لقطة من الفائز على الأوسكار وأربع جوائز أدبية
لقطة من الفائز على الأوسكار وأربع جوائز أدبية


«جولة أخرى».. الحياة ما زالت تستحق

فيلم الأوسكار يدهشنا بحالة خاصة بين البهجة والحزن لأزمة منتصف العمر

الأخبار

الأحد، 16 مايو 2021 - 06:59 م

خالد محمود


ما بين لحظتى البداية والنهاية اللافتة بعمقها وبساطتها فى آن واحد يكمن سر إبداع وجمال الفيلم الدنماركى «جولة أخرى» للمخرج توماس فنتربيرج، والذى طرح بشكل سلس وأخاذ، أزمة منتصف العمر «بالنسبة للرجال»، عبر خلق حالة خاصة ما بين البهجة والتراجيديا.


تنطلق أجواء الفيلم الفائز بأوسكار أفضل عمل غير ناطق بالإنجليزية، من فرضية منسوبة لعالم نرويجي، وتتعلق بتحسين المزاج، مفادها أن احتساء نسبة محددة من المشروبات الكحولية يعادل 0.05%، يساعد فى التخلص من حالة الاكتئاب، وتجاوز التوتر النفسى والفكرى والجسدى فى النصف الثانى من الأربعينيات، مدللاً على ذلك بدراسة علمية تتعلق بأن الحفاظ على نسبة معينة ثابتة من الكحول فى الدم يُحسّن النفسية.


ولأن الحياة ما زالت تستحق أن تعاش يقرر أربعة أصدقاء يعملون بالتدريس الثانوى القيام بتجربة شرب معدل بسيط من الكحول صباح كل يوم ومقارنة كفاءتهم فى العمل وحالتهم الاجتماعية.
دون شك الفكرة براقة وتتيح مساحة لا محدودة من الخيال السبنمائى على الشاشة فى التعامل مع واقع أبطال العمل الأربعة غير الراضين عن حياتهم، وهم مارتن ( مادس ميكلسن) الذى فقد كل شغفه بتدريس مادة التاريخ، ويشعر بأنه بعيد عن عائلته، وأصبح زواجه وعمله على وشك الانهيار، يظهر فى مدرسته بعيون شاردة يكاد لا يلحظ وجوده أحد، لا يتواصل جيدًا مع أطفاله وزوجته ترين «ماريا بونيفي» التى تعمل فى مناوبات ليلية معظم الأيام، حتى طلابه وأولياء أمورهم لا يجدونه أستاذًا يمكن الاعتماد عليه، وفى مشهد عظيم يسأل مارتن زوجته: «هل أصبحت مملاً؟» فتجيبه بعد تنهيدة عميقة مفعمة بالحسرة «لم تعد مارتن الذى عرفته فى السابق».


 باقى الأصدقاء هم تومى (توماس بو لارسن) هو مدرس الصالة الرياضية ومدرب كرة القدم ؛ بيتر (لارس رانثي) هو مدرس الموسيقى وعازف البيانو. نيكولاج (ماغنوس ميلانج) مدرس علم النفس، وأصغر أفراد المجموعة، وكل منهم يعانى من أزمة منتصف العمر، ويبدو وحيدًا وتائهًا ولكن بدرجات متفاوتة.


المهم يوافق الأربعة على تجربة الفكرة أو النظرية فى لحظة مكاشفة أثناء عيد ميلاد أحدهم، فى اليوم التالى، قاموا بتناول بعض المشروبات الكحولية قبل دخول الفصل الدراسى وبالفعل يشعرون بالتحرر تجاه أنفسهم وبرغبة جديدة فى الحياة.
بالنسبة لمارتن، فقد عاد مدرس مبتسم وملهم، حيث يتفاعل مع طلابه بطريقة لم يسبق له مثيل بها منذ سنوات. لقد جعلهم يشاركون فى محادثة نابضة بالحياة وطرق جديدة للنظر فى التاريخ بل يعود أيضًا رجل عائلى يقظ ورومانسي.. لكنه أيضا مع تتابع الأحداث يصور لنا أن الحياة المعيشية ليست على أكمل وجه حتى بعد أن تعتقد أنك تناولت مشروبك للسعادة، حيث تبدو الكاميرا غير المستقرة والمهتزة تنقلب لالتقاط صورة مقربة من الشخصية ثم تتراجع مرة أخرى بطريقة غير متسقة كما تفعلها لحظة الشرب بالإنسان بعد تناول كأسين من النبيذ، حيث تتوافق اللغة البصرية بمهارة مع رحلة الشخصية.
باقى الأصدقاء يجدون نجاحا مماثلا فى البداية، نرى مدرس الموسيقى يشجع طلابه على الغناء أكثر بقلوبهم وأرواحهم ؛ يتعرف مدرس الفلسفة على قلق وحيرة أحد طلابه بطريقة جديدة. ثم تبدأ المجموعة الرباعية فى تغيير شروط التجربة، والتى يعلم الجميع أنها فكرة سيئة وبات عليهم وعلينا تقبل الحياة كما هى وعلى غرار المشهد الافتتاحي، اختتم الفيلم برقصة مارتن على أغنية ربما تلخص رسالة الفيلم الأساسية.. تقول كلماتها «لا أعرف أين أنا فى الواقع، لكننى شاب وحيّ.. اللعنة على ما يقولون.. لا أريد أن أقلق لأى شيء ومن أى شيء.. لكن هذا يجعلنى مرعوباً من أن أكون فى الجانب الآخر.. لا أريد أن أقلق.. يا لها من حياة، يا لها من رحلة جميلة.. لا بأس، نحن نعيش، لا أعرف أين أنا فى الواقع، لكننى شاب وحيّ.. يا لها من حياة».


وكأن هذه الرقصة البارعة التى استحضرها من سنوات شبابه قد أعادت إليه الحيوية مرة أخرى.
قدّم كل من المخرج فنتربيرج وممثله المفضل المبدع مادس ميكلسن صاحب الكاريزما الرائعة، والكاتب توبياس ليندهولم فيلماً مبهجا ومفجعاً فى آن، دون أى قصد مباشر وفج فى رحلة الحياة وتحولاتها وتعاملوا ببراعة فى تقديم فيلم عن الكيفية التى من الممكن لأيّ مأزوم، بغض النظر عن المُسبّبات، التعاطى معها تحت اى ظروف.
وكان هناك سؤال على لسان مارتن، وهو إن كنت ستقدم على الشراب هل ستفرط فى الشرب أم ستستطيع التحكم بنفسك وتشرب فقط احتفالًا أو فى مناسبة ما؟ أو بعبارة أخرى هل ستفجر رأسك مثل إرنست هيمنجواى أم ستكسب الحرب العالمية الثانية مثل ونستون تشرشل؟ فالسيناريو قدم لنا تلك الأفكار بتسلسل رائع فى الأحداث.
ورسم خطًا سرديًا متحررًا : فكلما تقدمت الشخصيات فى تجربتهم، أصبحت ردود الفعل متعددة وتتسبب فى تأثيرات مختلفة على ما يحيط بهم (مشاكل زوجية، عمل مهدد، غير متوازن، وما إلى ذلك) وذلك عبر المشاهد القوية واللحظات الفردية المثيرة للإعجاب مع رسم شخصيات معقدة كانت سبباً لخروج أداءات عظيمة تشكل بحق زواجا رائعا بين الممثل والسيناريو ومهارات وقدرات مخرج أدهشنا كثيرا، فكم كان الأداء رائعا لممثل «مادس» نجح فى نقل التوازن الصحيح بين الفكاهة والحزن لرجل قابلناه فى خضم أزمة منتصف العمر التى يمر بها ومعه توماس بو لارسن كأفضل صديق لمارتن تومي، والكيمياء بين الأصدقاء الأربعة «بما فى ذلك لارس رانثى وماجنوس ميلانج»


على الرغم من أن أزمة منتصف العمر قد عولجت بإسهاب فى كثير من الأفلام حول العالم، إلا أن الروح مختلفة وكانت الأزمة أعمق من مجرد استكشاف فوضى لأربعة مدرسين جربوا الكحول لإضفاء الحيوية على حياتهم، بل كان ترنيمة لبهجة الحياة، فلا يقصد بالفيلم أن يكون احتفالاً بالكحول أو ترنيمة للكحول كأسلوب حياة، بل على العكس. إنه يكشف بشكل صارخ بعض العواقب المحتملة لطريقة الحياة هذه، ولكنه فى نفس الوقت هو تحذير من أن الحياة فى بعض الأحيان تكون أكثر سعادة كلما قللنا من جدية تعاملنا معها، وقد حصد الفيلم بجانب الأوسكار أربع جوائز أوروبية.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة