غير المغضوب عليه
«غير المغضوب عليه»..
شعرية السرد وأسطرة الواقع
الثلاثاء، 18 مايو 2021 - 10:01 ص
محمد عبد الحميد توفيق
إذا كانت مقولة «الإبداع بديل عن الانتحار» حاضرة فى وجدان الأدب الإنسانى بصفة عامة، فإنها أضحت أكثر حضوراً وتجلياً فى عصرنا هذا، حيث ينسحق الإنسان تحت وطأة الرأسمالية المتوحشة من ناحية، ومن ناحية أخرى تتكالب على المبدع جملة ظروف ضاغطة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، فضلاً عن الشتات والقلق المسيطرين فى رحلة البحث عن الهوية، والصراع الذى يُخرج الكاتب من دائرة التأمل إلى التشظى واللهاث بحثاً عن واقع أفضل وحياة أهدأ، وعلاقات إنسانية أكثر ثباتاً ورسوخاً فى دائرة الوضوح والخير المُبتغى، غير أن كل هذا الأمل يتلاشى فى ظل اللهاث المادى المحموم، وهيمنة الشر والتناقضات والانتكاسات الماثلة بسبب ضبابية الرؤية، واضمحلال مساحة الهدوء المُرتجى، فلا يكون للمبدع سوى كلمته التى يشكل بها معبرا بين عالم مُهترئ وواقع مأمول.
من هنا جاءت مجموعة «غير المغضوب عليه» لعلاء البربرى بديلاً وارفاً عن الصمت، ومرتكزاً لخطوات نحو أفق أرحب، عبر قصص قصيرة جداً «شكلاً» لكنها طويلة مضمونأً وثرية بما تحمله من رموز ورؤى ومواربة وإقدام ونكوص، وفضح لقبح الواقع، وصراخ هادئ، لكنه موار وصاخب، وفى غير موضع بدت القصص القصيرة جدا أشبه بومضات كاشفة للهم الإنسانى العام انطلاقاً من الشجن الذاتى والأحاسيس الخاصة، وتجلت الرمزية فى سرد مكتنز ولغة محملة بالوجع من ناحية، ودلالات موارة بالثورة والتمرد ولغة الرفض لتناقضات الواقع من ناحية أخرى.
ولأول وهلة يفصح علاء البربرى عن كنه مشروعه القصصى فى هذه المجموعة، فبدءاً من عنوانها «غير المغضوب عليه» يتناص مع النص القرآنى المقدس، لكن العبارة المشتقة من أولى سور القرآن الكريم، جاءت أشبه بفاتحة لإثبات حضور الألم، فالمغضوب عليه توزع على أكثر من 18 قصة قصيرة جداً، وبدا شاخصاً فى لحظات النكوص والإقدام كما فى «قصة منسية» ص 15، وقصة «المريض» ص 20، وحديث ودى «31»، و«نكد زوجى » (ص 104).
إن «المغضوب عليه»، ليس مجرد عنوان للمجموعة القصصية، بل هو وجه الحياة بقسوتها وضغطها على الذات الحالمة، وهو المعادل الموضوعى للأمل والألم والحلم المبتور والخطوات التى تتلمس الطريق فلا تجده، والعيون التى تبصر فى الظاهر لكنها عمياء فى الباطن.
وإذا كان البربرى جعل «غير المغضوب عليه» صورة لجميع «المغضوب عليهم» بسبب البحث عن الحلم والوعى والرقة والقبض على الأمل، فإنه كشف عن صرخة هائلة فى إهدائه الذى تصدّر المجموعة «الىَّأنا الذى حاولتُ طول حياتى أنْ أعرفنى، فلم أستطع، إلى صفحة الماء التى نظرتُ إليها عن طريق الخطأ». هذه الصرخة التى تشير إلى الوردة من دون أن تلمسها، وتلمّح بأوجاع الذات المجهولة بلا تصريح، وتفتتح علاقة حميمة مع مفردات الوجود من غير إبحار فى جوهرها، فالصدود يُباغت النفس الحالمة، والخطأ أو «التخطىء القسرى» نهاية حتمية فى هذا الواقع البليد المعتم.
شعرية القصة
إذا كانت القصة القصيرة الابن الشرعى للشعر، فإن علاء البربرى تماهى بصورة كبيرة مع الشعر وتقاطع مع بنيته فى مجموعته «غير المغضوب عليه»، وبدت الكثير من نصوص المجموعة أقرب ما تكون إلى قصائد نثر، وجاءت الرؤية الكلية وتجليات السرد الأسلوبية والبناء اللغوى والصورة الجزئية والكلية مشتبكة مع بنية الشعر الحداثى، لكنه فى النهاية لا يتخلى عن «كنه القصة القصيرة ومقوماتها»، ولعل العين الراصدة لا تنكر مقدرة القاص الجلية على التعبير اللغوى الذى يجمع فيه بين رهافة السرد والحبكة المدهشة، وصولاً إلى أعلى درجات الحساسية السردية والشعرية فى آن، ولعل ذلك يتجلى فى قصة «يسكن فى سحابة» ص 96، والتى تفتح أفق التأمل على الحلم والالتصاق بالذات:
أنا الرماديُّ الساكن فى سحابة
وحدى أقاوم سقوط المطر
وأنا المنهمر على ذات مشبعة بالعذاب .. أكلم نفسى وأواعدها فلا نلتقى.
ورغم المآخذ على «شعرية القصة» لدى الكثير من النماذج القصصية المتماهية مع الشعر، وتحديدا «قصيدة النثر»، جاءت شعرية السرد فى مجموعة «غير المغضوب عليه» متكئة على سمات أسلوبية جعلتها واقعة فى منطقة وسطى بين الشعر والسرد، لكنها تنطوى على مقومات القصة بصورة أكبر من انتمائها للشعر، ومن هذه السمات: الحكاية المقتضبة والسرد المكتنز. كما فى قصة «الربع الخالى»: «الجوع ينتهى بالشبع، والحب لغز بعيد، أعدو وراء لغة لا يتكلمها أحد كى نتفاهم»، ثم يأتى السرد المكتنز ليصنع دائرة تبدأ من قصة «نكد زوجى»: «الورقة التى كانت ملقاة على الأرض.. الأرض التى كان عليه أن ينظفها جيداً قبل وصولها.. وصولها الذى زاده هماً على هم». وتنتهى عند قصة «ثلاثة» والتى تجسد حالة شعرية سردية مساحة المسكوت عنه فيها أكبر بكثير من المحكى على الورق «فى هذه اللحظة والشمس تغيب، أريد امرأة فاجرة فى العشق لا فى الخصومة، امرأة لا تنتظر غياب الشمس كى تقف أمامى، ثم ترمى بعريها على جنونى».
القبض على الواقع ومزجه بالأسطورة. وبينما أنسن السارد الأشياء وتوحد معها، جعلها تنطق بتفاصيل الواقع ومجريات الحياة، ولعل أسطرة الحياة هنا وسيلة مراوغة بالسرد القائم على الحساسية العالية للغة، والصانع لبنية موسيقية موغلة فى الشعر والخيال الأسطورى، فالنوم يتكلم ويشرب الشاى كما فى قصة «الهارب»، والوحدة كائن حى وشريك حياة، كما فى «سيدتى الوحدة»، أما الكوابيس فهى كائنات حية لمعتقلين وجرحى وشهداء، «قصة منسية»، لكن أروع ما فى هذه القصة«اليد التى تحدثت حديث المُواسى على قلة حيلته وعجزه».
وحينما يقصر الكلام عن توصيل دلالات القهر والألم والكبت والخذلان، تنطق الحروف بالهم الإنسانى وتترجم أحزانه وآماله وآلامه "قال صاد يوماً لسين: لماذا لا تُغطى سوى نصفك العلوي؟ رد سين وهو يهتز ويصعد باهتزازاته: أنت صديق عمرى، لماذا تسأل الآن بالذات؟ قصة «الجائزة 99».
تشكيل حالات التكثيف والإيجاز والإحالة على الواقع برمزية تنطلق من النص إلى عوامل ماثلة خارجه. فالسارد هنا يؤنسن الكائنات والأشياء ويتحاور معها، ويستأنسها ليرمز بها إلى حالة التمرد والتوحد مع الذات انطلاقاً نحو تفاصيل وجودية وقضايا مجتمعية، وتبدو القصص القصيرة جداً أشبه بوسيلة شحن للجسد والروح، وجاءت العبارات القصيرة المكثفة دالة وموجزة تعبيراً عن الضيق بالحال والضجر من الظروف وتجسيداً للصراع النفسى والوجودي.
وبدت حالة التكثيف والإيجاز فى قصة « فأر جميل» حيث يرمز الفأر لصراع من نوع خاص بين الحب والخوف والظلم والعدل والشر والخير، تماماً كما يتحدث المطر عن معاناته، وكما كان الضجر حكيماً فلم ينفجر ولم يوص حتى بزجاجة نبيذ. وفى قصة «لعنة» يتحول "السيد صفر" إلى فزاعة وهمية ترمز إلى حياة موازية خارج النص، فهذا الذى يرى ما لا يراه الآخرون لابد أن وراءه حكاية أخرى مسكوتا عنها، ومتروكة للمتلقى لتخيلها.
التناص مع القرآن
مثلما جاء عنوان المجموعة مشتقاً من فاتحة الكتاب «غير المغضوب عليه»، اشتملت الكثير من القصص فى جزئها الأول على عبارات تتناص مع آيات قرآنية، ومن ذلك«قبضتُ قبضة من أثر الرسول»، وهى العبارة الواردة فى الآية القرآنية « قال بصرتُ بما لم يبصروا به فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول فنبذتُها وكذلك سولت لى نفسى»، «الآية 96 سورة طه»، ومن هذه الآية أيضاً جاء قول القاص «بصرتُ بما لم تبصر به» (ص 71) ، لكن يلاحظ هنا أمران:
الأول: أن التناص مع القرآن جاء لخلق حالة روحانية تتماشى مع الشجن المسيطر على النص، والرغبة فى تبرير الفعل الأسطورى بالالتصاق بالمقدس والغيبى.
الثاني: كسر نمطية السرد المعتاد، وخلق بنية حداثية مضفرة بلغة تتماس مع أجزاء بعينها من النص القرآنى فى دلالة على التماهى مع حالة كشف الحجب والإيغال فى أسرار النفس فى إقدامها وإحجامها وأفراحها وأتراحها وتمردها وسكونها.
القاص متمكن من لغته، وجاءت قصص «غير المغضوب عليه» على درجة عالية من المهارة اللغوية سرداً وبناءً وبلاغة، وخلت من الترهل والسيولة غير المبررة، فكل عبارة موظفة بصورة جيدة وخادمة للفكرة الكلية والجزئية، غير أن المجموعة لم تخل من الهنات.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة