كامل الشناوى  --  لويت تعبيرى يجسد ملمحا من ملامح الشيخ المزيف
كامل الشناوى -- لويت تعبيرى يجسد ملمحا من ملامح الشيخ المزيف


كنوز| كامل الشناوى يروى حكاية «الشيخ المزيف» الذى خدع أهل قريته فى رمضان

عاطف النمر

الخميس، 06 مايو 2021 - 08:54 م

نشر الكاتب الكبير كامل الشناوى فى عام 1956 مقالا بجريدة " الجمهورية " بعنوان " أين رمضان ؟ " يعبر فيه عن انزعاجه من اهتزاز هيبة رمضان فى بعض الأوساط التى لا تلتزم بالصوم وقواعده، وتساءل فى المقال : " هل رمضان الذى نلقاه اليوم هو رمضان الذى طالما لقيناه ونحن فى سن الطفولة وسن الشباب؟ "، ويصف فى المقال حال " رمضان " الذى عاشه فى طفولته وصباه فى القرية مؤكدا : " فى القرية لا يجرؤ أحد على الإفطار، ومن اضطرته الضرورة إلى أن يفطر تظاهر بالصيام تطبيقا للقاعدة المعروفة " إذا بليتم فاستتروا ".
ولكاتبنا الكبير وشاعرنا الجميل كامل الشناوى مقال آخر يكشف فيه حكاية الشيخ المزيف، أو حكاية " الشيخ عويس " الذى نزل عام 1924 على قريتة " نوسا البحر" التابعة لمركز أجا بالدقهلية، فيقول : " كانت القرية إذ ذاك هادئة هانئة، وكان فيها طائفة كبيرة من شيوخ العائلات، أكسبتهم السنون وقاراً وهيبة وخلعت عليهم لباساً كلباس العلماء ففى أيديهم مسابح، وفى وجوههم لحى زانها الشيب، وفى جباههم خطوط بارزة من أثر الصلاة. وكان هؤلاء الشيوخ مصدر خير القرية وأمنها، ما وقع حادث إلا تلافوه بحكمتهم، أو على الأصح بمكانتهم فى نفوس الناس، وكانت القرية إلى جانب خلوها من حوادث الإجرام، خالية أيضا من آثار الفقر، نعم فقد كان قنطار القطن يملأ بيت الفلاح نعيما ورغداً طول العام وكان فدان الفاكهة يكفى صاحبه لتمضية جزء من الصيف فى رأس البر، وجزء من الشتاء فى القاهرة، وهبط رمضان على القرية السعيدة فاستقبلته بمظاهر الحفاوة والكرم، ذبحت على قدميه أغلى ما عندها من ذوات الريش والشعر ووضعت بين يديه نفحات الزكاة من نقود وذرة وقمح وشعير، وزينت له الموائد، وسهرت عليه الليالي، ونامت من أجله الأحداث!

وتبارى الأعيان فى إحياء سهراتهم بأحسن المقرئين فهنا مقرئ يرتل القرآن بالسبعة، وهنا آخر يتلوه ورشا وهناك ثالث يختم السهرة بقصة المولد الشريف والأهلون يقضون الليل طوافا بهذه السهرات الممتعة، حيث يظلهم دخان السجائر وتدفئ شفاههم رشفات القهوة والقرفة والشاى ولم يكد رمضان يقيم أسبوعا فى القرية الناعمة الباسمة، حتى وفد عليها شيخ وقور فأنزله العمدة منزل جود وكرم، وخصص له جناحا فى المضيفة ولما حان موعد الإفطار قدم له الطعام حافلا بالأطايب واللذائذ، فصدف عنه وأبى أن يتناول منه شيئاً، وطلب تمراً ولبنا فجيء له بالتمر واللبن، وبعد أن فرغ من هذا الطعام الخفيف أخذ يصلى ويتهجد إلى أن حان موعد السحور فأكل على نحو ما أكل فى الفطور، تمرا ولبنا ولا ثالث لهما، وظل ساهرا حتى الفجر، حيث أدى فريضته فى المسجد، ثم قفل راجعا إلى غرفته، وفى اليوم التالى استقبل بعض الأهلين وعرفوا أن اسمه «الشيخ عويس» فكانوا يسألون: " يا سيدنا الشيخ عويس ما رأيك فى كذا وكيت "، وكان جواب الشيخ دائما عن كل سؤال غمغمة وهمسا وأحيانا تصايحا رتيبا يسمع فيه اسم الله على هذا النحو «الله.. الله.. الله».

كان الشيخ عويس وقورا فى مظهره لعله لم يشرف على الأربعين ولكنه مع ذلك بدا وكأنه فى الستين من عمره، كان يرتدى جلبابا أبيض، طل من طوق عنق ممشوق، قام من فوقه وجه مستدير، وتركزت فى الوجه عينان براقتان تشرفان على أنف أفطس، ومن تحت الأنف شفتان دائمتا التمتمة، نام عليهما خط دقيق من الشعر، هو شاربه، ويمتد هذا الخط إلى أسفل فيؤلف دائرة هى لحيته، وقد استطالت اللحية على الجانبين حتى لصق طرفاها بصدغيه وكانت رأسه مغطاة بقطعة من القماش الأبيض ليست طاقية، وليست عمامة ولكنها شيء بين هذه وتلك، وترامى إلى الناس أن الشيخ عويس من أولياء الله ذوى الأنفاس الباتعة وقيل إنه من أهل الحظوة، وقيل إنه المهدى المنتظر، وسمع الرجل ما ترامى إلى الناس من أمره، فبكى مستعيذاً بالله من الفتنة، وكان ذلك الزهد فى اعتقاد الناس فيه مغرياً لهم بالتمادى فى اعتقادهم فتمادوا إلى أبعد الحدود، وشوهد الرجل فى إحدى الليالى ممزق الجلباب من ناحية الكتف فسارع الأهلون إليه يعرضون عليه أغلى الثياب فرفضها فى إباء شديد وقال إنه لم يمنح إذنا بتغيير جلبابه وذهب الناس فى تعليل تمزيق الثوب مذاهب شتي، وكان المذهب الشائع أن التمزيق جاء نتيجة عراك بين الشيخ وبين الشيطان، وقال آخرون بل لعل الملائكة جذبوه إليهم، فمزق الجذب جلبابه!.

وأخيرا أذاع الرجل أنه قد أذن له بتغيير الثوب الذى يلبسه، فعرض عليه الأهلون ثيابا مختلفة الألوان والأنواع فأباها جميعا إلا ثوبا رخيصا من البفتة البيضاء! إلا ما أتقاه وما أعظم زهده ! وفى صباح يوم جمعة زاره العمدة وجماعة من الأعيان وحيوه بتحية الإسلام، فلم يرد عليهم التحية، ونظر إليهم غاضبا وصاح فيهم بصوت مذبوح النبرات، لماذا لم تخبرونى بأن هذا البلد نجس؟ قالوا وكيف ؟ قال : لقد طلبت لكم الرحمة فقيل إن هذا البلد من الأنجاس ! ولا يطهره إلا مبلغ مائتين وسبعة وتسعين جنيها، يدفعها الأهلون من عرق الجبين، تكفيرا عن سيئاتهم، وسأذهب بهذا المبلغ إلى الحجاز، لأوزعه بنفسى على فقراء مكة، والبيت الحرام. وانتهز العمدة فرصة صلاة الجمعة وأخذ يجمع المال من المصلين، فجمع مائتى جنيه، وفى صبيحة يوم السبت كان مأمور المركز قد حضر ومعه قوة من الجند فوضعوا القيد فى يدى الشيخ عويس، وعرف أن الشيخ عويس هو السجين رقم 67 فى سجن الزقازيق، وقد فر منه بعد أن قضى فيه خمسة أعوام وبقى عليه عشرة أعوام أخرى، لقد كان متهما فى قتل عمه!

وهكذا كشف الله ستر المجرم الأثيم، على الرغم من أن هذا السر كان ادعاء الولاية وتقوى الله، واجتمع أهل القرية وأخذوا يودعون الوالى الزائف باللعنات، ودنا منه أحد الفتيان وقال له : " لا تنس أن تقرأ لنا الفاتحة فى بيت الله الحرام "

وبعد خمسة عشر عاما استطاع الفتى أن يذكر قصة الولى وأن يقدمها هكذا للقراء !
كامل الشناوى
مجلة « الجيل » - رمضان 1957

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة