د. مصطفى محمود
د. مصطفى محمود


كنوز | الصمت المفعم بالشعور

الأخبار

الخميس، 06 مايو 2021 - 08:30 م

 

نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعانى وكأدوات لكشف كوامن النفوس، ونتصور أن الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر، ويمكن أن تدل بصدق على ذواتنا ومكنوناتنا.

والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف، وتضلل ولاتدلل، وتشوّه ولا توضح، وهى أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد.

يقول الحبيب لحبيبته : أحبك !

وهو يقصد بذلك التعبير عن حالة وجدانية خاصة جدًا وذاتية وجديدة عليه، فلا يجد إلا كلمة هى صك مستهلك تهرّأ من كثرة الاستعمال، كلمة أصبحت ماركة مسجلة لأردأ أنواع البضائع، كلمة حولّتها الأغانى المبتذلة والهزليات المسرحية إلى بالوعة أو فى أحسن الأحوال إلى منشفة لتجفيف ما ينضح من العرق فى حالات فيسيولوجية عديدة ومتناقضة، ولكنه لا يجد غيرها، فإذا حاول أن يستخرج من قاموس الحروف ومعجم العبارات كلمات أخرى فإنه لا يجد إلا المجاز والاستعارة والبيان والبديع وضرب الأمثلة، فيقول لحبيبته أنه يحبها كما تحب الوردة ندى الفجر، أو كما تحب ظلمة الليل شعاع الشمس، أو كما تحب صغار العصافير أعشاشها.
وهو كلام فارغ آخر يترجم الحالة الخاصة الفريدة إلى سلسلة من البدائل المزورة ويحول الشعور البكر إلى ثرثرة جوفاء لا تدل على شيْء، ولو أنه صمت لكان صمته أبلغ.

وللصمت المُفعَم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات، وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير، والمحب الصامت يستطيع أن ينقل لغته وحبه إلى الآخر، إذا كان الآخر على نفس المستوى من رهافة الحس، وإذا كان هو الآخر قادراً على السمع بلا أذن والكلام بلا نطق والإنسان معجزة المخلوقات، وهو ليس آلة كاتبة، ولا اسطوانة ناطقة، وهو أكثر من مجرد آليات جسدية، هو عقل وروح ووجدان، وذاته مستودع قوة وأسرار إلهية، وهو يستطيع أن يتكلم بلا نطق، ويسمع بلا أذن، ويرى بلا عيون ونحن نرى فى الحلم بلا عيون ونسمع بلا آذان ونجرى بلا سيقان.

وقد رأى المبصرون بعيون طه حسين ما لم يروا بعيونهم، وفى رؤى أبى العلاء وأشعاره ما لا تتطاول إليه عيون المبصرين أصحاب العيون، والحقائق العالية تقصر دون بلوغها الحروف والعيون والآذان، وإنما خُلِقَت الحروف للتعبير عن أشتات العالم المادى وجزئياته وهى مجرد رموز ومصطلحات ونظائر لما نرى حولنا من شجر وحصى ورمل وبحر وتلال ووديان وجبال.

أما عالمنا الداخلى، وسماواتنا الداخلية، وسرائرنا العميقة، فتقصر دونها الحروف ولا تصورها كلمات، وكلما كان شعورنا حميماً وكلما كان حبنا متغلغلاً فى شغاف القلب مالكاً لناصية السر ساكناً لُب الفؤاد كلما عجز اللسان وتضعضعت الكلمات وتقطعت العبارات.

والحقائق الإلهية أكثر استحالة على الألفاظ..وهنا الألفاظ تتحول إلى جلاميد صخر لا تصلح على الإطلاق لوصف ذات الله المطلقة، والألفاظ فى رحاب الله، استار وحجب، والكلمة حائل، والعبارة عائق، والاصطلاح عقبة.

هذا هو عالم السر والطلسم الذى يتم الاتصال فيه بالروح بدون مواصلات المادة وبدون أداة الكلمة.. وهذا هو عالم المطلقات الذى لا تحلق إليه كلمات ولا تسمو إليه ألفاظ، ومعدن الحب الشفيف العالى هو من نفس معدن هذه المطلقات ولغته من لغتها، فهو من خصائص الروح، وهو فى صميمه انعطاف روح قبل أن يكون انعطاف جسد وحينما تبلغ المشاعر إلى تلك المنطقة يسكت اللسان وتصبح اللغة صمتاً.

ولهذا أحب الصمت وأوثر الصمت كلما شعرت بهذا القرب الحميم نحو إنسان، ذلك القرب الذى يتسلسل إلى الشغاف ويسكن الحنايا دونما صخب ودونما ضجيج ودونما اضطراب، فهنا لا وجود للانفعال المبتذل الذى تتكلم عنه الأغانى..

ولا وجود للأوجاع والبكائيات ولا مكان لبلاهة قيس وأشعاره، ولو أنى استعرت تلك الكلمات القديمة لأعبر بها عن ذلك القرب الحميم لكنت ثرثاراً أجوف أتكلم عن رجل آخر غيرى، فهنا شعور جديد تماماً وخاص جداً وذاتى، هنا حضور مؤنس يشيع الدفء والبهجة الهادئة والإحساس بالمعية التى تطرد الوحشة والوحدة هنا كل شيء هامس خافت بلا صوت وبلا صورة وبلا لفظ وبلا غرض وبلا مأرب..

فما أبلغ الصمت..وما أقدره على التعبير !
من كتاب « الروح والجسد »
 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة