويطالبون‭ ‬تجار‭ ‬هذه‭ ‬العدوة‭ ‬أن‭ ‬يساوموهم‭ ‬ضاربين‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بتوجيهات‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الذى‭ ‬يطالب‭ ‬مدنا‭ ‬مثل‭ ‬مدينتنا‭ ‬بتنظيم‭ ‬اقتصادها،‭ ‬ويحثها‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬ضرائب‭ ‬إضافية‭ ‬على‭ ‬المواد‭ ‬والسلع‭ ‬لعلّ‭ ‬وعسى‭ ‬أن‭... ‬

لا‭ ‬شيء‭..‬

أضاف‭ ‬إله‭ ‬‮«‬كافى‭ ‬سنطرال‮»‬‭:‬

‭- ‬‮«‬الشطارة‮»‬‭ ‬يا‭ ‬مولاى‭ ‬هى‭ ‬قانون‭ ‬البيع‭ ‬والشراء،‭ ‬إنها‭ ‬أصل‭ ‬الحوار‭ ‬ومنبعه‭. ‬إنها‭ ‬شطارة‭ ‬الذى‭ ‬يخرج‭ ‬يده‭ ‬من‭ ‬الشهد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقرصه‭ ‬النحل‭. ‬البائع‭ ‬شاطر‭ ‬والشارى‭ ‬شاطر‭.. ‬

واللى‭ ‬بلسانو‭ ‬ما‭ ‬يتلف‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬صاحبنا‭ ‬أن‭ ‬ينتهى‭ ‬من‭ ‬درسه‭ ‬حتى‭ ‬حطّ‭ ‬النادل‭ ‬كأس‭ ‬شاى‭ ‬منعنعا‭ ‬فوق‭ ‬الطاولة‭. ‬صوب‭ ‬نحوه‭ ‬صاحبنا‭ ‬نظرة‭ ‬جاسوسية،‭ ‬وكأن‭ ‬وسوسة‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬سكنته،‭ ‬ثمّ‭ ‬قال‭:‬

أتضرع‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬ألاّ‭ ‬تطلب‭ ‬منى‭ ‬أن‭ ‬أؤدى‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشاي‭.. ‬لأنى‭ ‬أقسم‭ ‬بالله‭ ‬الذى‭ ‬ترجع‭ ‬إليه‭ ‬الأمور‭ ‬والذى‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬عباده‭ ‬أيّة‭ ‬طيفيا‭ ‬وهو‭ ‬الأحقّ‭ ‬بها،‭ ‬أننى‭ ‬لن‭ ‬تطأ‭ ‬قدماى‭ ‬هذه‭ ‬الرحبة‭ ‬من‭ ‬الآن‭. ‬عليك‭ ‬الاختيار،‭ ‬إما‭ ‬هى‭ ‬وإما‭ ‬أنا‭.‬

حدق‭ ‬النادل‭ ‬فى‭ ‬وجهه‭ ‬بعينين‭ ‬جاحظتين‭ ‬وقد‭ ‬فاجأه‭ ‬كلام‭ ‬الزبون‭. ‬استرجع‭ ‬أنفاسه‭ ‬ثم‭ ‬قال‭:‬

‭- ‬من‭ ‬هى‭ ‬؟

‭- ‬الطيفيا‭ ..‬

‭- ‬أية‭ ‬‮«‬طافيا‮»‬‭  ‬يا‭ ‬السى‭ ‬آدم‭ ‬الله‭ ‬يهديك،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أدخّن‭.‬

تنهد‭ ‬السى‭ ‬آدم‭ ‬التؤدة‭ ‬وردد‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭ ‬متمتماً‭:‬

‭- ‬الحمد‭ ‬لله‭. ‬ما‭ ‬زال‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البسيطة‭ ‬أناس‭ ‬طيبون‭.‬

قال‭ ‬أحد‭ ‬الزبائن‭ ‬الذين‭ ‬تتبّعوا‭ ‬حديث‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭.‬

‭- ‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلاّ‭ ‬بالله‭.‬

‭- ‬يا‭ ‬محسنين‭ ‬يا‭ ‬كرماء‭..‬

أخذ‭ ‬السى‭ ‬آدم‭ ‬كأس‭ ‬الشاى‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ووضع‭ ‬حاشيته‭ ‬الدائرية‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭ ‬وراح‭ ‬يتذوق‭ ‬حلاوته‭ ‬محاولا‭ ‬بذلك‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬علقم‭ ‬‮«‬الطيفيا‮»‬‭ ‬وشبحها‭. ‬

‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬القارورة

عرفتها‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬الملاهى‭ ‬الليلية‭.. ‬كانت‭ ‬مسنّة،‭ ‬فاجرة،‭ ‬مومس‭.. ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬منكم‭ ‬بلا‭ ‬خطيئة‭ ‬فليرجمها‭ ‬بحجر‭ ‬ويشحن‭ ‬عليها‭.. ‬أهديتها‭ ‬بيرة‭ ‬صفراء‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الرخيص،‭ ‬جعّة‭ ‬كنهها‭ ‬العلقم،‭ ‬شربتها،‭ ‬حقرتها،‭ ‬ركلتها،‭ ‬وبالبصق‭ ‬زيّنتها،‭ ‬وبالركل‭ ‬رجمتها‭.. ‬الكل‭ ‬يضحك،‭ ‬الهرم‭ ‬الغربي،‭ ‬سادن‭ ‬مكة،‭ ‬بائع‭ ‬المخدرات،‭ ‬بائع‭ ‬قوارب‭ ‬الموت،‭ ‬رجل‭ ‬الأمن‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أمان‭ ‬فيه‭.. ‬لعنت‭ ‬عيشتها،‭ ‬تقيّأتها،‭ ‬تقيّأت‭ ‬قلبها‭.. ‬لن‭ ‬تأمه‭ ‬بأسراره‭ ‬لأحد‭.. ‬وضعته‭ ‬فى‭ ‬سطل‭.. ‬وشدت‭ ‬على‭ ‬بطنها‭ ‬بحبل‭ ‬من‭ ‬قنب‭.. ‬

لكن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبيضّ‭ ‬شعر‭ ‬رأسها‭ ‬الآث،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تتقيّأ‭ ‬قلبها‭ ‬وتضعه‭ ‬فى‭ ‬سطل‭ ‬وتشد‭ ‬عليه‭ ‬بحبل‭ ‬من‭ ‬قنّب‭ ‬باحت‭ ‬لى‭ ‬بمكنونه‭.. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬ليالى‭ ‬الجنس‭ ‬الجماعى‭ ‬فى‭ ‬ملهى‭ ‬ليلى‭ ‬لأحد‭ ‬أعيان‭ ‬المدينة‭.‬

‭- ‬اسمع‭ ‬ما‭ ‬سأقوله‭ ‬لك‭.. ‬فتح‭ ‬ودنيك‭ ‬مزيان‭.. ‬رانى‭ ‬غدّا‭ ‬غادية‭ ‬نسافر‭..‬

‭- ‬فين‭ ‬غادية‭ ‬بالسلامة‭.. ‬لالاّ‭ ‬مكّة‭.. ‬والخدمة؟‭.. ‬والكنيف‭ ‬شكون‭ ‬اللى‭ ‬غدى‭ ‬يغسلو‭ ‬وينظفو‭ ‬؟

‭- ‬سأضع‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬سطل‭ ‬وسأستريح‭.. ‬

‭- ‬ما‭ ‬لك‭ ‬كتدخلى‭ ‬وتخرجى‭ ‬فى‭ ‬الكلام‭ ‬ياك‭ ‬ما‭ ‬تحشّشت‭ ‬؟‭ ‬

‭- ‬افتح‭ ‬أذنيك‭ ‬وأنصت‭ : ‬

كان‭ ‬زوجى‭ ‬يعمل‭ ‬صانعا‭ ‬كهربائيا‭ ‬فى‭ ‬الفندق‭ ‬الذى‭ ‬يحتوى‭ ‬هذا‭ ‬الملهى‭ ‬الليلي‭.. ‬ذهب‭ ‬ضحية‭ ‬شحنة‭ ‬كهربائية‭.. ‬

‭- ‬زبائننا‭.. ‬يبقون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كهرباء‭.. ‬موش‭ ‬ممكن‭.. ‬

عاتبه‭ ‬مدير‭ ‬الأوطيل‭ ‬وهدده‭ ‬بالطرد‭.. ‬كيف‭ ‬البقاء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كهرباء‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬الترفيه؟‭ ‬المدينة‭ ‬التى‭ ‬تبهر‭ ‬بلمعان‭ ‬ضوئها‭..  ‬فكر‭ ‬فى‭ ‬وفى‭ ‬ابننا‭ ‬الصغير‭.. ‬حاول‭ .. ‬أعاد‭ ‬المحاولة‭.. ‬تكهرب‭.. ‬ضحا‭ ‬ظلّه‭.. ‬

لم‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬ديّة،‭ ‬طالبتهم‭ ‬بالتعويضات،‭ ‬عوّضوا‭ ‬زوجى‭ ‬بأمهر‭ ‬منه‭.. ‬أصبحت‭ ‬أرملة‭.. ‬أمّ‭ ‬بطفل‭. ‬تمحنت‭..  ‬تعذبت‭.. ‬ألف‭ ‬خدمة‭ ‬وشغل،‭ ‬كسبت‭ ‬عيشي،‭ ‬صنت‭ ‬شرفى‭ ‬وحميت‭ ‬ابني‭.. ‬

صافح‭ ‬الهم‭ ‬الغمّ،‭ ‬بكت‭ ‬‮«‬ملبولين‮»‬‭ ‬دما‭.. ‬خطفت‭ ‬المأساة‭ ‬ابني‭. ‬ضاع‭ ‬تحت‭ ‬عجلة‭ ‬إحدى‭ ‬سيارات‭ ‬المدينة‭ ‬الجديدة‭ ‬الفخمة‭.‬

‭- ‬سمعت‭ ‬فرقعة‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬اليمنى‭ ‬أيها‭ ‬السائق‭..‬

‭- ‬لا‭ ‬تقلقوا‭ ‬سيادتكم،‭ ‬إنها‭ ‬مجرد‭ ‬قارورة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭. ‬أنتم‭ ‬تعلمون‭ ‬سيادتكم‭ ‬مدى‭ ‬نتانة‭ ‬سكان‭ ‬ضواحى‭ ‬المدينة‭ ‬الجديدة‭. ‬إنهم‭ ‬قاذورات‭ ‬متحركة‭.‬

‭- ‬أنت‭ ‬متأكد‭ ‬أيها‭ ‬السائق‭ ‬؟

‭- ‬كلّ‭ ‬التأكيد‭ ‬يا‭ ‬سيّدي‭. ‬تلك‭ ‬عادة‭ ‬‮«‬أولاد‭ ‬السوق‮»‬‭.‬

‭- ‬كم‭ ‬تعجبنى‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬أولاد‭ ‬السوق‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬أيها‭ ‬السائق‭.. ‬‮«‬ولد‭ ‬السوق‮»‬‭.. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬السوق‭ ‬أباه،‭ ‬فمن‭ ‬هى‭ ‬أمّه؟‭.. ‬قالها‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭.‬

‭- ‬نعم‭ ‬سيّدى‭ ‬أولاد‭ ‬السوق‭. ‬يرمون‭ ‬بالقوارير‭ ‬البلاستيكية‭ ‬وسط‭ ‬الشارع‭ ‬لتصدمها‭ ‬عجلات‭ ‬السيارات،‭ ‬وهكذا‭ ‬عندما‭ ‬تصدم‭ ‬السيارة‭ ‬القارورة‭ ‬تحدث‭ ‬فرقعة‭ ‬وعندما‭ ‬يسمع‭ ‬أولاد‭ ‬السوق‭ ‬فرقعتها‭ ‬يولون‭ ‬ضاحكين‭.. ‬مجرد‭ ‬لعبة‭.. ‬لعبة‭ ‬أولاد‭ ‬السوق‭..‬

هبت‭ ‬الصبا‭.. ‬خطفت‭ ‬جوزلي‭.. ‬ذهبت‭ ‬بعقلي‭.. ‬ولولت‭. ‬ناديت‭. ‬يبس‭ ‬الدم‭ ‬فى‭ ‬عروقي‭.. ‬نفثت‭ ‬أطراف‭ ‬كبدي‭.. ‬صحت‭:‬

‭- ‬ضاع‭ ‬كبدي‭.. ‬ضاع‭ ‬كبدي‭..‬

‭ ‬الغرب‭ ‬يحبون‭ ‬بقلوبهم‭ ‬ونحن‭ ‬بأكبادنا‭.‬

جمعوا‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬ابنى‭ ‬فى‭ ‬سطل‭. ‬أرسلوا‭ ‬زبّالا‭ ‬لينظف‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬شظايا‭ ‬القارورة‭ ‬ومائها‭ ‬الأحمر‭ ‬الذى‭ ‬انسكب‭.. ‬

عفوا،‭ ‬أهدر‭.. ‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬القارورة‭.‬

صرت‭ ‬عويشة‭ ‬الثكلى‭.. ‬طالبتهم‭.. ‬محاكم،‭ ‬قضاة،‭ ‬محامون،‭ ‬بنكيون،‭ ‬مؤمّنون‭.. ‬لم‭ ‬يعوّضني‭.. ‬ماتت‭ ‬عويشة‭ ‬الأرملة‭ ‬الذبول،‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬أخوات‭ ‬كان،‭ ‬وازدادت‭ ‬كلتوم‭.. ‬مجاز‭ ‬مرسل‭.. ‬حيّ‭ ‬بن‭ ‬يقظان‭ ‬بن‭ ‬طفيل‭ ‬فى‭ ‬غابة‭ ‬الأسمنت‭ ‬والمال‭.. ‬كناية‭.. ‬بعت‭ ‬جسمى‭ ‬بأرخص‭ ‬الأثمان‭ ‬وأبخسها‭.. ‬أصبحت‭ ‬سطلا‭ ‬يبول‭ ‬فيه‭ ‬هرمو‭ ‬الغرب‭ ‬وسدّان‭ ‬مكة‭ ‬وبائعو‭ ‬المخدّرات‭ ‬وقوارب‭ ‬الموت‭.. ‬

‭- ‬هى‭ ‬الفاجرة‭.. ‬

صاح‭ ‬فى‭ ‬وجهى‭ ‬سكان‭ ‬ضواحى‭ ‬المدينة،‭ ‬بل‭ ‬صاح‭ ‬فقرهم،‭ ‬جهلهم،‭ ‬تعاستهم‭.‬

‭- ‬المنية‭ ‬ولا‭ ‬الدنية‭.. ‬عاهرة‭.. ‬فاجرة‭.. ‬مومس‭.. ‬قحبة‭.. ‬أرسلوها‭ ‬بعيدا‭.‬

صاح‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬–به‭ ‬مسّ‭ ‬من‭ ‬جنون‭- ‬قائلا‭:‬

‭- ‬أرسلوها‭ ‬بعيدا‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬باخرة‭ ‬الحمقى‭..‬

أنا‭ ‬العاهرة‭.. ‬الدنيئة‭. ‬

فمن‭ ‬كان‭ ‬منكم‭ ‬بلا‭ ‬خطيئة‭ ‬

فليرجمنى‭ ‬بحجر‭ ‬أو‭ ‬يصمت‭.‬

استأذنك‭ ‬بالغياب‭ ‬لحظة‭ ‬قصيرة‭ ‬لأقلع‭ ‬الكحل‭ ‬الممزوج‭ ‬بالدموع‭ ‬والبصق‭ ‬الممزوج‭ ‬بالبيرة،‭ ‬ولأتكحّل‭ ‬من‭ ‬جديد‭.. ‬أتكحل‭ ‬بسحيق‭ ‬الملهاة‭ ‬لأرونق‭ ‬المأساة‭ ‬فى‭ ‬حانة‭ ‬الجنة‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭ ‬حيث‭ ‬شغّلتنى‭ ‬كمومس‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬والثالثة‭. ‬لن‭ ‬أصبح‭ ‬مومسا‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الرابعة‭ ‬أو‭ ‬الخامسة‭ ‬وأنتهى‭ ‬حارسة‭ ‬مراحيض‭ ‬حانات‭ ‬المدينة‭..‬

هى‭ ‬ذاكرة‭ ‬المدينة‭.. ‬ظلت‭ ‬هكذا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قرّرت‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬الليالى‭ ‬الشتوية‭ ‬أن‭ ‬تخلع‭ ‬سروالها‭ ‬وترتدى‭ ‬جلبابا‭ ‬كانت‭ ‬تلبسه‭ ‬أيام‭ ‬المرحوم‭ ‬زوجها‭ ‬وتحمل‭ ‬سطل‭ ‬مرحاض‭ ‬حانة‭ ‬الجنة‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭ ‬وتضع‭ ‬فيه‭ ‬زوجها‭ ‬وابنها‭ ‬وترتبط‭ ‬بهما‭ ‬بشريط‭ ‬من‭ ‬قنب‭ ‬وتهجّر‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭.. ‬وهكذا‭ ‬أصبحت‭ ‬المدينة‭ ‬فارغة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المخلوقات‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عويشة‭ ‬وزوجها‭ ‬وطفلهما‭.‬

كان‭ ‬آخر‭ ‬قرار‭ ‬اتّخذته‭ ‬عويشة‭ ‬قبل‭ ‬رحيلها،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تبول‭ ‬وهى‭ ‬واقفة‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬حانة‭ ‬الجنة‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬وهى‭ ‬تبول‭ ‬واقفة‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة