الأخبار

الأحد، 09 مايو 2021 - 07:26 م

ولكن بن العاص ناور واستثمر اقتراح الاشعرى بخلع "على" فى تثبيت معاوية.. وفشلت المفاوضات

الأشعرى‭ .. ‬سيد‭ ‬الفوارس

اجتمع أهل البصرة ينتظرون ماذا سيقول لهم الوالى الجديد الذى بعثه اليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فهم لايعرفون عنه الا أقل القليل..وما هى إلا لحظات حتى أطل عليهم الوالى خطيبا فقال:

-إن أمير المؤمنين أرسلنى اليكم حتى أعلمكم كتاب ربكم وسنة نبيكم وانظف لكم طرقكم.

هنا نظر الناس إلى بعضهم البعض من فرط الدهشة والعجب لما جاء على لسان المبعوث.. وزاد فضولهم فى البحث عن أخباره ومعرفة سيرته ومنهاجه.. وجاء من يخبرهم بأنه.. عبدالله بن قيس المكنى بـ أبى موسى الأشعرى هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن الأشعر وأمه هى طيبة بنت وهب من عك "عكا" وكانت قد أسلمت وماتت بالمدينة المنورة.

الأشعرى جاء من أرض اليمن يطلب نور الاسلام لما سمع ببعثة النبى محمد صلى الله عليه وسلم.. الذى استقبله مرحباً:

- أتاكم أهل اليمن..هم أرق أفئدة وألين قلوبا.. الايمان يمان.. والحكمة يمانية.

وأدرك أهل البصرة أنهم أمام رجل يجب الانصات اليه جيدا فهو من أصحاب الحكمة والبصيرة.. وقد قال لهم:

− أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ثم يبكون الدماء حتى لو أجريت فيها السفن لسارت وأبحرت.

"العجيب"

اجتمعت فى الأشعرى ما لم يجتمع لغيره فهو المقاتل الجسور والمناضل الفذ والمسالم الوديع والفقيه الحصيف فى الافتاء والقضاء حتى قيل قضاة الأمة أربعة:

− عمر وعلى وأبوموسى وزيد بن ثابت

ويكفيه فخرا أن النبى محمد صلى الله عليه وسلم منحه لقب "سيد الفوارس".. ويكفيه ما جرى فى موقعة "تستر".. عندما انسحب جيش القائد الفارسى الهرمزان وتحصن فى تلك المدينة وجمع فيها من الجيوش ما جمع وحشد.

وأدرك الأشعرى أن معركته معه لكن تكون سهلة وقد طلب المدد من أمير المؤمنين.. وانتظر فماذا لو كان جيش المدد فيه عمار بن ياسر، البراء بن مالك، أنس بن مالك، مجزأة البقرى، مسلمة بن رجاء وجاءت لحظة الانطلاق.. وقد أعد الأشعرى خطته وكان أولها أن يضرب حصاره على "تستر" لأطول مدة ممكنة.. لا دخول اليها ولا خروج منها− حتى ينفد طعامهم..وصبرهم− ونجح الأشعرى خلال ذلك أن يستقطب أحد رجال الفرس.. وأن يتقدم نحو الباب ويحتال عليهم لانه منهم وعندما يفتحون ينقض الأشعرى بجيشه كأنه الطوفان.. ولم يكن أمام قائد الفرس ورجاله الا رفع الرايات البيضاء والاستسلام.

ولم تكن بطولة الأشعرى الوحيدة فى بلاد فارس.. حيث تشهد مدينة أصبهان "اصفهان" على قصة أخرى من أمجاده.. فقد تعاهد مع أهلها على دفع الجزية بعد التصالح معهم.. ولكنهم خالفوا العهد وماطلوا فى ذلك حتى تتاح لهم فرصة إعداد جيشهم وتوجيه ضربة غادرة الى الاشعرى.. لكنه بفطنة القائد المؤمن استشعر نواياهم الخائنة.. فاذا به يتحول الى طوفان.. والحق بهم شر هزيمة.. ومن أصفهان مضى الى نهاوند.. فى العام الثالث والعشرين للهجرة.

"البلبل"

وعندما يخلع المحارب درعه وسيفه.. ويخلو الى نفسه مع ربه.. ويقرأ القرآن الكريم.. عندها تبدو الدنيا من حوله تتمايل طربا بصوته العذب الرخيم وفى ذلك قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم:

− يا أبا موسى لقد أتيت مزمارا من مزامير داود وكثيرا ما كان عمر بن الخطاب فى المجالس يسأله:

− ياأبوموسى ذكرنا ربنا فيقرأ المؤمن المنيب بصوت الوقار والخشية والورع  فإذا الدموع تغمر العيون والرجفة تلف القلوب.

ولما نزل قول الله سبحانه وتعالي:

− "فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه"

"المائدة ٥٧"

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمنحه المزيد من الأوسمة:

− هم قومك يا أباموسى وأومأ اليه.

"القاضى"

عندما وقعت الفتنة بين على −كرم الله وجهه− ومعاوية بن أبى سفيان.. اعتزل الكل ولم يقاتل مع أحدهما ضد الآخر.. وكتب معاوية اليه:

− أما بعد فإن عمرو بن العاص قد بايعنى على ما أريد وأقسم بالله لئن باعيتنى على الذى بايعنى لاستعملن أحد ابنيك على الكوفة والآخر على البصرة ولا يغلق دونك باب ولا تقضى دونك حاجة وقد كتبت اليك بخط يدى.. وأن أردت رداً فليكن بخط يدك ايضا.

ولم يتردد الأشعرى فى صياغة الرد المناسب وبخطه كما وعده.. وقد جاء فى رسالته ما يكشف جانبا مضيئا فى عقله الراجح وقلبه الزاهد:

− أما بعد فإنك كتبت إلى فى جسيم أمر الأمة فماذا أقول لربى اذا قدمت عليه وليس لى فيما عرضت من حاجة.. والسلام عليك.

وكيف لا يكون رد الأشعرى على هذا النحو الواثق القاطع وهو الصوام القوام الزاهد العابد الذى لم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا وكان رأيه وقد بلغت الحالة من السوء بين الطرفين ما بلغت:

− أن الحرب الدائرة يوم ذاك تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول مقعد السلطة والولاية وهنا يجب أن يتنازل "علي" عن الخلافة وليتنازل معاوية كذلك على أن يرد الأمر كله الى جموع المسلمين  من جديد يختارون بطريق الشورى الخليفة الذى يريدون وكان الإمام على بن أبى طالب عندما قبل مبدأ التحكيم قد اختار أن يمثله عبدالله بن عباس لكن بعض شيعته وفريقه قد اشاروا اليه باختيار الأشعرى.. لانه لم يشترك فى نزاع.. لكنه أشفق عليه من خداع معاوية طيب النوايا والسرائر.. ومع ذلك رضى "علي" ان يمثله الأشعرى.

وفى الموعد المحدد لجلسة التحكيم ويمثله عمرو بن العاص− ودار بينه وبين الأشعرى هذا الحوار التاريخي:

الأشعري: ياعمرو هل لك فيما فيه صلاح الأمة ورضا الله.

 بن العاص: وما هو؟

الأشعري: نولى عبدالله بن عمر بن الخطاب فإنه لم يدخل نفسه فى شىء من هذه الحرب.

بن العاص: وأين أنت من معاوية؟

الأشعرى: معاوية لايستحقها!

بن العاص: ألا تعلم أن عثمان بن عفان قد قُتل مظلوما.

الأشعري: بلي

بن العاص: ومعاوية هو ولى دم عثمان وبيته فى قريش فإن قال الناس لم ولى الأمر وليس له سابقة فإن لك فى ذلك عذرا تقول: إنى وجدته ولى عثمان والله تعالى يقول "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا" وهو مع هذا أخو "أم حبيبة" زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهو أحد أصحابه.

الأشعرى: اتق الله ياعمرو.. أما ما ذكرت فى شرف معاوية فلو كانت الخلافة بالشرف لكان أحق الناس بها "أبرهة بن الصباح" فإنه من ابناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا شرق الأرض وغربها ثم أى شرف لمعاوية مع على بن أبى طالب وأما قولك إن معاوية ولى عثمان فأولى منه ابنه ∩عمرو بن عثمان∪ ولكن إن طاوعتنى أحيينا سنة "عمر بن الخطاب" وذكره بأن يتولى ابنه عبدالله.

بن العاص: فما يمنعك− ابنى عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته.

الأشعرى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته فى هذه الحروب غمسا فهلم نجعلها للطيب بن الطيب.

بن العاص: يا أباموسى إنه لايصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويتصدق بالآخر.

الأشعري: ويحك ياعمرو ان المسلمين قد اسندوا الينا هذا الأمر بعد أن تقارعوا بالسيوف.

الأشعرى: وتشاكوا بالرماح فلا نردهم فى فتنة. 

بن العاص: فماذا تري؟

الأشعري: أرى أن نخلع الرجلين عليا ومعاوية ثم نجعلها شورى بين المسلمين لاختيار خليفتهم.

ولكن بن العاص ناور واستثمر اقتراح الاشعرى بخلع "علي" فى تثبيت معاوية.. وفشلت المفاوضات وعاد بلبل القرآن وسيد الفوارس يشكو الى ربه حزنه وقلة حيلته وكثيرا ما كان يردد فى أيام الحر الشديد:

"لعل ظمأ الهواجر يكون لنا رياً يوم القيامة".