عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس


يوميات الأخبار

«عويجة» أفندى وفلسفة «الشنكل»!

الأخبار

الخميس، 29 أبريل 2021 - 06:22 م

 

فى الأربعين يتكامل الإنسان فكريا مع حنايا الكون ومعارج السماء، وليس عبثُا أن ينزل الوحى على سيدنا رسول الله وهو فى الأربعين التى هى ذروة سنام العقول

الثلاثاء:

الإبداع الحقيقى لا يتأطر بالزمان ولا يتقيد بأغلال المكان، بل يظل مؤثرًا فى مجريات الفكر سنوات طوالا، فقط إن كان إبداعًا جادًّا يحملُ روح كاتبه ورؤيته تجاه الواقع المحيط به، لا مجرد هذر فارغ وادعاء كاذب؛ وفى رواية (أرض النفاق) كان يوسف السباعى مُبدعا فى الكتابة، كما كان الفنان فؤاد المهندس مبدعًا فى التشخيص؛ ومن المَشاهد المُبدعة التى تُمثل الكوميديا السوداء دونما تكلف للبيروقراطية الوظيفية فى المصالح الحكومية، مشهد الحوار بين الفنان حسن مصطفى/ عويجة أفندي/ ورئيسه فى العمل: الفنان فؤاد المهندس/ مسعود أبو السعد، حول قضية «الشنكل» الذى مضى على تركيبه ثمانية عشر عامًا؛ الغريب أن "عويجة" أفندى يظن أنه يُدافع عن أموال الشركة، وأنه رجل دوغري، فتتفرع اللجان عن اللجان ويتضخم ملف "الشنكل" حتى يصل إلى ألف ورقة بستة آلاف توقيع وخمسمائة ساعة عمل كلفت الشركة أربعمائة جنيه لمطاردة أربعة وأربعين مليمًا، والمفارقة أن هذه المليمات لم ترجع إلى خزينة الشركة، ولا يزال "حرامى الحلة" حرا طليقا يعبث فى عقول السادة الموظفين.

"عويجة" أفندى ليس كائنا سينمائيا فقط، وإنما هو بشر من لحم ودم لا يزال موجودًا بقوة فى شركاتنا ومصالحنا الحكومية رغم المحاولات الجادة لرقمنة المكاتبات وإدخال الحاسبات إلى مكاتب الموظفين لكنها جثث هامدة لا يتم استخدامها بصورة كبيرة، لأن السيستم "واقع" فى عقل "عويجة أفندي" قبل أن يكون "واقع" فى حاسوبه!

شاهد من أهلها
الأحد:

إلحاحٌ ناغزٌ لإدراك أن فهم كلمة "الهيمنة" ضرورة ملحاحٌ فى محاولة اختراق "المخ" الإخوانى المتورم بمقولة كارل ماركس الشهيرة: "لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يُمثلهم أحد"، ولأنهم يُقابلون الحقائق بتلمظ المغايظ فقد انثالت الرسائل هامرةً من مُرجفى السوشيال ميديا عقب نشر حديثى مع العالم المصري/ هانئ محمود فهمى النقراشي، الذى كشف فيه تفاصيل كثيرة عن اغتيال والده رئيس وزراء مصر الأسبق، ولم يكفَّ هؤلاء عن مُحاولة (إرجاعى إلى الحق!)، هكذا، وإقناعى بشيئيْن: الأول، أن النقراشى باشا كان يستحق القتل لأنه كان عميلا للإنجليز، أى والله.. (رئيس وزراء مصر كان عميلا للإنجليز!)، والثاني: أن حسن البنا لم يأمر بالاغتيال ولا يعرف عنه شيئًا!

وكأننا ندور فى متاهات ماتادورية سوداء لا انقشاع لها، وكأن هؤلاء المرجفين لا يملكون عقولا تميز الخبيث من الطيِّب، وكأنهم يظنون- وكل ظنهم إثم- أن المُفاداة والتضحية والجهاد مفردات خُلقت لهم وحدهم، وكأنهم غارقون فى لُجة الوهم الكاذب بأن الخطأ لا يأتيهم عن أيمانهم ولا شمائلهم؛ والحقيقة أننى لا أرهق نفسى مع هذه "الأفئدة الهواء"، وإنما أُحيلهم إلى شهادات أقاربهم من "الدرجة الثانية" أو بعض الذين كانوا "من أهلها" وشاركوا فى خضمّ تلك الفترات السوداء كقلوب الجماعة، ومنهم الأستاذ/ خالد محمد خالد الذى كان إخوانيا (من منازلهم) بحسب تعبيره، كما كان مُعجبًا كبيرًا بحسن البنا كما تنضح بذلك كتابته عنه.. يقول فى كتابه: (قصتى مع الحياة، ط2، القاهرة، دار المقطم، أكتوبر 2002م، ص: 337- 338)، فى موطن شهادته عن اغتيال التنظيم السرى لأحمد ماهر باشا، رئيس الوزراء المصرى الأسبق: "ماذا كان موقف "الأستاذ" المرشد من هذا الاغتيال؟ وهل رضى به وباركه أم امتعض منه ورفضه؟ هذا ما لا أعرفه حتى يومنا هذا؛ عكس اغتيال النقراشى باشا، فمبلغى من العلم أنه وافق عليه، وشجَّع وبارك، لأنه اعتبر حلَّ جماعة الإخوان ومُصادرة دُورها ومُمتلكاتها حربًا لله ولرسوله ولدينه".
ورغم أن الأستاذ خالد محمد خالد كان دائم الثناء طوال حديثه عن "الشيخ" حسن البنا فإن الرجل يوضح أن موقف النقراشى باشا من حل الجماعة كان حتمًا لا وزر عنه ولا مُلتحد دونه بعدما تغوَّل التنظيم السرى وأجرى سفاحوه الدماء أنهارًا فى شوارع القاهرة، وأضحت قنابله مناجل موت للمُخالفين للجماعة أو الرافضين لوجودها؛ ثم يُبرز الأستاذ خالد شجاعة النقراشى باشا بقوله: "وعبثًا حاول أصدقاؤه صرفه عن هذا القرار فرفض، حتى إن أحدهم قال له: هل تعلم أنك بهذا القرار إنما تُوقِّع نبأ نعيك؟ فأجابه: أجل أعلم، ولكنى لا أستطيع التخلى عن مسئوليتى فأكون خائنًا لها، ولا أستطيع التخلى عن الحُكم فأكون جبانًا".

وقد كلَّفته هذه الشجاعة حياته بالفعل دفاعًا عن مبادئه ومُفاداة لوطنه وتضحية فى سبيله رغم أنف المُرجفين بغير ذلك؛ وفى خضمِّ هذا الجهل بتاريخ الوطن ومواقع النور فيه تضيع كل يوم حيوات كثيرٍ من الأبطال الحقيقيين، بينما تذوب الحقائق الزائفة فى عقول فارغة فتُخرج إلينا هوياتٍ ضحلة لا تقرأ التاريخ ولا تلتفت لكتابات الواقع التى تُحدِّث أخبارها وتكشف أسرارها.

الإبداع والوظيفة

جدلية الإبداع والوظيفة ليست وليدة هذه الأيام التى تُعكر فيها الأوضاع الاقتصادية الصعبة أمزجة الأدباء وتؤثر على منتوجهم الثقافى، وإنما تمتد جذورها إلى بدايات القرن العشرين حين انشغل عدد كبير من مبدعى نهضتنا الثقافية بوظائفهم ومعاركهم السياسية عن إخلاص وجوههم للإنتاج الأدبي، رغم كل هذه الأعمال الفريدة التى أسست للحياة الثقافية العربية كلها؛ وهو ما نراه فى هذا الكم الهائل من المقالات الصحفية التى تم تجميعها فى كتب فيما بعد، مثل: كتب الدكتور هيكل و"حديث الأربعاء" للدكتور طه حسين، ومعظم كتب الأستاذ العقاد والمازنى والرافعى وغيرهم، حيث كانت المقالة الصحفية هى المُعوَّل الأكبر والأبرز فى تلك الحقبة الباكرة من عُمر الحياة السياسية المُلتهبة وتصارع الأحزاب، إضافة إلى الرغبة فى توفير القوت الضرورى للأبناء.

ورغم غياب العديد من الدوافع السابقة فإن المُطالع للسوشيال ميديا يلحظ هذا الصراع الخفى واللكمات المتبادلة بين الرغبة العارمة فى الإبداع والوهق اللازم للسعى على المعايش ويعلم أن القتال لا يزال مُستعرًا ولم يُعلن اسم الفائز فيه بالضربة القاضية حتى الآن!الغريب أن تجد العديد من النقاد البارزين أو الشعراء المجيدين أو المترجمين الواعدين يرتكسون عن مشروعاتهم الإبداعية لصالح خناقات الفيس بوك التافهة، بالمكايدات العبثية على مناصب زائلة تارة، وبدعاوى السرقات الأدبية دون أدلة حقيقية تارة أخرى، وكل هذا يتم من حسابات مزورة وهو ما يكشف عن جُبن دخيل على شخصيتنا الناضحة بالشجاعة حتى فى لحظات الخصومة.

من وحى الأربعين
الخميس:

كان الأستاذ العقاد حصيفًا ومتفردًا حين اختار أسماء معظم دواوينه مصاقبة لمراحل عمره: (يقظة الصباح- وهج الظهيرة- أشباح الأصيل- وحى الأربعين- أعاصير مغرب- بعد الأعاصير- أشجان الليل)، إضافة إلى دواوين أخرى ذات تقاسيم مختلفة، وهو إدراك واع منه بتأثير المراحل العمرية للإنسان على منتوجه الإبداعي؛ وفى الأربعين يتكامل الإنسان فكريا مع حنايا الكون ومعارج السماء، وليس عبثُا أن ينزل الوحى على سيدنا رسول الله وهو فى الأربعين التى هى ذروة سنام العقول، ولذا يقف الإنسان فى الأربعين مع نفسه ويُسائلها ويسامرها ويُناقشها فى علاقتها بأوامر السماء وصراعات الأرض؛ كما تبرز "الأنا" رافضة الدخول فى مرحلة الضعف الثانى الذى ذكره القرآن، متعالية على فروض الزمن، ناشبة آمالها بكبرياء العناد، مُحلقة بأجنحة الوهم وصلف الغرور أنه لا شيب للرأس ولا وهن للعظم.
هذا الصراع الوجودى يتوهج فى مخيلتى منذ أن فارقنى عامى التاسع والثلاثون واقترب ذلك المحتل الغاشم زاحفًا بجيشه غير المُقدس ساحبًا عامًا آخر إلى سراديب الزمن دونما سؤال أو استئذان؛ بؤس يملك نفسى من أقطارها حينما أرى تلك الشمعة الوحيدة تتوسط تورتة تصنعها زوجتى بيديها ابتهاجًا بعام فائت، غير أننى لن أقبل الاحتفال بعمرى المهدور بعد ذلك، بل سأخرج طبيعتى المتمردة القابعة فى الجينات، نعم هى هادئة لكنها قلقة موارة، قد يبدو السطح أملس، بسيطا، ناعمًا، وادعًا، لكن صخب الموج يبدأ من القاع، من بؤرة القلب الشجي؛ وها هو ذا شيطانى الرجيم يُحرضنى على مُقاومة الزحف وإثبات عنتريتى بالعودة إلى البيت مشيًا؛ تأبطتُ كتبى وصحفى واتكأتُ على بقية من اللياقة ومن الغرور وقطعت الشوارع مشيًا حثيثًا، متنفسًا أطنانًا من عوادم أتوبيسات النقل العام وميكروباصات الترانكو منتهية الصلاحية، حاشرًا نفسى وسط كتل بشرية عند مستشفى قصر العينى وميدان الجيزة، مغازلا حصى الطريق بشوارع العمرانية، نائحًا على جسدى المنهك وملابسى المعفرة بتراب السكك، بعد ثلاث ساعات كنتُ فيها بهلوانا فى سيرك كبير لا ضابط له ولا رابط يُسمى شوارع القاهرة، خرجتُ منه بتجربة لا يقوم بها عاقل تحت مقصلة الأربعين.
 «مسكينٌ مَن يطبخ الفأسَ ويُريد مرقًا من حديده»
«ابن عروس»
إزاى أفضل أهيم
ع الخط المستقيم
من حاره لجوه حاره
ويفضل قلبى سليم؟
«فؤاد حداد»

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة