نحت لشارل إيتيان يوثق احتفال نابليون بالمولد النبوي في القاهرة
نحت لشارل إيتيان يوثق احتفال نابليون بالمولد النبوي في القاهرة


من واقع دراسة نشرتها «لوموند»

200 عام على وفاته.. لماذا كان نابليون مهووسا بشخصية النبي محمد؟

محمد عبدالفتاح

الأربعاء، 05 مايو 2021 - 05:33 م

- «وُلد بمواهب غير عادية وهو من الرجال الاستثنائيين الذين يظهرون على المسرح العالمي من وقت لآخر لتغيير حياة البشر»

 

 -«صاحب تكتيك عسكري لا يُبارى وخطيب مفوه يعرف كيف يحفز قواته، فضلا عن كونه مشرعا حكيما».

 

 

الزمان: 12 ربيع الأول عام 1213 وفقا للتقويم الهجري بالنسبة للمسلمين، الموافق 23 أغسطس 1798 ميلادية، بالنسبة للجيش الفرنسي وقائده نابليون بونابرت.

المكان: القاهرة

الحدث: المولد النبوي شريف

تلك المناسبة التي أرسى الفاطميون مبدأ الاحتفاء بها قبل ثمانية قرون من التاريخ المذكور.. مناسبة لم يكن المزاج العام في مصر، الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي آنذاك، مهيئاً لإحياء ذكراها، ولكن نابليون وجد في الأمر فرصة مناسبة ليحسن علاقته بالمصريين وأصر على تمويل الاحتفالات.

 

جامع الأزهر أُضيئ بألف مصباح، ودخله نابليون برفقة العلماء وتوسط في مجلسه بين شيخين استهلا الحفل بقراءة القرآن، بينما في الخارج يتمايل الدروايش يمينا ويسارا بأجساد نصف عارية على وقع أذكار دينية، ويحاوطهم جنود فرنسيين وفرقة موسيقية تعزف مقطوعات عسكرية. وكما كتب أحد الضباط الفرنسيين في مذكراته:" أطلقت المدفعية الفرنسية قذائفها كنوع من التحية لنبي الإسلام محمد. فيما نًصب نابليون نفسه سلطانا أعظم وحاميا لكل الأديان وأطلقوا عليه اسم علي بونابرت".

اقرأ أيضا|نقابة الأشراف تُطلق حملة للتعريف بتاريخ «مساجد آل البيت» في مصر

كان نابليون قد قام بعملية إنزال على شواطئ الإسكندرية في الأول من يوليو 1798، على رأس جيش قوامه 50 ألف جندي، وكانت تلك أول حملة عسكرية فرنسية خارج أوروبا منذ اندلاع الثورة الثورة الفرنسية (1789 حتى 1799)، كما كانت بمثابة التدشين لحقبة استعمارية جديدة.

وكان عنصر المفاجأة عامل حاسم في أن يتمكن الفرنسيون من الاستيلاء على المدينة سريعا، ومنها بدأوا الزحف جنوبا ليلتقوا بالمماليك (الذين كانوا نظريا تابعين للخلافة العثمانية) في معركة الأهرامات في 21 يوليو، وبعد انتصار كاسح لجنود نابليون لم يكن أمام من تبقى من المماليك سوى الانسحاب ناحية الصعيد، ليدخل القائد الفرنسي العاصمة المصرية في الرابع والعشرين من يوليو دخول الفاتحين ليبدأ على الفور في إنشاء مقره الرسمي.

 الجيش الفرنسي كان يسيطر على القاهرة والدلتا، ولكن لكي تدين له الهيمنة على كافة ربوع مصر كان عليه إقناع الشعب المصري أن يلحق به، وكان تاريخ 18 أغسطس 1798 واحد من المناسبات الهامة للسير في هذا الاتجاه، إذ أنه عيد فيضان النيل الذي يحتفل به المصريون  منذ القدم ووضع نابليون نفسه في القلب من تلك الاحتفالات كما فعل قادة المصريين سواء فراعنة أو سلاطين، قبل أن يحتفل معهم بالمولد النبوي في الثالث والعشرين من أغسطس.

ثم جاء يوم 22 سبتمبر وهو الذكرى السادسة لعيد الجمهورية الفرنسية، وفي تلك المناسبة صمم نابليون علماً وطنيا لمصر الفرنسية بثلاثة ألوان وفي القلب عبارة قرآنية. وهو ما يعني أن نابليون كان يريد مصر الفرنسية أن تكون أشبه بجمهورية إسلامية، فبعد بضعة أيام من الاحتفال بالمولد النبوي، كتب للشيخ المسيري، رئيس ديوان الإسكندرية: " أملي ألا أنتظر كثيرا تلك اللحظة التي يمكنني فيها إرساء نظام موحد، قائم على مبادئ القرآن، وهي المبادئ الحقيقية الوحيدة التي يمكنها أن تصنع سعادة البشر". كما كتب لشريف مكة الذي كان يسعى للتحالف معه، :" نحن أصدقاء للمسلمين ولدين النبي محمد، لدينا الرغبة في أن نفعل كل ما يمكن أن يسعدكم وما هو في مصلحة هذا الدين".

إغواء العلماء

كان نابليون يقرأ القرآن ظاهريا ويحاول إغواء العلماء والنخب الدينية في القاهرة، ويطلب منهم تفسير الآيات، وجعل من هؤلاء العلماء أعضاء في ديوانه الذي فوضه في حكم مصر، وكان يحمل على ذراعه شارة بالألوان الثلاثة التي ترمز للجمهورية، وأطلق شائعات تفيد بأنه في طريقه للتحول إلى الإسلام، ويسخر المؤرخ خوان كول من ذلك بقوله:" اليعاقبة الفرنسيون المعادين للدين والكنيسة والملكية، والذين احتفلوا في كاتدرائية باريس بعبادة العقل وإخضاع الفاتيكان، هم أنفسهم من كانوا يحتفلون بإنشاء أول جمهورية إسلامية حديثة في العالم".

وفي الوقت نفسه، كان نابليون يرغب في استيراد "عصر التنوير" الأوروبي إلى مصر، وفريق العلماء الذي كان مصاحبا لجيشه جاء بهدف دراستها، ولكن أيضا بقصد جلب الثقافة والعلوم الأوروبية لبلد النيل. وأسس المعهد الفرنسي الذي كان يفتح أبوابه للنخب الفكرية في القاهرة، وإذا كان بعض العلماء من المسلمين امتنعوا عن تصفح كتب "الفرنسيين الكفار"، من وجهة نظرهم، فإن عبد الرحمن الجبرتي، الذي أرخ لوقائع الاحتلال الفرنسي في مصر، لم يخفي افتنانه بأدوات علم الفلك وكتب التاريخ والعلوم الطبيعية التي جلبها الفرنسيون معهم. وكان نابوليون دائم الحديث مع علماء يدرسون القرآن وتاريخ الإسلام، وكانوا وفقا لمؤرخين "علماء عظماء أحبوا الرياضيات وفقه اللغة وبرعوا فيهما"، وكان هدف نابليون جعل مصر رأس جسر يمد الشرق كله بالتنوير، وأن يضاعف من مجد وثراء فرنسا وأن يقطع الطريق على تمدد للإنجليز.

ولكن هذا الحلم تحطم على واقع وجود مقاومة شرسة لأول غزوة استعمارية فرنسية لأراض مسلمة، ففي 21 أكتوبر 1798 اندلعت ثورة عارمة في شوارع القاهرة، وواجهها نابليون بقمع وحشي ولم يتردد في قصف جامع الأزهر الذي اتخذت منه عناصر المقاومة ملاذاً، وبعد 4 أيام من مواجهات دامية في شوارع العاصمة الفرنسية لم يجد المقاومون مفرا من الاستسلام بعدما فقد الجيش الفرنسي 800 من جنوده فيما قتل ما بين 5000 و6000 آلاف مصري.

الوجه القبيح

بعد هذه الثورة أظهر الجنرال الفرنسي عن وجهه القبيح للمصرين، وأقسم في رسالة بعث بها للوجهاء وعلية المجتمع:" لا يوجد قوة بشرية تستطيع مواجهتي. إن وصولي من الغرب إلى ضفاف النيل لهو نبوءة قرآنية وردت في العديد من الآيات. في يوم ما سيقتنع الجميع بذلك". وحاول نابليون غزو فلسطين وسوريا ولكن تحالف المماليك في صعيد مصر مع العثمانيين والإنجليز حال دون تحقيق تلك الطموحات. وفي 23 أغسطس 1799، غادر نابليون مصر متجها إلى فرنسا للإعداد لما يُعرف تاريخيا بـ"انقلاب 18 برومير". وهو الانقلاب الذي قام به نابليون  في 9 نوفمبر 1799، حيث أطاح بحكومة المديرين، وأوجد بدلاً عنها حكومة القناصل، وفيها أصبح نابليون القنصل الأول.

يبدو أن نابليون كان مقتنعاً بأن إسلام العلماء كان توحيدا خالصا قريبا من ربوبية فلاسفة التنوير، وكان يأمل أن بعض التصريحات المطمئنة عن إعجابه بالنبي محمد وبالقرآن، من الممكن أن تجعل رجال الدين المسلمين أن يقبلوه كمسلم أو كقائد يرتدي عباءة نبي الإسلام.

 

وفقا لدراسة تاريخية نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، فإن  نابليون كان يملك هذا التصور عن الشرق قبل حضوره إلى القاهرة، واتضح ذلك من خلال السفينة التي أقلته إلى شواطئ الإسكندرية، إذ اصطحب على متنها نسخة من القرآن مُترجم إلى الفرنسية على يد المستشرق الفرنسي كلود إيتيان سافاري (1750-1788)، الذي كتب في مقدمة ترجمته بروفايل عن النبي محمد جاء فيه:" إنه واحد من هؤلاء الرجال الاستثنائيين الذين وُلدوا بمواهب غير عادية والذين يظهرون على المسرح العالمي من وقت لآخر لتغيير حياة البشر". وبالنسبة لنابليون كان النبي محمد صاحب تكتيك عسكري لا يُبارى وخطيب مفوه يعرف كيف يحفز قواته، فضلا عن كونه مشرعا حكيما.

عقلانية ومساواة

الكثير من الإنجليز في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانوا قد صوروا نبي الإسلام بالفعل على أنه مصلح ديني يسعى لإرساء توحيد نقي وعقلاني يؤسس لمجتمع جمهوري قائم على المساواة. وكان أحد أهم المتبنين لتلك الرؤية المؤرخ الفرنسي هنري دي بولانفلييه وذلك من خلال كتابه "حياة محمد" والذي نُشر بعد وفاته عام (1730) والذي نُشر بعد وفاته عام (1730)، وكان في مضمونه نقداً لاذعا مبطنا للكنيسة الكاثولوكية، وهو ما يتضح في السطور التالية:" لقد قضى محمد على الخرافات وسلطة رجال الدين وعبادة القديسيين، كان من الممكن أن يكون الإسلام كل شيئ لم تستطع الكاثولوكية أن تكون عليه: تحطيم الأصنام، ومناهضة الكهنوتية، والمساواة والعقلانية.. بكلمة واحدة: الجمهورية".

 

أما إيمانويل باستوريه فيرى أن القرآن يعلن "أسمى حقائق العبادة والقانون الأخلاقي ويعرف وحدة الله بإيجاز رائع". بينما يرى المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون أن القرآن " شهادة مجيدة على توحيد الله وأن عقيدة القرآن قريبة من ربوبية الفلاسفة. وتلك القراءة للقرآن وللإسلام هي ما دفعت نابليون للاعتقاد بأن مُثل الفلاسفة ومذاهب العلماء متشابهة. وفيما رأى كثير من كتاب عصر التنوير في الإسلام ديناً طبيعيا عقلانيا قائم على المساواة، فإن نابليون لم يكن مهوساً سوى بشخصية النبي محمد وتحديدا ذلك الفاتح والمشرع الحكيم الذي شكل التاريخ، وكان ببساطة يريد أن يكون محمد جديد!

ولكن هل هذا ما كان يريده حقاً؟ وهل فكر فعلا في اعتناق الإسلام؟ يمكن الإجابة على هذين السؤالين بخطاب ألقاه بونابرت القنصل الأول لفرنسا أمام مجلس الدولة قائلا:" من خلال اعتناقي الكاثوليكية انتصرت في حرب فونديه (هو الاسم الذي يُطلق على الحرب الأهلية التي حدثت في غرب فرنسا، بين الجمهوريين الملقبون ب الزّرق والملكيين البيض، بين سنتي 1793 و 1796، أثناء الثورة الفرنسية)، وبكوني مسلما وجدت لنفسي موطئ قدم في مصر، ولو حكمت شعبا يهوديا فسوف أقوم بترميم هيكل سليمان".

 نابوليون ربما قد استلهم السير على هذا الدرب ممن سبقوه، إذ نقلت إحدى سيدات البلاط الإمبراطوري وتُدعى مدام ريموزا، والتي كانت تحظى بثقة هنري الرابع ملك فرنسا (حكم مملكة فرنسا من عام 1589 إلى 1610 وتحول من البروتستانتية إلى الكاثولوكية والعكس أكثر من مرة) ، في مذكراتها عن مشاعر هذا الأخير حينما مر في إحدى رحلاته  بمصر:" كنت أبتدع ديناً جديدا، وكنت أرى نفسي في الطريق إلى آسيا فاتحاً ممتطياً فيل ومرتديا عمة وفي يدي قرآن جديد أكتبه وفقا لما يناسبني". ولكن الأيام الأخيرة في حياة نابوليون، قبل وفاته في 21 مايو عام1821، منفياً بجزيرة سانت هيلين، كانت شاهداً على ما قد يكون وقر في قلبه، إذ كتب في مذكراته عن حملتيه على مصر وسوريا مثنياً على نبي الإسلام الذي أسيئ فهمه في أوروبا:" دين محمد هو الأجمل، إنه ليس عبثياً كديننا".

في مذكراته تحدث نابليون عن ملك فرنسي آخر غزا مصر قبله بخمسة قرون، هو في الأغلب سان لويس، ويفتخر نابليون بكونه قائدا استراتيجياً أكثر من سلفه الصليبي وبكونه صديقاً للإسلام والمسلمين وليس عدوا متعصبا، وبخلاف قادة أوربيين آخرين أرادوا تنصير الأراضي التي أخضعوها لسلطانهم، فإن نابليون يقدم نفسه باعتباره أول من جلب التنوير وقيم الثورة والجمهورية إلى الشرق. ولكنه في ذلك لم ينس نصيبه من التناقضات، فهو من أراد تحرير المصريين من المماليك ولكنه قمع تمردهم بدموية مفرطة، وأراد أن  يغرس فيهم قيم الجمهورية مع إخضاعهم لعبادته كشخص، كما أنه قبل منهم عبيداً كهدايا.

غير أن هذا الغزو العابر لمصر لم يمر دون تبعات، إذ أن الانسحاب الفرنسي ترك مصر في حالة فوضى، وتلك الفوضى نتج عنها ظهور رجل قوي هو محمد علي باشا، الذي كان يرى في نابليون عدوا ونموذجاً يُحتذى به في نفس الوقت، لذا كان يرسل الشباب الواعد من المصريين ليكمل دراسته في فرنسا، ومع رفضه الوصاية والخضوع للقوى الأوروبية عموما، فقد كان يستلهم منها نماذج تنظيم الجيش والوظائف المدنية وإنشاء المطبعة وتحديث المؤسسات التعليمية.

في النهاية، وبعد ثلاثين عاما من الفشل في مصر، انطلقت فرنسا في مغامرة أخرى بشمال إفريقيا وتحديدا في الجزائر، وبنفس التناقضات ما بين القيم العليا المعلنة والوحشة الممُارسة، وهو ما دفع المفكر الجزائري حمدان خوجه إلى التنديد بـ:" نير التعسف والإبادة وكل ويلات الحرب وكل تلك الفظائع التي تم ارتكابها باسم فرنسا الحرة".

وتزامنا مع الذكرى المئوية الثانية لوفاة نابليون، وهو عام شهد الكثير من الجدل حول الإسلام في فرنسا وحول تراثها الاستعماري، فإن حلم نابليون المحمدي يضع فرنسا كلها في موضع تساؤل ويضعها أمام تناقضاته وتناقضاتها.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة