الجمعة، 07 مايو 2021 - 07:46 م

يستطيع المتأمل، أن يلاحظ بلا كبير عناء، أن غالبية ما معنا حتى اليوم من المعارف أو من العادات، يشكو القـدم .. وللقـدم فينا وفى آبائنا بل وفى أبنائنا آثار مئات من القرون تناقلتها الأجيال العديدة بعديد من التصورات والصيغ والإضافة والحذف .. ويبدو أن رسوبها هذا العميق فى وعى وعواطف البشر ، يكاد يتأبى على التغيير ويستحيل على التقويم والتصحيح!
 لقد باتت هذه الخلال ـ فى خامة وتراث البشر ومألوفهم وأعرافهم وعقائدهم ومصدقاتهـم ـ أصابـعها ليست قليلة ، ولم يتهيأ الإنسان لتقويمها وتصحيحها ـــ إلاّ بعلاج جزئى نسبى فى المكان والزمان .. ومن هنا كان تاريخ الآدميين مليئاً بالعثرات إلى اليوم !
 وبرغم ما بين البعض والبعض من تشابه فى المصدقات والعادات والأعراف ، إلاّ أنه نمت فروق عاطفية وفكرية عميقة جداً مازالت عصية على التسوية والعلاج ، وما زالت من مصادر الخصومة والعداوة القائمة بين الأفراد والجماعات .. وإلى الآن لم ينجح فى سيادة عالم البشر عاطفياً وعقليا ـــــ أى من أنماط المعتقدات والمصدقات والأعـراف بحيث يشكل وحـده نمطاً لا تختلف فيه جماعة عن جماعة ..
 فغالبية ما معنا حتى اليوم مازال يعانى من القدم ومن آثار العزلة ومن التعصب لماضى الجماعة وإقليمها باعتبارهما الأساسين الرئيسيين لبقاء الجماعة اقتصاديا واجتماعيا واعية لذاتها حافظة لتماسكها ووحدتها .. ذلك أن البوتقة التى انصهرت فيها مصدقات الجماعة وأفكارها على الجملة هى حصيلة ما هو سائد فيها بشأن ماضيها وحاضرها من واقع وافتراض ، ومن حقيقة وخيال ، ومن أمل وخوف !
      يستطيع المتأمل أن يدرك من هذا الحكم أنه لم يخرج عن كونه اعتيادًا مزمنًا متوارثًا على التسليم بالخصوصية والانفراد والانعزال لكل جماعة فى بقعة الأرض التى عاشت عليها .
      ويبدو أن شيئًا جديدًا قد طرأ فى أيامنا على دنيانا .. إذ بتنا نكاد نلمس ميل سكان عالمنا ـــ إلى تغيير جذرى من الانكماش القديم والتحوصل إلى الانتشار ، ومن التوجس والحذر إلى الجرأة والانطلاق .. وصرنا نعتاد على رؤية الأفواج من أهل الشرق الأقصى يقيمون فى أقصى الغرب من العالم ، وعلى رؤية السود والصفر وأبناء المناطق الحارة والصحارى يتركون مواطنهم القديمة إلى أقاليم البيض ـــ يؤثرون على أقاليمهم الأصلية سكنى البلاد الباردة حيث الثلوج والصقيع . ولم تعد الأجواء والمسافات والتضاريس والوهاد والصحارى وشدة الحر والبرد وخوض البحار والمحيطات وتعقيد التكوينات والتراكيب والمجهريات وأنواع الطاقة وصورها ـ .. لم تعد تنفر أو ترهب الآدمى أو تصده أياً كان لونه أو أصل موطنه أو تلزمه بالبقاء فى مكان ما أو القنوع بما يجود به عليه موطن ، أو النظر نظرة المرتاع الخائف المتوجس إذا فكر فى الانتقال من أقصى الأرض إلى أقصاها ، أو فى استعمال الطائرة بدلاً من الدابة للوصول إلى ما يريد ويقصد !
      هـذه الجـرأة العامة ـــ لا نظن أنها قابلة للانتكاس والانكماش .. فالآدميون الآن قد خطوا بالفعل خطى لا إمكانية ولا مكان للرجوع فيها أو الانسحاب منها .. ذلك أن البشـر وهم لا يشعرون قد تمردوا بالفعل على معنى الجماعة وفكرة الإقليم وباتوا فى محيط العالمية وقبضة الاقتصاد العالمى التى قد تدمر الجميع وتخنق الكل . لأنها قبضة انفعالية دون أن نشعر .. 
وتلك الخطوات نحو العالمية التى خطتها الإنسانية ، هامة وخطيرة ، تستوجب من عموم الآدميين عملاً وفكرًا نحو المستقبل بسعة العالم ، وتخلصهم فى الوقت نفسه من الاستغراق المألوف فى ماضى كل جماعة وظروف إقليمها المعهودة ــــ الاستغراق السلبى فى الماضى عبث وقعود يشبه الكساح وإضاعة للأعمار والفرص الثمينة لتقدم البشرية.