دوستويفسكى
بمناسبة المئوية الثانية لميلاده
كيف ظهرت المرأة فى أدب دوستويفسكى؟
الثلاثاء، 11 مايو 2021 - 10:35 ص
د.دينا محمد عبده
لا يخلو أدب دوستويفسكى من نماذج نسائية جديرة بلفت الانتباه والتوقف أمامها، بداية من باكورة أعماله «الفقراء»، حيث ظهرت المرأة المعدمة المستضعفة،وهى فارفارا دوبروسيلوفا، التى يستغلها السيد بيكوف ويغرر بها ثم يتزوجها.
يشير النقاد إلى التشابه بين هذه البطلة وبين فارفارا دوستويفسكايا، الأخت الصغرى للكاتب، إذ تزوجت من شخص يكبرها بكثير وأساء معاملتها. وإن كان دوستويفسكى يتعاطف مع بطلته فى «الفقراء» فهو لا يتعاطف أبدًا مع كاترينا بطلة«صاحبة البيت»، فهى المرأة الآثمة الجاهلة، وبالتالى اعتبرها الكاتب رمزًا للشر عند الاختيار الحر للإنسان، فهى تصلى وتصلى طلبا للعفو والغفران، ولكنها تستمر فى الإثم، وتعيش مع مورينى الذى يعد ليس فقط زوجًا غير شرعى، وإنما قاتل والديها وخطيبها.
لكن، كم امرأة معذبة كانت بطلة أعماله؟ يظهر هذا النموذج فى صورة ألكسندرا ميخايلوفنا بطلة «نيتوتشكا نيزفانوفا»، التى ربت نيتوتشكا فى بيتها لمدة ثمان سنوات وكانت تعيش فى وحدة وعزلة كالراهبات فى المعبد، وقد كان السر الذى يضنى روحها هى قصة حب كانت تعيشها مع أحد الأشخاص وتتبادل معه الخطابات دون أن تخون زوجها جسديًا. لكن ما إن علم زوجها حتى أخذ يعذبها بمعاملته القاسية الجافة التى تسببت فى مرضها مرضًا شديدًا لتبدو أيامها معدودة فى نهاية الرواية.
كما تظهر المرأة الأنانية التى تقودها الأغراض والأهواء دون وعى، هى فاريا بطلة «الليالى البيضاء».كذلك المرأة القاسية الشريرة التى لا تعرف شفقة ولا رحمة، مثل الأميرة فى رواية «نيتوتشكا نيزفانوفا». وبشكل عام فدوستويفسكى لا يتدنى بصورة المرأة ولا يجعلها مثالية، وعلى الرغم من تعدد النماذج النسائية لديه هناك شىء واحد يجمعهن وهو أنه لا توجد امرأة واحدة سعيدة بين بطلات أعماله، كما لا يوجد رجل سعيد ولا أسرة سعيدة. ويبدو فى الكثير من أعماله أنه كلما زاد نقاء الشخص زادت تعاسته.
وعلى العموم يمكن تقسيم بطلات دوستويفسكى إلى نموذجين، الأول نساء العقل والحسابات، والثانى نساء العاطفة والوجدانيات. فلو تطرقنا إلى رائعته «الجريمة والعقاب» نجد أنه يمكن النظر إلى بطلته العاهرة سونيا من منظورين. فى الأول نجد البطلة تجسد قيم المسيحية ومبادئها، والثانى تحمل الموروثات الأخلاقية الشعبية منذ الطفولة، ولكن كل هذا بدأ يتغير ويتبدل تحت وطأة الظروف وظلم المجتمع ومسيرة العناء. ورغم المعاناة والإذلال الذى يمكن تخيله ولا يمكن تخيله خلال حياتها القصيرة فقد احتفظت بالنقاء الروحى وصفاء العقل والقلب، فلا عجب أن ينحنى لها راسكولنيكوف قائلا: «إننى أنحنى لكل حزن ومعاناة البشرية» فهى رمز الظلم والقهر فى هذا العالم. وعلى الرغم من كل هذا فقد اختارها دوستويفسكى من أجل إنقاذ وتطهير راسكولنيكوف بعد أن رأى من خلالها اليقين فى الله، واليقين فى الخير الذى لا حدود له، وجعل البطل لأول مرة يفكر فى أن هناك جانبًا روحيًا وأخلاقيًا لكل أفكاره وسلوكياته.
فى «الأبله» يظهر نموذج المرأة العقلانية التى تعيش وفقا لحسابات وأغراض معينة،وهى فاريا إيفولجى، ولكن انصب اهتمام الكاتب على امرأتين أخريين، وهما أجليا وناستاسيا فيليبوفنا. كان ميشكين بطل الرواية يرى الصفات الحميدة فى المرأتين، ويرى أنهما متشابهتان إلى أبعد الحدود على الرغم من اختلاف الشكل، فأجليا جميلة ذكية معتزة بنفسها، لا تأبه كثيرا برأى المحيطين، غير راضية عن أسلوب حياة أسرتها، أما ناستاسيا على النقيض تماما، فهى امرأة مضطربة مندفعة متسرعة، ومع ذلك فهى خاضعة تماما لقدرها غير العادل، وكانت مقتنعة بداخلها أنها امرأة ساقطة وضيعة وكانت أسيرة للمعايير الأخلاقية المحيطة بها، وكانت تطلق على نفسها فتاة شوارع وتريد أن تظهر أسوأ مما هى عليه، وتتصرف بشكل غريب الأطوار.
كانت ناستاسيا فيليبوفنا امرأة عاطفية ولكن أصبحت غير قادرة على الحب، كانت المشاعر تحترق بداخلها ولكنها كانت تحب عارها فقط. وعلى الرغم من أنها تمتلك جمالاً يمكنه أن يقلب العالم رأسًا على عقب، وعلى الرغم أن الرجال كانوا يلاحقونها وكان روجوجين يتنافس مع الأمير ميشكين على حبها إلا أنها كانت ترفض العالم بأسره، وقد التقت فى هذه الدنيا بالكثير من البشر، الراقى منهم والوضيع، إلا أنها كانت لا تريد أن تبقى مع أولئك أو هؤلاء.فكانت ترى أنها لا تستحق أخيار الناس، كما لا يستحقها أرذلهم. رفضت ميشكين وذهبت مع روجوجين، ولم يكن هذا آخر المطاف فقد ظلت متأرجحة بين الاثنين حتى قتل الأخير. لم يقلب جمالها العالم بل أهلك العالم جمالها.
أما بطلة «المراهق» فهى صوفيا أندرييفنا دولجوروكايا، زوجة فيرسيلوف الشرعية، وأم أبنائه. وتعتبر من أكثر النماذج النسائية الإيجابية فى إبداع دوستويفسكى، فهى تتسم بالوداعة الإنسانية، وبالتالى عدم التوانى عن كل الالتزامات المطلوبة منها، فقد كرست كل حياتها لخدمة زوجها وأبنائها. لم يخطر ببالها أن تدافع عن نفسها ضد قسوة الزوج والأبناء وكثرة مطالبهم وظلمهم وجحودهم الشديد وعدم النظر بأى شكل من الأشكال لاهتماماتها أو راحتها. وكان يرى زوجها أن التواضع والطاعة يرجعان إلى أصلها المتواضع البسيط. وتكمن القوة الحقيقية للبطلة فى إيمانها الراسخ بالله وتعلقها الثابت الخالى من الأغراض بما هو أسمى وأرقى فى هذه الحياة. ورغم حياتها التى تقترب من القداسة إلا أن ثمة ذنبا لا يمحى قد اقترفته، فبعد ستة أشهر من زفافها من مكار دولجوروكى،انجذبت لفيرسيلوف وسلمت نفسها له وأصبحت زوجته فى القانون. سيظل الذنب ذنبا حتى لو تم تبرير الظروف. تزوجت الفتاة ذات الثمانية عشر وهى لا تعرف معنى الحب، ونفذت وصايا والدها ورضخت للواقع رضوخا تاما.
قد نلتقى فى حياتنا بأناس يقتربون من القداسة قد لا تلاحظهم أعين الغرباء وقد لا نقدرهم بما فيه الكفاية، لكن تظل الحياة بدونهم صعبة مفككة، ومن بين هؤلاء بطلة دوستويفسكى صوفيا أندرييفنا.
فى رواية «الشياطين» تظهر البطلة داشا شاتوفا المستعدة دائمًا للتضحية بنفسها، كما تظهر البطلة ليزا توشينا الفخورة بنفسها والباردة إلى حد ما، كما تظهر ماريا ليبيدكينا الهادئة اللطيفة والحالمة ولكنه تبدو مجنونة أو نصف مجنونة، ولكن ولأول مرة يظهر نموذج البطلة المعادية للمرأة وهى ماى شاتوفا العائدة من الغرب وتستطيع أن تنمق الكلمات جيداً ولكنها تنسى أن الدور الأساسى للمرأة هو الأمومة وتحاول أن تقوم بأى عمل غريب يبعد كل البعد عن طبيعة المرأة. وقبل الولادة وقبل أن ينزل جنينها إلى الدنيا ظلت تصرخ وتقول اللعنة على كل شىء مقدمًا. فقد كانت ترى أن تربية الأطفال يمكن أن تتم على يد أى شخص وليس الأم فقط، وقررت إرسال وليدها إلى الملجأ ثم بعد ذلك إلى القرية ليتلقى تربيته هناك، لكى تذهب إلى عمل أكثر عقلانية يجعلها تستعيد صحتها. أما النموذج الآخر المعادى للمرأة فهى القابلة أرينا فيرجنسكايا التى كانت ترى أن ولادة الانسان هى تطور مستمر للكائن الحى، ومع ذلك لم يمت تمامًا كل شيء أنثوى فيها، فبعد عام من حياتها مع زوجها سلمت نفسها للكابتن ليبيادكين.
صوّر دوستويفسكى بعبقرية شديدة نماذج متعددة من النساء هن بطلات أعماله وقد يتشابهن فى كثير من الأحيان، لكن لكل شخصية منهن تفردها وتميزها عن غيرها، مما أكسب كل منهما قوة خاصة تميزت بها كبطلة من بطلات دوستويفسكى.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة