للفنانة: لطيفة التجانى
للفنانة: لطيفة التجانى


أبداعات عربية

السابع

أخبار الأدب

الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 01:14 م

 

محمد‭ ‬زفزاف‭ ‬

قالت‭ ‬نوارة‭ ‬

ــ‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نجلب‭ ‬جوقا‭ ‬فى‭ ‬حفلة‭النساء ‬تلك‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحلو‭ ‬حفلة‭ ‬بدون‭ ‬طرب‭ ‬ورقص‭.‬

قال‭ ‬أحمد‭ ‬

ــ‭ ‬لو‭ ‬طلبت‭ ‬منى‭ ‬الزوجة‭ ‬الأولى ‬ذلك‭ ‬لما‭ ‬حققت‭ ‬لها‭ ‬هذه‭ ‬الرغبة،‭ ‬أنت‭ ‬تعرفين‭ ‬المكانة‭ ‬التى‭ ‬تحتلينها‭ ‬فى‭ ‬قلبي‭.‬

نوارة‭ ‬تبلغ‭ ‬الثانية‭ ‬والعشرين،‭ ‬صغيرة‭ ‬الحجم،‭ ‬أنفها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أفطس،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يغطى‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تورد‭ ‬وجنتيها‭ ‬ووجود‭ ‬ذلك‭ ‬الخال‭ ‬قرب‭ ‬الأنف‭ ‬عند‭ ‬الحنك‭ ‬الأيسر‭. ‬جسدها‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬ذا‭ ‬بال،‭ ‬لكنها‭ ‬عندما‭ ‬تتعرى‭ ‬تصبح‭ ‬امرأة‭ ‬حقيقية‭ ‬بين‭ ‬يدى‭ ‬الرجل،‭ ‬أى‭ ‬رجل،‭ ‬لذيذة‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تصوره‭ ‬مثل‭ ‬فاكهة‭ ‬ناضجة‭ ‬فى‭ ‬غير‭ ‬موسمها‭. ‬لذلك‭ ‬قال‭ ‬أحمد‭: ‬

ــ‭ ‬تعرفين‭ ‬أيضا‭ ‬أننى‭ ‬ألبى‭ ‬كل‭ ‬طلباتك‭. ‬لكن‭ ‬جوقا‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬لا‭ ‬أتصوره‭ ‬بين‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النساء‭.‬

ــ‭ ‬وأنا‭ ‬أيضا‭ ‬لا‭ ‬أتصور‭ ‬جوقا‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬بين‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النساء‭.‬

ــ‭ ‬سوف‭ ‬أحضر‭ ‬لك‭ ‬جوقا‭ ‬من‭ ‬العمي‭. ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحفلات‭ ‬النسوية‭ ‬يحضرها‭ ‬جوق‭ ‬من‭ ‬العمي‭.‬

حك‭ ‬أحمد‭ ‬تحت‭ ‬إبطه‭. ‬تفرس‭ ‬فيها‭ ‬بنظرات‭ ‬جد‭ ‬حادة‭. ‬تأمل‭ ‬جسدها‭ ‬الصغير‭ ‬الحجم،‭ ‬اللذيذ‭ ‬مثل‭ ‬فاكهة‭ ‬فى‭ ‬غير‭ ‬موسمها،‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬الذى‭ ‬يغطيه‭ ‬زغب‭ ‬أصهب‭ ‬مثل‭ ‬زغب‭ ‬الخوخ‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لجوق‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬أن‭ ‬يغنى‭ ‬أمام‭ ‬امرأة‭ ‬مثل‭ ‬هذه،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬عميا‭.‬

قال‭ ‬نوارة‭:‬

ــ‭ ‬هذا‭ ‬ولدنا‭ ‬الأول،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬احتفالنا‭ ‬بسابعه‭ ‬احتفالا‭ ‬يغلق‭ ‬أفواه‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬معا‭. ‬وأنت‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬يتحدثون‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يروها‭ ‬ولم‭ ‬يسمعوا‭ ‬بها‭.‬

ــ‭ ‬إذا‭ ‬جلبنا‭ ‬جوقا‭ ‬من‭ ‬العمى‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬شيئا‭.‬

ــ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يقيمون‭ ‬حفلات‭ ‬يختلط‭ ‬فيها‭ ‬النساء‭ ‬بالرجال‭.‬

ــ‭ ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الناس‭.‬

تظاهرت‭ ‬بالغضب،‭ ‬شعر‭ ‬هو‭ ‬بذلك‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يفكر‭ ‬فيه‭. ‬هذا‭ ‬قراره‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬يموت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬زغب‭ ‬الخوخ‭. ‬نوارة‭ ‬أرادت،‭ ‬وأحمد‭ ‬أراد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أحمد‭ ‬أراد‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬ترده‭ ‬نوارة‭.‬

ثم‭ ‬سُمعت‭ ‬الزغاريد‭ ‬والتصفيقات،‭ ‬ودخل‭ ‬جوق‭ ‬العمى‭ ‬متماسكين‭ ‬مثل‭ ‬عربات‭ ‬القطار،‭ ‬واصطفوا‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬معين‭. ‬احتكت‭ ‬أفخاذ‭ ‬بعضهم‭ ‬بأفخاذ‭ ‬بعض‭ ‬النساء،‭ ‬ومنهن‭ ‬من‭ ‬تجنبن‭ ‬ذلك‭ ‬ومنهن،‭ ‬من‭ ‬رغبن‭ ‬فى‭ ‬دفئه‭. ‬هذا‭ ‬سابع‭ ‬سوف‭ ‬يغلق‭ ‬الأفواه‭ ‬أفواه‭ ‬النساء‭ ‬وأفواه‭ ‬الرجال،‭ ‬خصوصا‭ ‬فم‭ ‬مينة‭ ‬زوجة‭ ‬عبد‭ ‬القادر،‭ ‬فم‭ ‬منانة‭ ‬وفاطمة‭ ‬الحسناوية‭ ‬وخدوج‭ ‬بنت‭ ‬الأصمك،‭ ‬ويغلق‭ ‬كابينة‭ ‬رحمة‭ ‬زوجة‭ ‬العربى‭ ‬الهيش‭. ‬لذلك‭ ‬حاولت‭ ‬نوارة‭ ‬أن‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬النفاس‭ ‬والولادة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يقال‭ ‬بأنها‭ ‬ضعيفة‭ ‬وأنه‭ ‬ليس‭ ‬بمقدورها‭ ‬أن‭ ‬تنجب‭ ‬دزينة‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬كما‭ ‬تنجب‭ ‬كل‭ ‬نساء‭ ‬البراريك‭. ‬وعندما‭ ‬ارتفعت‭ ‬الزغاريد‭ ‬والتصفيقات‭ ‬زغردت‭ ‬هى‭ ‬الأخرى‭ ‬واضعة‭ ‬كفها‭ ‬فوق‭ ‬شفتيها‭ ‬العليا‭ ‬التى‭ ‬ظهر‭ ‬فوقها‭ ‬تقاطع‭ ‬خطوط‭ ‬حناء،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬اليد‭ ‬الأخرى‭ ‬تحضن‭ ‬الصبى‭ ‬فوق‭ ‬فخذيها‭. ‬وعندما‭ ‬زغردت‭ ‬أخرجت‭ ‬ثديها‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬تلقمه‭ ‬عبثا‭ ‬للطفل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يحرك‭ ‬عبثا‭ ‬يديه‭ ‬شبه‭ ‬مغمض‭ ‬العينين‭. ‬وقالت‭ ‬رحمة‭ ‬زوجة‭ ‬العربى‭ ‬الهيش‭ .‬

ــ‭ ‬الله‭ ‬يحفظه‭ ‬لأمه‭ ‬وأبيه‭.‬

ــ‭ ‬لم‭ ‬أرد‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أنبهك‭ ‬لأن‭ ‬لى‭ ‬تجربة‭ ‬فى‭ ‬الأمر‭ ‬وأم‭ ‬لخمسة‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭.‬

وقالت‭ ‬منانة‭ ‬التى‭ ‬التقطت‭ ‬الحديث‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تصفق‭ ‬وترشف‭ ‬الشاى‭ .‬

ــ‭ ‬لم‭ ‬تقل‭ ‬لك‭ ‬غير‭ ‬الحق‭.‬

نهضت‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬البراكة‭ ‬وتخطت‭ ‬أقدام‭ ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬وتقدمت‭ ‬نحو‭ ‬الأعمى‭ ‬صاحب‭ ‬التعريجة‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يغنى‭ ‬بصوته‭ ‬المبحوح‭ ‬الذى‭ ‬نخره‭ ‬الكيف،‭ ‬وعلقت‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬طاقيته‭ ‬وجبهته‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬دراهم‭. ‬اضطرب‭ ‬عزف‭ ‬الأعمى‭ ‬وأوشكت‭ ‬كلمات‭ ‬الأغنية‭ ‬أن‭ ‬تضطرب‭ ‬فى‭ ‬فمه‭ ‬كذلك،‭ ‬لكنه‭ ‬استعاد‭ ‬الإيقاع،‭ ‬بل‭ ‬رفع‭ ‬صوته‭ ‬أكثر‭ ‬وأخذ‭ ‬يضرب‭ ‬على‭ ‬جلد‭ ‬التعريجة‭ ‬بحماس‭. ‬فعلت‭ ‬نساء‭ ‬أخريات‭ ‬مثل‭ ‬المرأة‭ ‬الأولى،‭ ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬كن‭ ‬يزررن‭ ‬نوارة‭ ‬والصبي‭. ‬نهضت‭ ‬امرأة‭ ‬فقيرة‭ ‬واقتربت‭ ‬منها‭ ‬وقدمت‭ ‬لها‭ ‬طوبة‭ ‬سكر‭. ‬

ــ‭ ‬يا‭ ‬ابنتى‭ ‬يا‭ ‬نوارة‭ ‬اقبلى‭ ‬هذه‭ ‬الزرورة،‭ ‬فى‭ ‬عهدنا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نقدم‭ ‬سوى‭ ‬السكر‭. ‬عصركم‭ ‬تبدل،‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬الفلوس‭.‬

وتراجعت‭ ‬العجوز‭ ‬إلى‭ ‬مكانها‭. ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬معها‭ ‬فلوس‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتقدمها‭ ‬كزرورة‭ ‬لأن‭ ‬الفلوس‭ ‬تفلس،‭ ‬ولذلك‭ ‬قيل‭ ‬الله‭ ‬يفلسك‭!. ‬ثم‭ ‬خبطت‭ ‬العجوز‭ ‬على‭ ‬فخذيها‭ ‬العجفاوين‭ ‬وقالت‭ ‬للتى‭ ‬تجلس‭ ‬بالقرب‭ ‬منها‭: ‬

ــ‭ ‬إنها‭ ‬صغيرة‭ ‬ومسكينة،‭ ‬لكن‭ ‬تبدو‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذى‭ ‬يعيش‭ ‬له‭ ‬الأولاد‭.‬

وقالت‭ ‬المرأة‭ ‬المتوسطة‭ ‬العمر‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬قربها‭:‬

‭- ‬أنا‭ ‬دفنت‭ ‬خمسة‭.‬

‭- ‬الله‭ ‬يرحمهم‭.‬

كف‭ ‬الجوق‭ ‬عن‭ ‬العزف‭ ‬ونوَّلت‭ ‬كؤوس‭ ‬الشاى‭ ‬وامتدت‭ ‬الأيدى‭ ‬إلى‭ ‬كعك‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬طحين‭ ‬رخيص‭ ‬وسكر‭ ‬وزيت‭ ‬وشىء‭ ‬أشبه‭ ‬بالسمن‭ ‬البلدى‭. ‬وندت‭ ‬عن‭ ‬الصبى‭ ‬صرخة‭ ‬ضعيفة‭ ‬واهية‭ ‬فحركته‭ ‬أمه‭ ‬بذراع‭.‬

فى‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬اليد‭ ‬الأخرى‭ ‬تمسك‭ ‬بكأس‭ ‬الشاى‭. ‬سقط‭ ‬منديلها‭ ‬على‭ ‬عينيها‭. ‬وضعت‭ ‬الكأس‭ ‬قربها‭ ‬فاندلق‭ ‬الشاى‭ ‬الساخن‭ ‬وشعرت‭ ‬بسخونته‭ ‬تحت‭ ‬فخدها‭ ‬اليمنى‭ ‬وهى‭ ‬تعيد‭ ‬شد‭ ‬المنديل‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬بيد‭ ‬واحدة‭.‬

وقالت‭ ‬لها‭ ‬امرأة‭:‬

خذى‭ ‬الطفل‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬ليشم‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬أو‭ ‬اتركيه‭ ‬لى‭ ‬لأخرج‭ ‬به‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكونى‭ ‬تستطيعين‭ ‬ذلك‭.‬

لم‭ ‬ترد‭ ‬نوارة،‭ ‬لكن‭ ‬واحدة‭ ‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬بجانبها‭ ‬ووشوشت‭ ‬لها‭ ‬وسط‭ ‬لغط‭ ‬النساء‭.‬

‭- ‬لا‭ ‬تفعلي‭. ‬لا‭ ‬تعطى‭ ‬طفلك‭ ‬لامرأة‭ ‬لأنها‭ ‬قد‭ ‬تسحره‭. ‬النساء‭ ‬حسودات‭ ‬تأكل‭ ‬قلوبهن‭ ‬الغيرة‭.‬

تحاملت‭ ‬نوارة‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وغادرت‭ ‬البراكة‭ ‬حافية‭ ‬القدمين‭.‬

وتبعتها‭ ‬منانة‭ ‬وقبقابان‭ ‬فى‭ ‬يدها‭:‬

‭- ‬ضعى‭ ‬هذين‭ ‬القبقابين‭ ‬ولا‭ ‬تمشى‭ ‬حافية،‭ ‬فذلك‭ ‬سوف‭ ‬يؤثر‭ ‬عليك‭.‬

‭- ‬اعرف‭ ‬ذلك‭ ‬يامنانة‭. ‬لكن‭ ‬الجو‭ ‬حار‭ ‬اليوم‭.‬

رغم‭ ‬ذلك‭ ‬وضعت‭ ‬قدميها‭ ‬فى‭ ‬القبقابين‭ ‬وأخذت‭ ‬تتمشى‭ ‬وهى‭ ‬تهدهد‭ ‬الطفل‭ ‬الذى‭ ‬كف‭ ‬عن‭ ‬صراخه‭ ‬الضعيف‭. ‬سمعت‭ ‬العزف‭ ‬والغناء‭ ‬اللذين‭ ‬بدآ‭ ‬يرتفعان‭ ‬فى‭ ‬الداخل‭. ‬وسمعت‭ ‬أيضاً‭ ‬دكات‭ ‬أقدام‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬امرأة‭ ‬ترقص‭ ‬الآن‭. ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬وأطلت‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬امرأة،‭ ‬ولكنه‭ ‬أعمى‭ ‬صاحب‭ ‬التعريجة،‭ ‬كان‭ ‬يحرك‭ ‬عجيزته‭ ‬كيفما‭ ‬اتفق،‭ ‬وقد‭ ‬وسعت‭ ‬له‭ ‬النساء‭ ‬مكاناً‭ ‬لم‭ ‬يتجاوزه‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬أعمى‭. ‬النساء‭ ‬يصفقن‭ ‬ويحركن‭ ‬رؤوسهن‭. ‬وقفت‭ ‬واحدة‭ ‬وأخذت‭ ‬ترقص‭ ‬فى‭ ‬زاوية‭ ‬البراكة‭. ‬وقالت‭ ‬لها‭ ‬امرأة‭: ‬

ــ‭ ‬تقدمى‭ ‬إلى‭ ‬الوسط‭ ‬حتى‭ ‬نراك‭.‬

ــ‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أرقص‭ ‬مع‭ ‬رجل‭.‬

ــإنه‭ ‬مجرد‭ ‬أعمى،‭ ‬وفوق‭ ‬ذلك‭ ‬فهو‭ ‬عجوز‭.‬

ــ‭ ‬عيب‭ ‬أن‭ ‬تراقص‭ ‬امرأة‭ ‬رجلا‭.‬

ــ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عندكن‭ ‬عيب،‭ ‬نحن‭ ‬فى‭ ‬الدوار‭ ‬نراقص‭ ‬الرجال‭.‬

ــ‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فى‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنك‭ ‬منصورية،‭ ‬المنصورية‭ ‬لا‭ ‬تخجل‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬أولادها‭.‬

وقفت‭ ‬المنصورية‭ ‬وتخطت‭ ‬بعض‭ ‬الأفخاذ‭ ‬والأقدام‭ ‬والرؤوس،‭ ‬أصبحت‭ ‬قبالة‭ ‬الأعمى‭ ‬فى‭ ‬الوسعة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬مدت‭ ‬ذراعيها‭ ‬فى‭ ‬الفضاء،‭ ‬وأخذت‭ ‬تدك‭ ‬الأرض‭ ‬بقدميها‭. ‬زغردت‭ ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬مشجعات‭ ‬لها‭. ‬ارتفع‭ ‬صوت‭ ‬الأعمى‭ ‬وازدادت‭ ‬ضربات‭ ‬أنامله‭ ‬على‭ ‬التعريجة‭ ‬قوة‭. ‬كانت‭ ‬التعريجة‭ ‬تحت‭ ‬إبطه‭ ‬تكاد‭ ‬تختفى‭ ‬وراء‭ ‬ثوب‭ ‬قشابته،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يسمع‭ ‬له‭ ‬صوت‭ ‬حاد‭. ‬الأعمى‭ ‬صاحب‭ ‬الكمنجة‭ ‬يساعده‭ ‬بترديده‭ ‬لازمة‭ ‬أغنية‭ ‬عن‭ ‬الحصاد‭ ‬والحب‭ ‬والمرأة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬به‭ ‬لأنه‭ ‬مجرد‭ ‬خماس‭. ‬شعرت‭ ‬نوارة‭ ‬بالبول‭ ‬الساخن‭ ‬يتسرب‭ ‬إلى‭ ‬جسدها‭. ‬اعتبرت‭ ‬ذلك‭ ‬طبيعيا‭ ‬فتحملته،‭ ‬أخذت‭ ‬تحرك‭ ‬هى‭ ‬الأخرى‭ ‬جسدها‭ ‬الواهن‭. ‬لاحظت‭ ‬ذلك‭ ‬امرأة‭ ‬فقالت‭ ‬لها‭: ‬

ــ‭ ‬لا‭ ‬تحاولى‭ ‬أن‭ ‬ترقصي،‭ ‬الحرارة‭ ‬شديدة‭. ‬سوف‭ ‬تفسدين‭ ‬الوالدة‭ ‬إذا‭ ‬فعلت‭. ‬زوجك‭ ‬ينتظر‭ ‬منك‭ ‬أولادا‭ ‬آخرين‭. ‬تعالى‭ ‬اجلسي‭.‬

جلست‭ ‬نوارة‭ ‬عند‭ ‬الباب،‭ ‬واستمرت‭ ‬المنصورية‭ ‬فى‭ ‬الرقص،‭ ‬والأعمى‭ ‬ينحنى‭ ‬عند‭ ‬عجيزتها‭ ‬وقد‭ ‬أصابه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحال،‭ ‬يضرب‭ ‬بعنف‭ ‬على‭ ‬التعريجة‭ ‬وصوته‭ ‬المبحوح‭ ‬يخترق‭ ‬أخشاب‭ ‬البراكة‭. ‬نهضت‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬وأخذت‭ ‬ترقص‭ ‬وقد‭ ‬نزعت‭ ‬عن‭ ‬شعرها‭ ‬الأكرت‭ ‬منديلها‭ ‬المزوق،‭ ‬ألقت‭ ‬المنديل‭ ‬فى‭ ‬حجر‭ ‬إحدى‭ ‬النساء،‭ ‬ظلت‭ ‬ترقص‭ ‬فى‭ ‬مكانها‭. ‬وقف‭ ‬أعمى‭ ‬آخر‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬نظارتين،‭ ‬وتوجه‭ ‬نحو‭ ‬الوسعة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وسط‭ ‬البراكة‭. ‬داس‭ ‬المكان‭ ‬كالتيس،‭ ‬أخذ‭ ‬يرقص‭ ‬مع‭ ‬المنصورية‭ ‬والأعمى‭ ‬صاحب‭ ‬التعريجة،‭ ‬ويردد‭ ‬لازمة‭ ‬الأغنية،‭ ‬لكن‭ ‬صوته‭ ‬كان‭ ‬شبيها‭ ‬بالعواء‭. ‬نفس‭ ‬اللازمة‭ ‬كانت‭ ‬تردد‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أفواه‭ ‬أخرى،‭ ‬أفواه‭ ‬نساء‭ ‬يبصرن‭ ‬ورجال‭ ‬لا‭ ‬يبصرون‭.‬

وقالت‭ ‬امرأة‭ ‬توجد‭ ‬قرب‭ ‬الباب‭ ‬لنوارة‭: ‬

ــ‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬زوجك‭ ‬سيشرب‭ ‬زجاجتين‭ ‬من‭ ‬النبيذ‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭.‬

ــ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يشرب،‭ ‬ولكنه‭ ‬عوَّضه‭ ‬بالكيف‭. ‬الكيف‭ ‬أرخص‭ ‬يا‭ ‬أختي‭.‬

ــ‭ ‬آهاه‭! ‬مثل‭ ‬زوجي‭! ‬لكن‭ ‬الكيف‭ ‬يجعل‭ ‬الرجال‭ ‬كسلاء‭ ‬ويفقدون‭ ‬فحولتهم‭.‬

ــ‭ ‬طبعا،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تستحلب‭ ‬الثور‭. ‬أقصد‭ ‬إذا‭ ‬أنهكت‭. ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فلا‭ ‬أزال‭ ‬صغيرة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬استحلاب‭ ‬ثور‭ ‬عمره‭ ‬ثمانون‭ ‬سنة‭.‬

ــ‭ ‬هنيئا‭ ‬لك‭ ‬يا‭ ‬أختي‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬سى‭ ‬أحمد‭ ‬يبدو‭ ‬رجلاً‭ ‬فحلاً‭. ‬وهذا‭ ‬العزرى‭ ‬الذى‭ ‬فى‭ ‬أحضانك‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬سوف‭ ‬يشبهه‭.‬

ــ‭ ‬الله‭ ‬وحده‭ ‬يعلم‭ ‬بذلك‭.‬

أخذت‭ ‬تهدهد‭ ‬الصبي،‭ ‬وتنظر‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬المغطى‭ ‬بخرق،‭ ‬ثم‭ ‬قبلت‭ ‬الخرقة‭ ‬الملفوفة‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬وهى‭ ‬تقول‭: ‬

ــ‭ ‬الفحل‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬يعرف‭ ‬القراءة‭. ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬حتى‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬شهادات‭.‬

ــ‭ ‬معك‭ ‬حق‭. ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يطردوه‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭. ‬لقد‭ ‬طردوا‭ ‬كل‭ ‬أبنائي‭.‬

ــ‭ ‬شكيكو‭! (‬وضربت‭ ‬عند‭ ‬خشب‭ ‬البراكة‭ ‬وتفلت‭ ‬فى‭ ‬التراب‭). ‬

قالت‭ ‬المرأة‭: ‬

ــ‭ ‬ألف‭ ‬شكيكو‭ ‬وشكيكو‭. ‬لكنها‭ ‬الحكومة‭!‬

لم‭ ‬تسمعها‭ ‬نوارة،‭ ‬لأن‭ ‬الزغاريد‭ ‬كانت‭ ‬تشق‭ ‬الفضاء،‭ ‬والأصوات‭ ‬تتعالى‭ ‬وتتحدث‭ ‬أو‭ ‬تتغنى‭! ‬وشعرت‭ ‬أنها‭ ‬حققت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬لقد‭ ‬أغلقت‭ ‬الأفواه‭. ‬ينقص‭ ‬شيء‭: ‬المشوى‭ ‬والضلعة‭! ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الدهر‭ ‬طويلا‭ ‬عريضا‭. ‬وفى‭ ‬المرة‭ ‬القادمة‭ ‬سوف‭ ‬يستمر‭ ‬السابع‭ ‬سبعة‭ ‬أيام‭ ‬وسبع‭ ‬ليال‭ ‬بكاملها‭.‬

قال‭ ‬أحمد‭ ‬لنوارة‭:‬

لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الزوجة‭ ‬الأولى‭ ‬عاقراً‭ ‬لما‭ ‬طلقتها‭. ‬أنت‭ ‬سوف‭ ‬تلدين‭ ‬الأطفال‭ ‬وسوف‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬ما‭ ‬تريدين‭.‬

‭- ‬ألا‭ ‬تحبنى؟‭ ‬لقد‭ ‬تزوجتنى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنجاب‭ ‬فقط‭.‬

‭- ‬أبداً‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬هذا‭. ‬ولكن‭ ‬أبغيك‭ ‬كثيراً‭.‬

‭- ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬متعلمة‭ ‬لتزوجت‭ ‬شاباً‭ ‬موظفاً‭ ‬مع‭ ‬الحكومة‭.‬

‭- ‬لو‭ ‬تزوجته‭ ‬لقتلك‭ ‬جوعاً‭. ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬الحزقة‭ ‬إلا‭ ‬ربع‭ ‬التى‭ ‬يتقاضونها‭ ‬ينفقونها‭ ‬على‭ ‬ربطات‭ ‬العنق‭: ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تطلبينه‭ ‬ألبيه‭ ‬لك‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تطلبه‭ ‬نوارة‭ ‬يلبيه‭ ‬لها‭ ‬أحمد‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬جلب‭ ‬جوق‭ ‬امن‭ ‬العمى‭. ‬إن‭ ‬ظروفه‭ ‬المادية‭ ‬صعبة‭ ‬هذه‭ ‬الايام‭ ‬فالحكومة‭ ‬أحكمت‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬المهربين‭ ‬ولكن‭ ‬أحمد‭ ‬رجل‭ ‬عفريت‭ ‬ينزع‭ ‬اللقمة‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬الكلب‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يعجبنى‭ ‬فيه‭ ‬وليس‭ ‬مثل‭ ‬أولئك‭ ‬العذارى‭ ‬الذين‭ ‬يمشطون‭ ‬شعورهم‭ ‬ويقفون‭ ‬فى‭ ‬رأس‭ ‬الدرب‭ ‬طول‭ ‬النهار‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬ويحلمون‭ ‬بجواز‭ ‬سفر،‭ ‬وفيهم‭ ‬واحد‭ ‬مفلس‭ ‬والعياذ‭ ‬بالله،‭ ‬قيل‭ ‬إنه‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬الاوروبيين‭ ‬الذكور،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬جميل‭ ‬ويمكن‭ ‬لأى‭ ‬فتاة‭ ‬أن‭ ‬تهيم‭ ‬حباً‭ ‬به‭.‬

هدهدت‭ ‬الطفل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أغفى‭ ‬ثم‭ ‬استيقظ‭ ‬وبدأ‭ ‬يئن‭ ‬أنيناً‭ ‬خافتاً‭ ‬مختنقاً‭. ‬وقالت‭ ‬امرأة‭:‬

‭- ‬ادخلى‭ ‬يانوراة‭. ‬هذا‭ ‬عيدك،‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬عند‭ ‬الباب‭.‬

وأجابتها‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭:‬

‭- ‬دعيها‭ ‬تشم‭ ‬هواء‭ ‬هى‭ ‬وطفلها‭. ‬لا‭ ‬تدخلى‭ ‬يا‭ ‬نوارة،‭ ‬فالحرارة‭ ‬شديدة‭ ‬والجو‭ ‬مختنق‭ ‬والمولود‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬ذلك‭.‬

وقالت‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬جالسة‭ ‬بالقارب‭ ‬منها‭ ‬بصمت‭ ‬خافت‭:‬

‭- ‬ألا‭ ‬ترين‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬يملأ‭ ‬لهم‭ ‬شقفاً‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬مهمته‭ ‬هى‭ ‬تلك‭ ‬فقط‭.‬

توقف‭ ‬العزف‭ ‬ووزعت‭ ‬كؤوس‭ ‬الشاى‭ ‬وقطع‭ ‬الكعك‭ ‬وبعض‭ ‬لوزات‭ ‬لم‭ ‬تكف‭ ‬كل‭ ‬النساء‭ ‬وخرجت‭ ‬بعضهن‭ ‬ليشممن‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬وليغتبن‭ ‬بعضهن‭ ‬البعض‭.‬

وقالت‭ ‬رحمة‭ ‬لمنانة‭:‬

‭- ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقيم‭ ‬سابعاً‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭. ‬هى‭ ‬تزوجت‭ ‬رجلاً‭ ‬ونحن‭ ‬تزوجنا‭ ‬بغلين‭ ‬لا‭ ‬يستطيعان‭ ‬أن‭ ‬يعيلا‭ ‬حتى‭ ‬أنفسهما‭.‬

‭- ‬انك‭ ‬لست‭ ‬جميلة‭ ‬مثلها‭.‬

‭- ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬جميلة‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬فى‭ ‬سنها‭.‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬الهيش‭ ‬أنهك‭ ‬جسدى‭. ‬كان‭ ‬سيتزوجنى‭ ‬ولد‭ ‬الإسبانية‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬أشتغل‭ ‬عندها‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭.‬

‭- ‬تتزوجين‭ ‬رجلاً‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬ملتك‭ ‬ولا‭ ‬دينك؟

‭- ‬اللهم‭ ‬كافر‭ ‬بالله‭ ‬ولا‭ ‬كافر‭ ‬بالقلب‭.‬

‭- ‬حرام‭ ‬أن‭ ‬تقولى‭ ‬هذا‭ ‬الكلام،‭ ‬أنت‭ ‬أم‭ ‬أولاد‭ .‬

‭- ‬كلهم‭ ‬يشبهون‭ ‬أباهم‭. ‬لا‭ ‬فائدة‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭.‬

أخذت‭ ‬منانة‭ ‬تحك‭ ‬جنبها‭ ‬الأيسر‭ ‬بعمود‭ ‬كان‭ ‬مركوزاً‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭ ‬يسند‭ ‬البراكة‭ ‬وتثاءبت‭. ‬ظهرت‭ ‬اللهاة‭ ‬واللسان‭ ‬وبعض‭ ‬الأسنان‭ ‬المسوسة‭. ‬أطرقت‭ ‬ونظرت‭ ‬فى‭ ‬التراب‭ ‬عند‭ ‬قدميها‭. ‬رفعت‭ ‬يديها‭ ‬وجذبت‭ ‬المنديل‭ ‬فوق‭ ‬جبهتها‭. ‬بدت‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تفكر‭ ‬فى‭ ‬شىء‭ ‬مهم‭ ‬سوف‭ ‬تقوله‭ ‬لرحمة‭. ‬لكن‭ ‬رحمة‭ ‬ابتعدت‭ ‬عنها‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬نوارة‭ ‬التى‭ ‬غادرت‭ ‬مكانها‭ ‬عند‭ ‬الباب‭. ‬وشوشت‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬أذنها،‭ ‬وعادت‭ ‬قرب‭ ‬منانة‭ ‬كان‭ ‬العمود‭ ‬الخشبى‭ ‬يصدر‭ ‬طقطقات‭ ‬خفيفة‭. ‬سمعت‭ ‬ذلك‭ ‬رحمة‭ ‬وقالت‭:‬

‭- ‬لا‭ ‬تحكى‭ ‬جسدك‭ ‬به‭ ‬أكثر‭. ‬سوف‭ ‬يتكسر‭ ‬هذا‭ ‬العمود‭ ‬وسوف‭ ‬تسقط‭ ‬البراكة‭ ‬على‭ ‬أولئك‭ ‬العجائز‭ ‬وأولئك‭ ‬العمى‭.‬

‭-‬ياه؟‭ ‬إنه‭ ‬عمود‭ ‬لا‭ ‬يسند‭ ‬حتى‭ ‬نفسه‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنها‭ ‬تستعمله‭ ‬لنشر‭ ‬غسيلها‭.‬

‭- ‬كأن‭ ‬الأسلاك‭ ‬فقدت‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭. ‬فلتربط‭ ‬سلكاً‭ ‬أو‭ ‬حبلاً‭ ‬وسط‭ ‬الفناء‭.‬

‭- ‬هى‭ ‬ليست‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭. ‬سمعت‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬يأخذ‭ ‬ثيابه‭ ‬إلى‭ ‬الكواء‭.‬

‭- ‬يافرحتها‭! ‬كان‭ ‬لى‭ ‬زوج‭ ‬مثلها،‭ ‬إن‭ ‬أحمد‭ ‬مثل‭ ‬الأوروبيين‭.‬

‭- ‬إنه‭ ‬يعيش‭ ‬معهم‭. ‬السلع‭ ‬التى‭ ‬يهربها‭ ‬يشتريها‭ ‬من‭ ‬اوروبيين‭.‬

ويرتاد‭ ‬البارات‭ ‬ليشرب‭ ‬فيها‭ ‬ليس‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬المزاليط‭ ‬الذين‭ ‬يقتتلون‭ ‬على‭ ‬زجاجة‭ ‬نبيذ‭ ‬فى‭ ‬التراب‭. ‬لقد‭ ‬كبر‭ ‬بين‭ ‬الاوروبيين‭ ‬فى‭ ‬السوق‭ ‬المركزى‭. ‬كان‭ ‬يساعدهم‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬السلال‭ ‬والقفاف‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬صغيراً‭ ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬لغاتهم‭.‬

‭- ‬رجل‭ ‬وأى‭ ‬رجل؟‭!‬

‭- ‬زوجته‭ ‬الأولى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تستحقه‭.‬

‭- ‬صحيح‭. ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬شارفة‭ ‬كانت‭ ‬تشرب‭ ‬زجاجتى‭ ‬نبيذ‭ ‬فى‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬تمنع‭ ‬ذلك‭ ‬الشىء‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬كلب‭.‬

‭-‬تفو‭!‬

كان‭ ‬اللغط‭ ‬يرتفع‭ ‬والضحكات‭ ‬والشكاوى‭ ‬فى‭ ‬البراكة‭ ‬وخارجها‭. ‬امرأة‭ ‬واحدة‭ ‬كانت‭ ‬منكمشة‭ ‬فى‭ ‬زاوية،‭ ‬لأنها‭ ‬مشلولة‭ ‬الساقين‭. ‬تتأمل‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬ولا‭ ‬تتحدث‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭. ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مشلولة‭ ‬الساقين‭ ‬لكانت‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬تدير‭ ‬كؤوس‭ ‬الشاى‭ ‬وتوزع‭ ‬الكعك‭ ‬والكلام‭. ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أولاد‭ ‬ولا‭ ‬بنات‭ ‬سوى‭ ‬نوارة‭.‬

حتى‭ ‬زوجها‭ ‬توفى‭ ‬من‭ ‬زمان‭ ‬عندما‭ ‬سقطت‭ ‬عليه‭ ‬بالة‭ ‬كتان‭ ‬فى‭ ‬الميناء‭.‬

كانت‭ ‬نوارة‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬أمها‭ ‬بإشفاق‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬نهارها‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬ترقص‭ ‬فيه‭ ‬وأن‭ ‬ترش‭ ‬النساء‭ ‬بالعطر‭ ‬وتطوف‭ ‬عليهن‭ ‬بالمجمر‭ ‬الذى‭ ‬يفوح‭ ‬بخوراً‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬بدت‭ ‬لنوارة‭ ‬أنها‭ ‬سعيدة‭ ‬يظهر‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬أعماق‭ ‬عينيها‭ ‬العمشاوين‭ ‬اللتين‭ ‬يقترب‭ ‬الذباب‭ ‬منهما‭ ‬ثم‭ ‬يتراجع‭ ‬لأن‭ ‬كفيها‭ ‬تتحركان‭ ‬باستمرار‭ ‬كمروحتين‭ ‬كهربائيتين‭. ‬كانت‭ ‬الكفان‭ ‬تطردان‭ ‬الذباب‭ ‬وفى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تخفقان‭ ‬من‭ ‬الحرارة‭.‬

اقتربت‭ ‬خدوج‭ ‬من‭ ‬نوارة‭ ‬وفى‭ ‬يدها‭ ‬كأس‭ ‬شاى‭:‬

‭- ‬اشربى‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الشاى‭ ‬أراك‭ ‬تنظرين‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكونى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنك‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬راحة‭ ‬هذا‭ ‬سابع‭ ‬ابنك‭. ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تتحملى‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬اليوم‭. ‬سى‭ ‬أحمد‭ ‬سوف‭ ‬ينمو‭ ‬له‭ ‬جناحان‭ ‬وسوف‭ ‬يطير‭ ‬اليوم‭ ‬فرحاً‭.‬

‭- ‬والله‭ ‬يا‭ ‬أختى‭ ‬ما‭ ‬عندى‭ ‬نفس‭ ‬لأى‭ ‬شىء‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬دمت‭ ‬قد‭ ‬أتعبت‭ ‬نفسك‭ ‬وجئتنى‭ ‬بالشاى‭ ‬فسوف‭ ‬أشربه‭ ‬إرضاء‭ ‬لخاطرك‭.‬

‭- ‬لا‭ ‬ترغمى‭ ‬نفسك‭ ‬على‭ ‬شىء‭ ‬لا‭ ‬تريدينه‭.‬

‭- ‬هذا‭ ‬يوم‭ ‬أشرب‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬السم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ابني‭.‬

‭- ‬سوف‭ ‬يرزقك‭ ‬الله‭ ‬أبناء‭ ‬آخرين‭. ‬أنت‭ ‬صغيرة‭ ‬وشابة‭ ‬وقوية‭ - ‬تبارك‭ ‬الله‭ - ‬مثل‭ ‬عجلة‭.‬

رشفت‭ ‬الشاي‭. ‬وأخذت‭ ‬تتأمل‭ ‬جسدها‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬إلى‭ ‬تحت،‭ ‬حتى‭ ‬تتأكد‭ ‬أنها‭ ‬بالفعل‭ ‬قوية‭ ‬مثل‭ ‬عجلة‭. ‬لطالما‭ ‬قالت‭ ‬أمها‭ ‬إن‭ ‬عينيك‭ ‬جميلتان‭ ‬مثل‭ ‬عينى‭ ‬جحشة‭. ‬المهم‭ ‬أنها‭ ‬فى‭ ‬قوة‭ ‬عجلة‭ ‬وجمال‭ ‬جحشة‭. ‬وسى‭ ‬أحمد‭ ‬يقول‭ ‬لها‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬خاصة‭: ‬‮«‬يامو‭ ‬بزازل‭! ‬يا‭ ‬بزازل‭ ‬البقرة‭!‬‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬قوية‭ ‬وجميلة‭ ‬وأم‭ ‬بزازل‭ ‬وكل‭ ‬شىء‭ ‬آخر‭. ‬وهذا‭ ‬معناه‭ ‬أن‭ ‬الولادة‭ ‬لم‭ ‬تؤثر‭ ‬عليها‭ ‬ولا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تؤثر‭ ‬عليها‭ ‬عندما‭ ‬ستضع‭ ‬دزينة‭ ‬من‭ ‬الأولاد‭ ‬والبنات‭.‬

كانت‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬ثديها‭ ‬العارى‭ ‬الذى‭ ‬تخرجه‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تلقمه‭ ‬للصبى‭ ‬عبثا‭. ‬رأس‭ ‬الثدى‭ ‬مدبب‭ ‬وأسود‭. ‬وحوله‭ ‬شعرة‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الشقرة‭. ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬تسمع‭ ‬صوتا‭ ‬آتيا‭ ‬من‭ ‬بعيد‭: ‬‮«‬الله‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬مو‭ ‬بزازل‭!‬‮»‬‭. ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬البزولة‭ ‬مرة‭ ‬أخري،‭ ‬ثم‭ ‬أخفتها‭ ‬والتقطت‭ ‬كأس‭ ‬الشاى‭ ‬الذى‭ ‬طارت‭ ‬من‭ ‬حافته‭ ‬ذبابة‭ ‬غليظة‭ ‬ذات‭ ‬ألوان‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬اللون‭ ‬الأزرق‭ ‬الصدفي‭. ‬وقالت‭ ‬والدتها‭:‬

‭- ‬لقد‭ ‬زوجتك‭ ‬لأحسن‭ ‬الرجال،‭ ‬كل‭ ‬النساء‭ ‬يتمنينه‭ ‬لأنفسهن‭. ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬عيب‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬تزوج،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الزواج‭ ‬السابق‭ ‬لا‭ ‬يعيب‭ ‬الرجل،‭ ‬ولكنه‭ ‬يعيب‭ ‬المرأة‭. ‬لو‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬امرأة‭ ‬ربح‭ ‬لما‭ ‬طلقها‭ ‬زوجها‭. ‬وكل‭ ‬الناس‭ ‬ينصحون‭ ‬أبناءهم‭ ‬بعد‭ ‬التزوج‭ ‬بالهجالة‭. ‬سى‭ ‬أحمد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬تزوج،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬رجل‭.‬

‭- ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬رجل‭ ‬حقيقي‭. ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬أحبه‭.‬

‭- ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحبيه‭ ‬لأنه‭ ‬زوجك،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أتمناه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬ذريتك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أموت‭.‬

قالت‭ ‬ذلك‭ ‬وضربت‭ ‬على‭ ‬فخذيها‭ ‬المشلولين،‭ ‬ثم‭ ‬زحفت‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬يديها‭ ‬نحو‭ ‬ركنة‭ ‬ظليلة‭ ‬وكان‭ ‬أحمد‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مباشرة‭. ‬تأمل‭ ‬نوارة‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يقبلها‭ ‬فى‭ ‬جبينها‭ ‬لكنه‭ ‬سمع‭ ‬حركة‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬التفت‭ ‬ليجد‭ ‬والدتها‭ ‬فى‭ ‬الركنة‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭. ‬ذهب‭ ‬إليها‭ ‬وأخرج‭ ‬من‭ ‬جرابه‭ ‬منديلاً‭ ‬وشربيلاً‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬لها‭ ‬الشربيل‭ ‬لكنه‭ ‬تذكر‭ ‬أنها‭ ‬مشلولة‭. ‬قدم‭ ‬لها‭ ‬المنديل‭ ‬وهو‭ ‬ينحنى‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬الذى‭ ‬خطه‭ ‬شيب‭ ‬خفيف‭ ‬وقالت‭ ‬والدتها‭ ‬لأحمد‭:‬

‭- ‬سوف‭ ‬تلدان‭ ‬خير‭ ‬الأولاد‭ ‬وخير‭ ‬البنات‭.‬

تراجع‭ ‬أحمد‭ ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬شيئاً‭ ‬فتح‭ ‬ليمونادة‭ ‬كانت‭ ‬تنتظره‭ ‬فى‭ ‬سطل‭ ‬ماء‭ ‬شربها‭ ‬بسرعة‭ ‬وغادر‭ ‬البراكة‭. ‬قبل‭ ‬سبعة‭ ‬أيام‭ ‬تحققت‭ ‬أمنية‭ ‬والدة‭ ‬نوارة‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬الآن‭.. ‬لأنها‭ ‬رأت‭ ‬بعينيها‭ ‬العمشاوين‭ ‬حفيدها‭. ‬تلك‭ ‬أمنية‭ ‬كل‭ ‬عجوز‭ ‬فى‭ ‬سنها‭.‬

كانت‭ ‬الآن‭ ‬تنشأ‭ ‬فى‭ ‬هدوء‭ ‬وبلادة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭ ‬حولها‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬تزيح‭ ‬أهداب‭ ‬المنديل‭ ‬عن‭ ‬عينيها‭ ‬فانفتحتا‭ ‬بتثاقل‭ ‬كأن‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬الغبار‭ ‬كانت‭ ‬تحجب‭ ‬عنها‭ ‬الرؤية‭ ‬صرخت‭ ‬بصوت‭ ‬واهٍ‭ ‬جدا‭:‬

‭- ‬نوارة‭!‬

لكن‭ ‬صرختها‭ ‬ذهبت‭ ‬هباء‭ ‬أعادت‭ ‬الكرة‭ ‬أخرى‭ ‬وأخرى‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬وعندما‭ ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬نوارة‭ ‬بعيدة‭ ‬منها‭ ‬التفتت‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬امرأة‭ ‬إليها‭:‬

‭- ‬يابنتى‭ ‬أين‭ ‬نوارة؟

قالت‭ ‬المرأة‭:‬

‭- ‬إنها‭ ‬عند‭ ‬الباب‭.. ‬لقد‭ ‬أخرجت‭ ‬الصبى‭ ‬حتى‭ ‬يشم‭ ‬هواء‭ ‬فالجو‭ ‬خانق‭ ‬هنا‭.‬

‭- ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تنادى‭ ‬عليها‭. ‬قولى‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬أمك‭ - ‬حاشاك‭ - ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تبول‭.‬

وقفت‭ ‬المرأة‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬نوارة‭ ‬وقالت‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭. ‬قالت‭ ‬نوارة‭ ‬بصوت‭ ‬لم‭ ‬تسمعه‭ ‬المرأة‭ ‬وهى‭ ‬تتحمل‭ ‬على‭ ‬نفسها‭:‬

‭- ‬لا‭ ‬أدرى‭ ‬هل‭ ‬أبول‭ ‬الكبير‭ ‬أم‭ ‬الصغير؟

التحقت‭ ‬بوالدتها‭ ‬وقالت‭ ‬لها‭:‬

‭- ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تزحفى‭ ‬وتفعلى‭ ‬ذلك‭ ‬خلف‭ ‬البراكة‭.‬

‭- ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭. ‬

‭- ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭. ‬ثم‭ ‬هل‭ ‬تخجلين‭ ‬من‭ ‬النساء؟

زحفت‭ ‬العجوز‭. ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬بها‭ ‬أحد‭ ‬كانت‭ ‬تدب‭ ‬وكن‭ ‬يخلين‭ ‬لها‭ ‬ممراً‭ ‬دون‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬يهتممن‭ ‬بها‭ ‬وهن‭ ‬مستمرات‭ ‬فى‭ ‬لغطهن‭. ‬اختفت‭ ‬وراء‭ ‬البراكة‭ ‬مثل‭ ‬سلحفاة‭ ‬فى‭ ‬برمرامة‭ ‬خضراء‭ ‬كثيفة‭ ‬ملتصقة‭ ‬بالتراب‭ ‬وشكلت‭ ‬غصيناتها‭ ‬عريشة‭ ‬صغيرة‭.. ‬فعلت‭ ‬ذلك‭. ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬الشىء‭ ‬الآخر‭. ‬لكنها‭ ‬عدلت‭ ‬عندما‭ ‬استعصى‭ ‬ذلك‭ ‬الشىء‭ ‬وعادت‭ ‬تزحف‭. ‬توقفت‭ ‬وأخذت‭ ‬ترقب‭ ‬كل‭ ‬شى‭ ‬ءمن‭ ‬حولها‭ ‬فى‭ ‬بلاهة‭.‬

شعرت‭ ‬بالتراب‭ ‬حاراً‭ ‬تحت‭ ‬نصفها‭ ‬الأسفل‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تتجنب‭ ‬حرارته‭ ‬بجذب‭ ‬تكة‭ ‬سروالها‭. ‬أحدث‭ ‬خيط‭ ‬المطاط‭ ‬فرقعة‭ ‬مع‭ ‬لحمها‭ ‬عند‭ ‬البطن‭.‬

سمعت‭ ‬فى‭ ‬الداخل‭ ‬نقرات‭ ‬على‭ ‬التعريجة‭ ‬رافقها‭ ‬صوت‭ ‬كمنجة‭ ‬مبحوح‭ ‬إنها‭ ‬بداية‭ ‬أغنية‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تبدأ‭ ‬هكذا‭ ‬عشوائية‭ ‬حتى‭ ‬يهتدى‭ ‬المغنى‭ ‬الأعمى‭ ‬للاغنية‭ ‬التى‭ ‬سوف‭ ‬يختار،‭ ‬توقف‭ ‬النقر‭ ‬على‭ ‬التعريجة‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬استمر‭ ‬صوت‭ ‬الكمنجة‭ ‬يتصاعد‭ ‬ثم‭ ‬يخفت‭ ‬ثم‭ ‬يتوقف‭ ‬ليعاود‭ ‬الأعمى‭ ‬الكرة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

أخذت‭ ‬نوارة‭ ‬تتحرك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اتجاه‭ ‬فى‭ ‬بطء‭ ‬طبعاً‭ ‬تتحدث‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬وتستمتع‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭. ‬زحفت‭ ‬أمها‭ ‬باتجاه‭ ‬النساء‭. ‬كانت‭ ‬تدب‭.‬

أفسحن‭ ‬لها‭ ‬ممراً‭ ‬المرة‭ ‬السابقة‭ ‬حاولت‭ ‬منانة‭ ‬أن‭ ‬تتحرك‭ ‬لتخلى‭ ‬لها‭ ‬الطريق‭ ‬باتجاه‭ ‬الركنة‭. ‬لكن‭ ‬صرخة‭ ‬قوية‭ ‬ندت‭ ‬عن‭ ‬العجوز،‭ ‬صرخة‭ ‬قوية‭ ‬جعلت‭ ‬النساء‭ ‬يقفن‭ ‬ويتزاحمن‭ ‬ويتناطحن،‭ ‬توقف‭ ‬عزف‭ ‬العمى،‭ ‬لقد‭ ‬انقلب‭ ‬مقراج‭ ‬الماء‭ ‬الساخن‭ ‬على‭ ‬والدة‭ ‬نوارة‭. ‬أخذت‭ ‬تصرخ‭:‬

‮«‬بطنى،‭ ‬حجرى،‭ ‬أفخاذى،‭ ‬نارى‮»‬‭ ‬انكفأت‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬جررنها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬بعضهن‭ ‬كن‭ ‬يخبطن‭ ‬على‭ ‬أفخاذهن‭ ‬وأحناكهن‭.‬

وقالت‭ ‬امرأة‭:‬

‭- ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬طفل‭ ‬مشئوم‭ ‬

ردت‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭:‬

‭- ‬يا‭ ‬أختى‭ ‬لا‭ ‬تتحدثى‭ ‬عن‭ ‬صبى‭ ‬برىء‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭.‬

‭- ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬فقط‭.‬

قالت‭ ‬نوارة‭:‬

‭- ‬آه‭ ‬يا‭ ‬أمى‭  ‬ما‭ ‬عندى‭ ‬سواك‭!‬

لطمت‭ ‬حنكيها‭ ‬مرات‭ ‬عديدة‭. ‬تلقفت‭ ‬امرأة‭ ‬الصبى‭ ‬من‭ ‬يدها‭. ‬هرعت‭ ‬إلى‭ ‬أمها‭ ‬تخلصها‭ ‬من‭ ‬أيدى‭ ‬النساء‭ ‬الأخريات‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬لحمها‭ ‬تهرأ‭ ‬الآن‭. ‬كفت‭ ‬العجوز‭ ‬عن‭ ‬الصراخ‭ ‬وأخذت‭ ‬تئن‭ ‬أنيناً‭ ‬خافتاً‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تحتضر‭.‬

وقالت‭ ‬امرأة‭:‬

‭- ‬نأخذها‭ ‬عند‭ ‬المسعودى‭: ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تموت‭ ‬هذه‭ ‬الشارفة‭.‬

سمعتها‭ ‬نوارة‭:‬

‭- ‬الشارفة‭ ‬هى‭ ‬أنت‭.‬

لم‭ ‬ترد‭ ‬المرأة‭ ‬لكنها‭ ‬انسحبت‭ ‬بالفعل‭ ‬تطوعت‭ ‬امرأة‭ ‬سمينة،‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬تحملها‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬لكن‭ ‬العجوز‭ ‬أخذت‭ ‬تصرخ‭.‬

تركتها‭ ‬تهوى‭ ‬فتلقفتها‭ ‬أياد‭ ‬أخرى‭. ‬قال‭ ‬أعمى‭:‬

‭- ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المصيبة؟

‭- ‬إنها‭ ‬جدة‭ ‬الصبى‭.‬

‭- ‬لم‭ ‬تختر‭ ‬لحظة‭ ‬موتها‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬سابع‭ ‬حفيدها‭.‬

‭- ‬ماذا‭ ‬تعرف‭ ‬عن‭ ‬العجائز؟‭ ‬لا‭ ‬يخلقن‭ ‬المشاكل‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬ساعات‭ ‬الأفراح‭.‬

‭- ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬تدفع‭ ‬لنا‭ ‬ابنتها‭ ‬وننصرف‭.‬

‭- ‬هل‭ ‬نقترح‭ ‬عليها‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الطرف؟

‭- ‬وأنا‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬يهمنى؟

ذهبت‭ ‬امرأتان‭ ‬لجلب‭ ‬المسعودى‭ ‬من‭ ‬حانوته‭ ‬ليضع‭ ‬للعجوز‭ ‬أعشاباً‭ ‬أو‭ ‬يطبخ‭ ‬لها‭ ‬شيئاً‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬رهجاً‭ ‬لتكف‭ ‬عن‭ ‬أنينها‭.‬

حاولت‭ ‬نوارة‭ ‬أن‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬الجوق‭ ‬فدفعت‭ ‬لهم‭ ‬نقوداً‭ ‬وأخرجتهم‭ ‬وقالت‭ ‬امرأة‭:‬

‭- ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬سابعاً‭ ‬ولكنه‭ ‬مأتم‭.‬

سمعتها‭ ‬نوارة‭ ‬التى‭ ‬أخذت‭ ‬تشعر‭ ‬بتقلص‭ ‬فى‭ ‬معدتها‭:‬

‭- ‬حرام‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬أختى‭ ‬أن‭ ‬تقولى‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬لولا‭ ‬العين‭ ‬لما‭ ‬حصل‭ ‬ما‭ ‬حصل‭.‬

انسحبت‭ ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬وتملصن‭ ‬من‭ ‬العجوز‭ ‬لتموت‭ ‬بطريقتها،‭ ‬بقى‭ ‬بعض‭ ‬قليل‭ ‬منهن‭. ‬كانت‭ ‬التى‭ ‬تحمل‭ ‬الصبى‭ ‬فى‭ ‬يدها‭ ‬جالسة‭ ‬تحت‭ ‬الظل‭ ‬وهى‭ ‬تتأمل‭ ‬وجهه،‭ ‬عيناه‭ ‬مغمضتان‭ ‬حاولت‭ ‬مراراً‭ ‬أن‭ ‬تطرد‭ ‬الذباب‭ ‬عن‭ ‬وجهة‭ ‬كانت‭ ‬الحرارة‭ ‬شديدة‭ ‬والعجوز‭ ‬تئن‭ ‬أنينها‭ ‬الخافت‭ ‬ذاك‭. ‬وقالت‭ ‬رحمة‭:‬

‭- ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نصب‭ ‬عليها‭ ‬سطل‭ ‬ماء‭ ‬بارد‭.‬

قالت‭ ‬نوارة‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬تريدين‭ ‬قتل‭ ‬أمى؟

‭- ‬يا‭ ‬حبيتى‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬ذلك‭ ‬أريدها‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬وتربى‭ ‬الريش‭.‬

إنى‭ ‬لست‭ ‬مغايرة‭ ‬وحسودة‭.‬

أخذت‭ ‬نوارة‭ ‬تتحرك‭ ‬وتدور‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬تفعل،‭ ‬ضربت‭ ‬على‭ ‬فخديها‭. ‬عضت‭ ‬ثيابها‭ ‬بأسنانها‭. ‬انخرطت‭ ‬فى‭ ‬بكاء‭ ‬حاد‭ ‬وعويل‭. ‬ثم‭ ‬سقطت‭ ‬أرضاً‭ ‬مغمى‭ ‬عليها‭. ‬أخذت‭ ‬تتمرغ‭ ‬فى‭ ‬التراب‭.‬

هرعت‭ ‬امرأة‭ ‬إلى‭ ‬سطل‭ ‬ماء‭ ‬وصبته‭ ‬عليها‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.‬

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة