للفنان: طارق الصفتى
ذكريات معلقة
الثلاثاء، 11 مايو 2021 - 10:02 ص
منى عبدالكريم
فى أوائل القرن السادس عشر وفى عصر المماليك عندما تعافى السلطان الغورى من مرض أصاب عينه - قيل إنه أفقده بصره- احتفل أهل القاهرة بعودته إلى الحياة العامة بالغناء والموسيقى وبتزيين الشوارع بلافتات من الحرير الأصفر وهو اللون الملكى آنذاك. وقد وصف الرحالة التركى أوليا شلبي- الذى كان يسافر إلى مولد السيد البدوى فى القرن السابع عشر-موكب الحجاج (المحمل) والذى كان يمتلئ بالخيام والأعلام واللافتات الملونة بأنه يشبه حقلا من زهور التيوليب الذى ازدهر ثم اختفى بعد حصاده دون أن يترك أثراً واصفًا بذلك الحياة فى مجملها.
يقول المؤرخ المصرى سيف الرشيدى إن المنسوجات المعلقة تعتبر جزءًا من الثقافة المصرية منذ آلاف السنين، وقد ورد فى روايات العصور الوسطى أن شوارع القاهرة كانت تتزين بالمنسوجات الملونة المصنوعة من الحرير والقطن فى أى احتفال أو مناسبة كنوع من التعبير عن البهجة والسعادة. ومن هذا المنطلق جاء احتفاء جاليرى أوبنتو بالمنسوجات المعلقة وبفن الخيامية مختلفا ومميزا من خلال معرض «ذكريات معلقة» الذى استضافه الجاليرى وقام بالتنسيق له سيف الرشيدى.
من أين تبدأ الحكاية؟ كانت زيارة المعرض الذى اعتبره واحدا من أهم العروض الفنية التى شاهدتها مؤخرا يشبه القيام بجولة متحفية للتعرف على كثير من الجوانب الخفية المرتبطة بتاريخ الخيامية، والتى لطالما كانت زيارتى لها دائما بمنطقة الخيامية، حيث يجلس الحرفيون يحيكون تحفهم الفنية بصبر بالغ، بينما العالم يتغير فى الخارج ويزداد الخطر على تلك الحرفة بهجوم الأقمشة المطبوعة، لتصبح تلك القطع المحاكة يدويا هى الشاهد على استمرار تراثنا المتعلق بفن الخيامية.
استبدلت جولتى فى منطقة الخيامية هذه المرة بجولة بين قاعات جاليرى أوبنتو بالزمالك، والتى بدأت بمشاهدة عدد من الصور الفوتوغرافية التى تظهر فيها قطع من المنسوجات المعلقة أو الخيامية بشكل أو بآخر فى كل صور مثل تلك الصورة لمجموعة من صانعى اللافتات أثناء حياكتها والتى تعود لعام 1924 وهى من مجموعة لينرت ولاندروك، وكذلك تلك الصورة التى تجمع بين عبدالناصر وخروتشوف بالقرب من سد أسوان عام 1964بينما تظهر الخيامية فى الخلفية.. وغيرها..
للفنان: حسام الفاروق
وبخلاف الصور الفوتوغرافية فإن عددا من قطع الخيامية الأصلية القديمة النادرة قد أضفت سحرا خاصا على المعرض، لاسيما تلك القطعة البديعة التى تركت جميع من شاهدها مدهوشا بجمالها، بالنسبة لى كانت القطعة تحمل طاقة خفية تتركك فى حالة من السكينة فلا تريد أن تغادر تلك القاعة التى تعرضها تحت عنوان «لوحة تاتشر« وتعود تقريبا إلى عشرينيات القرن الماضى، إذ يذكر التعليق المرفق بها أنه تم اقتناء هذه القطعة من قبل ثرى أمريكى ومن المحتمل أنها صنعت ليتم تعليقها بشكل أفقى كمظلة، وتحمل اللوحة عبارات قصيرة مثل «أهلًا وسهلًا ومرحبًا بالقادمين» وسلامة الإنسان فى حفظ اللسان» و«بالشكر تدوم النعم« و «العدل أساس الملك« والتى كانت شائعة آنذاك، وقد كان التصميم مستوحى من البيوت القاهرية، وكثيرا ما كان يتم إهداء هذا الشكل من القطع كهدايا دبلوماسية خلال فترة حكم الملك فؤاد (1920- 1936).
أما قطعة «العدل أساس الملك» والتى يرجح كذلك أنها تعود إلى عشرينيات القرن الماضى، وهى من مقتنيات الفنان التشكيلى سمير فؤاد فتعكس شيوع استخدام عبارة «العدل أساس الملك» والتى كانت موجودة فى العديد من معلقات الخيامية فى القرن العشرين تاركة لغز وراء استخدام تلك العبارة، التى ترتبط بالأحرى بالتعديلات الدستورية التى أجريت عام ١٩٢٣، إذ تظهر نفس الجملة – كما ورد بالتعليق المرفق بالعمل- على شارات القضاة التى تعود إلى نفس الفترة، وتشير تفاصيل هذه القطعة إلى احتمالية أن تكون مستوحاة من محراب للصلاة من الرخام الملون. ذلك بخلاف لافتة موكب تعود إلى أوائل القرن العشرين، والتى لا يزال يصنع قطعا شبيهة بها حتى اليوم، لإحياء المسيرات والمواكب فى القاهرة، إذ تشير العبارات ذات المرجعية الدينية مثل «يا سيد مدد» إلى احتمالية أن يكون قد تم صنعها بهدف الاستخدام فى احتفال دينى.
والحقيقة أن كل قطعة من القطع التى تم عرضها تكشف عن جمال خاص وسمة ترتبط بتاريخ حرفة الخيامية فى حقبة زمنية بعينها، كذلك فإن المعلومات التى تم الكشف عنها من خلال المعرض هى كذلك معلومات نفيسة إذ تطلب الوصول لها بحثا دؤوبا وجهدا كبيرا من جانب سيف الرشيدى، الذى قام هو والدكتور سام بوكر بتأليف كتاب «صانعو الخيام فى القاهرة: حرفة الصناعة التطبيقية الحديثة فى العصور الوسطى والحديثة فى مصر« الذى نشرته مطبعة الجامعة الأمريكية فى القاهرة فى عام 2018.
لم يكن الأمر سهلا، فالمعلومات لم تكن متاحة وليست هناك مراجع كثيرة، فقد قام الرشيدى بتجميع كل ما له علاقة بحرفة الخيامية من كتب التراث كالمقريزى والجبرتى وغيرها، أما الحصول على تلك القطع، ومعرفة تاريخها، فقد تطلب عشرات من الساعات من البحث على الانترنت باستخدام كلمات بحثية مختلفة، حتى الصور الفوتوغرافية، كان يبحث بطرق مبتكرة فى الأرشيفات القديمة ومن بينها صور الأفراح والمناسبات الرسمية والاجتماعية وغيرها.
ولم يتوقف معرض «ذكريات معلقة» عند عرض القطع القديمة وتتبع تطور مسار الحرفة والبحث عن السمات المشتركة لكل فترة، أو حتى رصد كيف تأثرت الخيامية بمختلف الفنون الأخرى واستعارت من الفن الإسلامى والفرعونى ومزجت الموتيفات ببراعة وخصوصية، أو حتى استعارت من فن العمارة كثير من التصميمات، أو حتى من الخط العربى، لكن الجولة بالمعرض تعود بك للحاضر فى مسارين أولهما الحرفة اليدوية التى لا تزال موجودة بشارع الخيامية من خلال عرض مجموعة من القطع البديعة التى قام بتنفيذها فنانو الخيامية المهرة من أمثال طارق الصفتى وحسام الفاروق ومصطفى الليثى ومحمد عبدالواحد، ومن بينها مثلا قطعة «المسجد الأزرق- ٢٠٢٠» التى قام بتنفيذها هانى عبدالقادر واستغرق تنفيذها سنة بأكملها، وهى مستوحاة من البلاط العثمانى الموجود بالمسجد الأزرق فى القاهرة ويعود إلى القرن السابع عشر. وتكشف تلك القطعة مثلا عن السمة المتكررة فى استعارة الخيامية كثير من تصميماتها من العمارة، إذ كانت حرفة الخيامية كما يقول الرشيدى تخلق عمارة مؤقتة من الأقمشة، فبدلا من قاعة الأفراح أو دور المناسبات، كانت الخيامية تخلق فراغا لا يقل عن مبنى ولكنه مؤقت ومتنقل، لذا غالبًا ما كانت تبحث فى المبانى الدائمة عن إلهام.
ويضيف الرشيدي: هذه المجموعة من المنسوجات المعلقة والتى تم حياكتها من قبل صانعى الخيام فى القاهرة، يربطها خيط مشترك من الذكريات المعاد تخيلها. كل هذه المنسوجات تقريبًا هى بمثابة تعبير عن شىء تم رؤيته أو معايشته، سواء كان مكانا أو مبنى أو حتى إحساسا لحظيا. أحيانًا تكون الذكرى هى ذكرى الحرفيين أنفسهم، وأحيانًا ذكرى خاصة بالمصممين، فالأمر يتطلب مهارة خاصة لتحويل الفكرة إلى تصميم ثم تنفيذه ليصبح كما تراه، لوحة فنية منسوجة معلقة. وتمثل المجموعة المعروضة تعبيرًا صريحًا عن الهوية المصرية سواء بقصد أو بدون قصد. مضيفا: تتطور المنسوجات المعلقة مثلها مثل أى عمل تراثى فتتأثر بالذوق العام واحتياجات السوق فالألوان والتصميمات التى نراها اليوم وكأنها مرتبطة بالماضى تتعلق أيضًا بالحاضر وبالطبع سيعلق البعض بأن الألوان الهادئة للقطع القديمة أكثر جاذبية من الألوان الزاهية الحديثة - ولكن فى الحقيقة هذه طريقة لجذب الانتباه عن بُعد باستخدام الألوان والتباين بشكل لافت للنظر. فقد كانت القطع القديمة وقتها مشرقة ومبهرة أيضًا!
جانب آخر من الجوانب المهمة التى ارتبطت بمعرض «ذكريات معلقة« تمثل فى تركيز الضوء على كيفية تأثر عدد كبير من الفنانين التشكيليين والمصممين بفنون الخيامية وأعادوا صياغتها بطريقتهم، سواء من خلال تقديم قطع من الخيامية بطريقة عصرية، أو باستعارة زخارفها فى لوحاتهم كما هو الحال مع أعمال الفنان سيف وانلى، والفنان جورج بهجورى وكذلك الفنان سمير فؤاد التى تضمنها المعرض.
فمثلا اعتاد الفنان سمير فؤاد توظيف الخيامية كخلفية لرسم الموديل فى عدد من لوحاته خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، إذ يقول فؤاد: الحقيقة أن علاقتى بالخيامية وبزخارفها ممتدة منذ الطفولة، وهناك العديد من قطع الخيامية المنتشرة بمرسمى، إذ اعتبرها واحدة من المحفزات البصرية، وهو أمر شائع أن يحيط الفنان التشكيلى نفسه بمحفزات بصرية.
وإذا كان الأمر فى الماضى يتعلق بتوظيفها كخلفية، فمنذ بضعة أشهر بدأ فؤاد مشروعا فنيا جديدا يقوم على إيجاد علاقات تفاعلية بين جميع عناصر اللوحة من شخوص وملابس وخلفية، بمعنى آخر ربط اللوحة من خلال «النمط» المتكرر سواء على مستوى اللون أو الوحدة الزخرفة، وقد قدم ما يقرب من خمس لوحات بتوظيف الخيامية وربط زخارفها وألوانها بباقى عناصر اللوحة، وهو مشروع مستمر لا يزال يحمل جوانب لم يكشف عنها الفنان بعد.
من جانب آخر يمتلك سمير فؤاد عددا من قطع المنسوجات المعلقة من مختلف البلاد لاسيما قطع الخيامية ربما واحدة من أهمهما هى لوحة «العدل أساس الملك» التى تم عرضها فى «ذكريات معلقة«. والتى اقتناها من تاجر أنتيكات فى الثمانينيات، وظلت ضمن مقتنياته حتى يومنا هذا لكنها كانت دائما تحتاج مساحة كبيرة للعرض.
حكايات لا تنتهى، إذ كشفت كل قطعة من القطع المعلقة داخل المعرض عن ذاكرة حكاءة، تشبه رفع الستار عن قصة ما تحتاج لإفراد مساحة خاصة وممتدة للاستماع إليها، ومن بين تلك الحكايات مثلا حكاية الفنان الفرنسى لوى بارتيلمى الذى فتنته فنون الخيامية منذ عدة سنوات، لتتحول رويدا لمشروع فنى معاصر يجمع بينه وبين حرفى الخيامية، إذ يقوم لوى برسم التصميم وتحديد الألوان ويقوم طارق الصفتى بتنفيذها، ومن بين الأعمال التى شاهدتها نسخة فرعونية من الملهى الباريسى المعروف «كريزى هورس».
وربما كانت واحدة من القطع المتميزة كذلك لوحة «الثورة« للفنان هانى عبدالقادر الذى يبلغ من العمر حاليا ٤٦ عامًا، والذى أمضى أيام الربيع العربى فى ترجمة ما رآه من خلال أكثر وسيط يعرفه: الخياطة؛ وقد كان ذلك خروجًا عن المألوف فيما اعتاده صناع الخيامية، وقد قدم عبدالقادر حتى الآن أربع قطع تصور مشاهد مختلفة من الحياة فى ميدان التحرير، وقد تم اقتناء أول قطعتين من المجموعة فى المتحف الشرقى فى مدينة دورهام وفى متحف فيكتوريا وألبرت فى لندن. كذلك استوقفتنى لوحة «نساء الحطابة تنسج تاريخها» التى تكشف عن مشروع تشاركى مع خمسة نساء من منطقة الحطابة التاريخية التى تقع بجوار القلعة وصانع الخيامية الحرفى هانى عبدالقادر ومصممة المنسوجات مايا جويلى، الذين عملوا معا على تصميم هذه القطعة التى تحكى قصة الحطابة من وجهة نظر المجتمع المحلى بها، وهو المشروع الذى تم من خلال مبادرة «الأثر لنا«.
كما كشفت مجموعة «مركز»، عن أهمية توظيف التراث بطرق مبتكرة تتضمن إحياءه والحفاظ عليه، إذ تعكس تلك المجموعة من المنسوجات والتى تتضمن مثلا غطاء سرير بتصميم مستوحى من أحد المساجد، عن تعاون بين «مركز» وسيف الرشيدى ومحمد مصطفى عبدالواحد، إذ تتمثل إحدى التحديات الرئيسية التى تواجه الحرف اليدوية فى كيفية ضمان مكان لها فى المنزل العصرى.
الحقيقة أن أحد أهم الجوانب التى تتعلق بمعرض «ذكريات معلقة« يتمثل فى محاولة إحياء أحد أوجه التراث ممثلا فى حرفة الخيامية بصورة عصرية جاذبة، ففى مواجهة قطعة «لوحة تاتشر» تم تعليق عمل الفنان معتز نصر الذى قدمه باستخدام أعواد كبريت خشبية ليعبر عن إحساسه بالفقدان السريع للعديد من أوجه التراث، و حاول من خلال عمله هذا جذب الانتباه إلى جمال التراث.
وعلى الرغم من فترة المعرض القصيرة نسبيا بالنسبة لأهمية الموضوع الذى تناوله، وتنوع المعروضات وجمالها، والتى أتمنى أن تصبح معرضا جوالا ليس فى داخل مصر فقط ولكن خارجها أيضا، إلا أن أثره سيظل باقيا لفترة طويلة نظرا لارتباطه بموضوع حيوى له علاقة بتراثنا الفنى، وهو ما لا ينفصل عن طبيعة عمل المؤرخ سيف الرشيدى الذى يتمحور عمله الأساسى حول الحفاظ على التراث الثقافى. إذ يقول الرشيدى حول تراثنا من الخيامية: يصنف البعض هذا التراث على أنه فن، ويصنفه البعض الآخر على أنه حرفة، والحقيقة أن التصنيف فى حد ذاته لا معنى له هنا فهو ببساطة عمل فنى أنتجه الحرفيون. والأهم من ذلك هو التفكير فى مستقبل هذا التراث المحفوف بالمخاطر، فالخيامية بالرغم من أهميتها وقدم نشأتها إلا أنها تعتبر من التراث المنسى فى مصر.