للفنانة: لطيفة التجانى
أبداعات عربية
السابع
الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 01:14 م
محمد زفزاف
قالت نوارة
ــ لابد أن نجلب جوقا فى حفلة النساء تلك لأنه لا يمكن أن تحلو حفلة بدون طرب ورقص.
قال أحمد
ــ لو طلبت منى الزوجة الأولى ذلك لما حققت لها هذه الرغبة، أنت تعرفين المكانة التى تحتلينها فى قلبي.
نوارة تبلغ الثانية والعشرين، صغيرة الحجم، أنفها أقرب إلى أن يكون أفطس، غير أن ما يغطى على ذلك تورد وجنتيها ووجود ذلك الخال قرب الأنف عند الحنك الأيسر. جسدها لا يبدو ذا بال، لكنها عندما تتعرى تصبح امرأة حقيقية بين يدى الرجل، أى رجل، لذيذة بشكل لا يمكن تصوره مثل فاكهة ناضجة فى غير موسمها. لذلك قال أحمد:
ــ تعرفين أيضا أننى ألبى كل طلباتك. لكن جوقا من الرجال لا أتصوره بين مجموعة من النساء.
ــ وأنا أيضا لا أتصور جوقا من النساء بين مجموعة من النساء.
ــ سوف أحضر لك جوقا من العمي. كثير من الحفلات النسوية يحضرها جوق من العمي.
حك أحمد تحت إبطه. تفرس فيها بنظرات جد حادة. تأمل جسدها الصغير الحجم، اللذيذ مثل فاكهة فى غير موسمها، هذا الجسد الذى يغطيه زغب أصهب مثل زغب الخوخ. لا يمكن لجوق من الرجال أن يغنى أمام امرأة مثل هذه، لكن لا بأس إذا كانوا عميا.
قال نوارة:
ــ هذا ولدنا الأول، ويجب أن يكون احتفالنا بسابعه احتفالا يغلق أفواه النساء والرجال معا. وأنت تعرف أن الناس يتحدثون حتى عن الأشياء التى لم يروها ولم يسمعوا بها.
ــ إذا جلبنا جوقا من العمى فإنه لا يمكن لأحد أن يقول شيئا.
ــ كثير من الناس يقيمون حفلات يختلط فيها النساء بالرجال.
ــ أنا لست من أولئك الناس.
تظاهرت بالغضب، شعر هو بذلك لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما يفكر فيه. هذا قراره حتى ولو كان يموت من أجل زغب الخوخ. نوارة أرادت، وأحمد أراد، غير أن أحمد أراد ما لم ترده نوارة.
ثم سُمعت الزغاريد والتصفيقات، ودخل جوق العمى متماسكين مثل عربات القطار، واصطفوا فى مكان معين. احتكت أفخاذ بعضهم بأفخاذ بعض النساء، ومنهن من تجنبن ذلك ومنهن، من رغبن فى دفئه. هذا سابع سوف يغلق الأفواه أفواه النساء وأفواه الرجال، خصوصا فم مينة زوجة عبد القادر، فم منانة وفاطمة الحسناوية وخدوج بنت الأصمك، ويغلق كابينة رحمة زوجة العربى الهيش. لذلك حاولت نوارة أن تبدو كما لو لم تخرج قط من حالة النفاس والولادة، حتى لا يقال بأنها ضعيفة وأنه ليس بمقدورها أن تنجب دزينة من الأطفال كما تنجب كل نساء البراريك. وعندما ارتفعت الزغاريد والتصفيقات زغردت هى الأخرى واضعة كفها فوق شفتيها العليا التى ظهر فوقها تقاطع خطوط حناء، فى حين كانت اليد الأخرى تحضن الصبى فوق فخذيها. وعندما زغردت أخرجت ثديها وحاولت أن تلقمه عبثا للطفل الذى كان يحرك عبثا يديه شبه مغمض العينين. وقالت رحمة زوجة العربى الهيش .
ــ الله يحفظه لأمه وأبيه.
ــ لم أرد سوى أن أنبهك لأن لى تجربة فى الأمر وأم لخمسة أبناء وبنات.
وقالت منانة التى التقطت الحديث رغم أنها كانت تصفق وترشف الشاى .
ــ لم تقل لك غير الحق.
نهضت امرأة من أقصى البراكة وتخطت أقدام بعض النساء وتقدمت نحو الأعمى صاحب التعريجة الذى كان يغنى بصوته المبحوح الذى نخره الكيف، وعلقت له بين طاقيته وجبهته ورقة من خمسة دراهم. اضطرب عزف الأعمى وأوشكت كلمات الأغنية أن تضطرب فى فمه كذلك، لكنه استعاد الإيقاع، بل رفع صوته أكثر وأخذ يضرب على جلد التعريجة بحماس. فعلت نساء أخريات مثل المرأة الأولى، وفى نفس الوقت كن يزررن نوارة والصبي. نهضت امرأة فقيرة واقتربت منها وقدمت لها طوبة سكر.
ــ يا ابنتى يا نوارة اقبلى هذه الزرورة، فى عهدنا لم نكن نقدم سوى السكر. عصركم تبدل، ما كنا نعرف الفلوس.
وتراجعت العجوز إلى مكانها. حتى لو كان معها فلوس ما كانت لتقدمها كزرورة لأن الفلوس تفلس، ولذلك قيل الله يفلسك!. ثم خبطت العجوز على فخذيها العجفاوين وقالت للتى تجلس بالقرب منها:
ــ إنها صغيرة ومسكينة، لكن تبدو أنها من النوع الذى يعيش له الأولاد.
وقالت المرأة المتوسطة العمر التى كانت تجلس قربها:
- أنا دفنت خمسة.
- الله يرحمهم.
كف الجوق عن العزف ونوَّلت كؤوس الشاى وامتدت الأيدى إلى كعك مصنوع من طحين رخيص وسكر وزيت وشىء أشبه بالسمن البلدى. وندت عن الصبى صرخة ضعيفة واهية فحركته أمه بذراع.
فى حين كانت اليد الأخرى تمسك بكأس الشاى. سقط منديلها على عينيها. وضعت الكأس قربها فاندلق الشاى الساخن وشعرت بسخونته تحت فخدها اليمنى وهى تعيد شد المنديل على رأسها بيد واحدة.
وقالت لها امرأة:
خذى الطفل إلى الخارج ليشم قليلاً من الهواء أو اتركيه لى لأخرج به إذا لم تكونى تستطيعين ذلك.
لم ترد نوارة، لكن واحدة كانت تجلس بجانبها ووشوشت لها وسط لغط النساء.
- لا تفعلي. لا تعطى طفلك لامرأة لأنها قد تسحره. النساء حسودات تأكل قلوبهن الغيرة.
تحاملت نوارة على نفسها وغادرت البراكة حافية القدمين.
وتبعتها منانة وقبقابان فى يدها:
- ضعى هذين القبقابين ولا تمشى حافية، فذلك سوف يؤثر عليك.
- اعرف ذلك يامنانة. لكن الجو حار اليوم.
رغم ذلك وضعت قدميها فى القبقابين وأخذت تتمشى وهى تهدهد الطفل الذى كف عن صراخه الضعيف. سمعت العزف والغناء اللذين بدآ يرتفعان فى الداخل. وسمعت أيضاً دكات أقدام. لا شك أن امرأة ترقص الآن. اقتربت من الباب وأطلت. لم تكن امرأة، ولكنه أعمى صاحب التعريجة، كان يحرك عجيزته كيفما اتفق، وقد وسعت له النساء مكاناً لم يتجاوزه لأنه كان يعرف أنه أعمى. النساء يصفقن ويحركن رؤوسهن. وقفت واحدة وأخذت ترقص فى زاوية البراكة. وقالت لها امرأة:
ــ تقدمى إلى الوسط حتى نراك.
ــ لا أستطيع أن أرقص مع رجل.
ــإنه مجرد أعمى، وفوق ذلك فهو عجوز.
ــ عيب أن تراقص امرأة رجلا.
ــ كل شيء عندكن عيب، نحن فى الدوار نراقص الرجال.
ــ لا شك فى ذلك، لأنك منصورية، المنصورية لا تخجل حتى من أولادها.
وقفت المنصورية وتخطت بعض الأفخاذ والأقدام والرؤوس، أصبحت قبالة الأعمى فى الوسعة الصغيرة، مدت ذراعيها فى الفضاء، وأخذت تدك الأرض بقدميها. زغردت بعض النساء مشجعات لها. ارتفع صوت الأعمى وازدادت ضربات أنامله على التعريجة قوة. كانت التعريجة تحت إبطه تكاد تختفى وراء ثوب قشابته، ومع ذلك كان يسمع له صوت حاد. الأعمى صاحب الكمنجة يساعده بترديده لازمة أغنية عن الحصاد والحب والمرأة التى لا تهتم به لأنه مجرد خماس. شعرت نوارة بالبول الساخن يتسرب إلى جسدها. اعتبرت ذلك طبيعيا فتحملته، أخذت تحرك هى الأخرى جسدها الواهن. لاحظت ذلك امرأة فقالت لها:
ــ لا تحاولى أن ترقصي، الحرارة شديدة. سوف تفسدين الوالدة إذا فعلت. زوجك ينتظر منك أولادا آخرين. تعالى اجلسي.
جلست نوارة عند الباب، واستمرت المنصورية فى الرقص، والأعمى ينحنى عند عجيزتها وقد أصابه نوع من الحال، يضرب بعنف على التعريجة وصوته المبحوح يخترق أخشاب البراكة. نهضت امرأة أخرى وأخذت ترقص وقد نزعت عن شعرها الأكرت منديلها المزوق، ألقت المنديل فى حجر إحدى النساء، ظلت ترقص فى مكانها. وقف أعمى آخر كان يضع نظارتين، وتوجه نحو الوسعة الصغيرة وسط البراكة. داس المكان كالتيس، أخذ يرقص مع المنصورية والأعمى صاحب التعريجة، ويردد لازمة الأغنية، لكن صوته كان شبيها بالعواء. نفس اللازمة كانت تردد من طرف أفواه أخرى، أفواه نساء يبصرن ورجال لا يبصرون.
وقالت امرأة توجد قرب الباب لنوارة:
ــ لا شك أن زوجك سيشرب زجاجتين من النبيذ هذه الليلة.
ــ لم يعد يشرب، ولكنه عوَّضه بالكيف. الكيف أرخص يا أختي.
ــ آهاه! مثل زوجي! لكن الكيف يجعل الرجال كسلاء ويفقدون فحولتهم.
ــ طبعا، إذا كانت المرأة لا تعرف كيف تستحلب الثور. أقصد إذا أنهكت. أما أنا فلا أزال صغيرة وقادرة على استحلاب ثور عمره ثمانون سنة.
ــ هنيئا لك يا أختي. ثم إن سى أحمد يبدو رجلاً فحلاً. وهذا العزرى الذى فى أحضانك لا بد أنه سوف يشبهه.
ــ الله وحده يعلم بذلك.
أخذت تهدهد الصبي، وتنظر إلى وجهه المغطى بخرق، ثم قبلت الخرقة الملفوفة فوق رأسه وهى تقول:
ــ الفحل اليوم هو الذى يعرف القراءة. أتمنى أن يتعلم حتى يحصل على شهادات.
ــ معك حق. لكن إذا لم يطردوه من المدرسة. لقد طردوا كل أبنائي.
ــ شكيكو! (وضربت عند خشب البراكة وتفلت فى التراب).
قالت المرأة:
ــ ألف شكيكو وشكيكو. لكنها الحكومة!
لم تسمعها نوارة، لأن الزغاريد كانت تشق الفضاء، والأصوات تتعالى وتتحدث أو تتغنى! وشعرت أنها حققت كل شيء، لقد أغلقت الأفواه. ينقص شيء: المشوى والضلعة! لكن لا يزال الدهر طويلا عريضا. وفى المرة القادمة سوف يستمر السابع سبعة أيام وسبع ليال بكاملها.
قال أحمد لنوارة:
لو لم تكن الزوجة الأولى عاقراً لما طلقتها. أنت سوف تلدين الأطفال وسوف يكون لك ما تريدين.
- ألا تحبنى؟ لقد تزوجتنى من أجل الإنجاب فقط.
- أبداً لم أقل هذا. ولكن أبغيك كثيراً.
- لو كنت متعلمة لتزوجت شاباً موظفاً مع الحكومة.
- لو تزوجته لقتلك جوعاً. إن تلك الحزقة إلا ربع التى يتقاضونها ينفقونها على ربطات العنق: كل ما تطلبينه ألبيه لك.
صحيح أن كل ما تطلبه نوارة يلبيه لها أحمد حتى لو كان جلب جوق امن العمى. إن ظروفه المادية صعبة هذه الايام فالحكومة أحكمت الخناق على المهربين ولكن أحمد رجل عفريت ينزع اللقمة من فم الكلب. هذا ما يعجبنى فيه وليس مثل أولئك العذارى الذين يمشطون شعورهم ويقفون فى رأس الدرب طول النهار حتى منتصف الليل، ويحلمون بجواز سفر، وفيهم واحد مفلس والعياذ بالله، قيل إنه يعيش مع الاوروبيين الذكور، على الرغم من أنه جميل ويمكن لأى فتاة أن تهيم حباً به.
هدهدت الطفل مرة أخرى لأنه كان قد أغفى ثم استيقظ وبدأ يئن أنيناً خافتاً مختنقاً. وقالت امرأة:
- ادخلى يانوراة. هذا عيدك، لا تبقى عند الباب.
وأجابتها امرأة أخرى:
- دعيها تشم هواء هى وطفلها. لا تدخلى يا نوارة، فالحرارة شديدة والجو مختنق والمولود لا يمكنه أن يتحمل ذلك.
وقالت امرأة أخرى جالسة بالقارب منها بصمت خافت:
- ألا ترين أنه فى كل لحظة يملأ لهم شقفاً كما لو كانت مهمته هى تلك فقط.
توقف العزف ووزعت كؤوس الشاى وقطع الكعك وبعض لوزات لم تكف كل النساء وخرجت بعضهن ليشممن قليلاً من الهواء وليغتبن بعضهن البعض.
وقالت رحمة لمنانة:
- لا أحد يستطيع أن يقيم سابعاً مثل هذا. هى تزوجت رجلاً ونحن تزوجنا بغلين لا يستطيعان أن يعيلا حتى أنفسهما.
- انك لست جميلة مثلها.
- لقد كنت جميلة عندما كنت فى سنها.ولكن ذلك الهيش أنهك جسدى. كان سيتزوجنى ولد الإسبانية التى كنت أشتغل عندها فى ذلك الزمان.
- تتزوجين رجلاً ليس من ملتك ولا دينك؟
- اللهم كافر بالله ولا كافر بالقلب.
- حرام أن تقولى هذا الكلام، أنت أم أولاد .
- كلهم يشبهون أباهم. لا فائدة فى أى واحد منهم.
أخذت منانة تحك جنبها الأيسر بعمود كان مركوزاً فى الأرض يسند البراكة وتثاءبت. ظهرت اللهاة واللسان وبعض الأسنان المسوسة. أطرقت ونظرت فى التراب عند قدميها. رفعت يديها وجذبت المنديل فوق جبهتها. بدت كما لو كانت تفكر فى شىء مهم سوف تقوله لرحمة. لكن رحمة ابتعدت عنها وذهبت إلى نوارة التى غادرت مكانها عند الباب. وشوشت لها فى أذنها، وعادت قرب منانة كان العمود الخشبى يصدر طقطقات خفيفة. سمعت ذلك رحمة وقالت:
- لا تحكى جسدك به أكثر. سوف يتكسر هذا العمود وسوف تسقط البراكة على أولئك العجائز وأولئك العمى.
-ياه؟ إنه عمود لا يسند حتى نفسه. لا شك أنها تستعمله لنشر غسيلها.
- كأن الأسلاك فقدت من الدنيا. فلتربط سلكاً أو حبلاً وسط الفناء.
- هى ليست فى حاجة إلى ذلك. سمعت أن زوجها يأخذ ثيابه إلى الكواء.
- يافرحتها! كان لى زوج مثلها، إن أحمد مثل الأوروبيين.
- إنه يعيش معهم. السلع التى يهربها يشتريها من اوروبيين.
ويرتاد البارات ليشرب فيها ليس مثل هؤلاء المزاليط الذين يقتتلون على زجاجة نبيذ فى التراب. لقد كبر بين الاوروبيين فى السوق المركزى. كان يساعدهم على حمل السلال والقفاف عندما كان صغيراً إنه يعرف لغاتهم.
- رجل وأى رجل؟!
- زوجته الأولى لم تكن تستحقه.
- صحيح. رغم أنها شارفة كانت تشرب زجاجتى نبيذ فى اليوم ولا تمنع ذلك الشىء حتى عن كلب.
-تفو!
كان اللغط يرتفع والضحكات والشكاوى فى البراكة وخارجها. امرأة واحدة كانت منكمشة فى زاوية، لأنها مشلولة الساقين. تتأمل فى كل شىء ولا تتحدث إلا قليلاً. ولو لم تكن مشلولة الساقين لكانت هى التى تدير كؤوس الشاى وتوزع الكعك والكلام. ليس لها أولاد ولا بنات سوى نوارة.
حتى زوجها توفى من زمان عندما سقطت عليه بالة كتان فى الميناء.
كانت نوارة تنظر إلى أمها بإشفاق لأن هذا هو نهارها الذى كان يمكنها أن ترقص فيه وأن ترش النساء بالعطر وتطوف عليهن بالمجمر الذى يفوح بخوراً. ومع ذلك فقد بدت لنوارة أنها سعيدة يظهر ذلك فى أعماق عينيها العمشاوين اللتين يقترب الذباب منهما ثم يتراجع لأن كفيها تتحركان باستمرار كمروحتين كهربائيتين. كانت الكفان تطردان الذباب وفى الوقت نفسه تخفقان من الحرارة.
اقتربت خدوج من نوارة وفى يدها كأس شاى:
- اشربى قليلاً من الشاى أراك تنظرين إلى الناس كما لو لم تكونى من هذا العالم. لا شك أنك فى حاجة إلى راحة هذا سابع ابنك. عليك أن تتحملى كل شىء اليوم. سى أحمد سوف ينمو له جناحان وسوف يطير اليوم فرحاً.
- والله يا أختى ما عندى نفس لأى شىء ولكن ما دمت قد أتعبت نفسك وجئتنى بالشاى فسوف أشربه إرضاء لخاطرك.
- لا ترغمى نفسك على شىء لا تريدينه.
- هذا يوم أشرب فيه حتى السم من أجل ابني.
- سوف يرزقك الله أبناء آخرين. أنت صغيرة وشابة وقوية - تبارك الله - مثل عجلة.
رشفت الشاي. وأخذت تتأمل جسدها من فوق إلى تحت، حتى تتأكد أنها بالفعل قوية مثل عجلة. لطالما قالت أمها إن عينيك جميلتان مثل عينى جحشة. المهم أنها فى قوة عجلة وجمال جحشة. وسى أحمد يقول لها عندما يكون فى حالة نفسية خاصة: «يامو بزازل! يا بزازل البقرة!» هذا كله دليل على أنها قوية وجميلة وأم بزازل وكل شىء آخر. وهذا معناه أن الولادة لم تؤثر عليها ولا يمكنها أن تؤثر عليها عندما ستضع دزينة من الأولاد والبنات.
كانت تنظر إلى ثديها العارى الذى تخرجه وتحاول أن تلقمه للصبى عبثا. رأس الثدى مدبب وأسود. وحوله شعرة تميل إلى الشقرة. ثم أخذت تسمع صوتا آتيا من بعيد: «الله عليك يا مو بزازل!». نظرت إلى البزولة مرة أخري، ثم أخفتها والتقطت كأس الشاى الذى طارت من حافته ذبابة غليظة ذات ألوان يغلب عليها اللون الأزرق الصدفي. وقالت والدتها:
- لقد زوجتك لأحسن الرجال، كل النساء يتمنينه لأنفسهن. ليس فيه عيب رغم أنه سبق أن تزوج، ثم إن الزواج السابق لا يعيب الرجل، ولكنه يعيب المرأة. لو كان فى أى امرأة ربح لما طلقها زوجها. وكل الناس ينصحون أبناءهم بعد التزوج بالهجالة. سى أحمد سبق أن تزوج، غير أنه رجل.
- أعرف أنه رجل حقيقي. لقد أصبحت أحبه.
- يجب أن تحبيه لأنه زوجك، كل ما أتمناه هو أن أرى ذريتك قبل أن أموت.
قالت ذلك وضربت على فخذيها المشلولين، ثم زحفت معتمدة على يديها نحو ركنة ظليلة وكان أحمد قد دخل بعد ذلك مباشرة. تأمل نوارة وحاول أن يقبلها فى جبينها لكنه سمع حركة غير عادية التفت ليجد والدتها فى الركنة تنظر إليه. ذهب إليها وأخرج من جرابه منديلاً وشربيلاً كاد أن يقدم لها الشربيل لكنه تذكر أنها مشلولة. قدم لها المنديل وهو ينحنى على رأسها الذى خطه شيب خفيف وقالت والدتها لأحمد:
- سوف تلدان خير الأولاد وخير البنات.
تراجع أحمد ولم يقل شيئاً فتح ليمونادة كانت تنتظره فى سطل ماء شربها بسرعة وغادر البراكة. قبل سبعة أيام تحققت أمنية والدة نوارة يمكنها أن تموت الآن.. لأنها رأت بعينيها العمشاوين حفيدها. تلك أمنية كل عجوز فى سنها.
كانت الآن تنشأ فى هدوء وبلادة إلى كل ما يجرى حولها وحاولت أن تزيح أهداب المنديل عن عينيها فانفتحتا بتثاقل كأن كومة من الغبار كانت تحجب عنها الرؤية صرخت بصوت واهٍ جدا:
- نوارة!
لكن صرختها ذهبت هباء أعادت الكرة أخرى وأخرى دون جدوى وعندما علمت أن نوارة بعيدة منها التفتت إلى أقرب امرأة إليها:
- يابنتى أين نوارة؟
قالت المرأة:
- إنها عند الباب.. لقد أخرجت الصبى حتى يشم هواء فالجو خانق هنا.
- أرجو أن تنادى عليها. قولى لها إن أمك - حاشاك - تريد أن تبول.
وقفت المرأة وذهبت إلى نوارة وقالت لها ذلك. قالت نوارة بصوت لم تسمعه المرأة وهى تتحمل على نفسها:
- لا أدرى هل أبول الكبير أم الصغير؟
التحقت بوالدتها وقالت لها:
- يمكنك أن تزحفى وتفعلى ذلك خلف البراكة.
- أخشى أن يكون هناك أحد.
- ليس هناك أحد. ثم هل تخجلين من النساء؟
زحفت العجوز. لم يهتم بها أحد كانت تدب وكن يخلين لها ممراً دون حتى أن يهتممن بها وهن مستمرات فى لغطهن. اختفت وراء البراكة مثل سلحفاة فى برمرامة خضراء كثيفة ملتصقة بالتراب وشكلت غصيناتها عريشة صغيرة.. فعلت ذلك. كادت أن تفعل الشىء الآخر. لكنها عدلت عندما استعصى ذلك الشىء وعادت تزحف. توقفت وأخذت ترقب كل شى ءمن حولها فى بلاهة.
شعرت بالتراب حاراً تحت نصفها الأسفل حاولت أن تتجنب حرارته بجذب تكة سروالها. أحدث خيط المطاط فرقعة مع لحمها عند البطن.
سمعت فى الداخل نقرات على التعريجة رافقها صوت كمنجة مبحوح إنها بداية أغنية عادة ما تبدأ هكذا عشوائية حتى يهتدى المغنى الأعمى للاغنية التى سوف يختار، توقف النقر على التعريجة فى حين استمر صوت الكمنجة يتصاعد ثم يخفت ثم يتوقف ليعاود الأعمى الكرة مرة أخرى.
أخذت نوارة تتحرك من دون اتجاه فى بطء طبعاً تتحدث إلى هذه وتستمتع إلى تلك. زحفت أمها باتجاه النساء. كانت تدب.
أفسحن لها ممراً المرة السابقة حاولت منانة أن تتحرك لتخلى لها الطريق باتجاه الركنة. لكن صرخة قوية ندت عن العجوز، صرخة قوية جعلت النساء يقفن ويتزاحمن ويتناطحن، توقف عزف العمى، لقد انقلب مقراج الماء الساخن على والدة نوارة. أخذت تصرخ:
«بطنى، حجرى، أفخاذى، نارى» انكفأت على ظهرها جررنها إلى الخارج بعضهن كن يخبطن على أفخاذهن وأحناكهن.
وقالت امرأة:
- لا شك أنه طفل مشئوم
ردت امرأة أخرى:
- يا أختى لا تتحدثى عن صبى برىء بهذا الشكل.
- قلت لك فقط.
قالت نوارة:
- آه يا أمى ما عندى سواك!
لطمت حنكيها مرات عديدة. تلقفت امرأة الصبى من يدها. هرعت إلى أمها تخلصها من أيدى النساء الأخريات لا شك أن لحمها تهرأ الآن. كفت العجوز عن الصراخ وأخذت تئن أنيناً خافتاً كما لو كانت تحتضر.
وقالت امرأة:
- نأخذها عند المسعودى: قبل أن تموت هذه الشارفة.
سمعتها نوارة:
- الشارفة هى أنت.
لم ترد المرأة لكنها انسحبت بالفعل تطوعت امرأة سمينة، وحاولت أن تحملها على ظهرها لكن العجوز أخذت تصرخ.
تركتها تهوى فتلقفتها أياد أخرى. قال أعمى:
- من هذه المصيبة؟
- إنها جدة الصبى.
- لم تختر لحظة موتها إلا فى سابع حفيدها.
- ماذا تعرف عن العجائز؟ لا يخلقن المشاكل إلا فى ساعات الأفراح.
- المهم أن تدفع لنا ابنتها وننصرف.
- هل نقترح عليها ذلك فى هذا الطرف؟
- وأنا ما الذى يهمنى؟
ذهبت امرأتان لجلب المسعودى من حانوته ليضع للعجوز أعشاباً أو يطبخ لها شيئاً حتى لو كان رهجاً لتكف عن أنينها.
حاولت نوارة أن تتخلص من الجوق فدفعت لهم نقوداً وأخرجتهم وقالت امرأة:
- إنه ليس سابعاً ولكنه مأتم.
سمعتها نوارة التى أخذت تشعر بتقلص فى معدتها:
- حرام عليك يا أختى أن تقولى هذا الكلام لولا العين لما حصل ما حصل.
انسحبت بعض النساء وتملصن من العجوز لتموت بطريقتها، بقى بعض قليل منهن. كانت التى تحمل الصبى فى يدها جالسة تحت الظل وهى تتأمل وجهه، عيناه مغمضتان حاولت مراراً أن تطرد الذباب عن وجهة كانت الحرارة شديدة والعجوز تئن أنينها الخافت ذاك. وقالت رحمة:
- يجب أن نصب عليها سطل ماء بارد.
قالت نوارة:
- هل تريدين قتل أمى؟
- يا حبيتى أنا لا أريد ذلك أريدها أن تعيش وتربى الريش.
إنى لست مغايرة وحسودة.
أخذت نوارة تتحرك وتدور على نفسها ولا تعرف ما تفعل، ضربت على فخديها. عضت ثيابها بأسنانها. انخرطت فى بكاء حاد وعويل. ثم سقطت أرضاً مغمى عليها. أخذت تتمرغ فى التراب.
هرعت امرأة إلى سطل ماء وصبته عليها لكن دون جدوى.