غير المغضوب عليه
غير المغضوب عليه


«غير المغضوب عليه»..

شعرية السرد وأسطرة الواقع

أخبار الأدب

الثلاثاء، 18 مايو 2021 - 10:01 ص

محمد‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬توفيق‭ ‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬الإبداع‭ ‬بديل‭ ‬عن‭ ‬الانتحار‮»‬‭ ‬حاضرة‭ ‬فى‭ ‬وجدان‭ ‬الأدب‭ ‬الإنسانى‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬فإنها‭ ‬أضحت‭ ‬أكثر‭ ‬حضوراً‭ ‬وتجلياً‭ ‬فى‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا،‭ ‬حيث‭ ‬ينسحق‭ ‬الإنسان‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تتكالب‭ ‬على‭ ‬المبدع‭ ‬جملة‭ ‬ظروف‭ ‬ضاغطة‭ ‬اجتماعية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وسياسية‭ ‬وثقافية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الشتات‭ ‬والقلق‭ ‬المسيطرين‭ ‬فى‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية،‭ ‬والصراع‭  ‬الذى‭ ‬يُخرج‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬التأمل‭ ‬إلى‭ ‬التشظى‭ ‬واللهاث‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬أفضل‭ ‬وحياة‭ ‬أهدأ،‭ ‬وعلاقات‭ ‬إنسانية‭ ‬أكثر‭ ‬ثباتاً‭ ‬ورسوخاً‭ ‬فى‭ ‬دائرة‭ ‬الوضوح‭ ‬والخير‭ ‬المُبتغى،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الأمل‭ ‬يتلاشى‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬اللهاث‭ ‬المادى‭ ‬المحموم،‭ ‬وهيمنة‭ ‬الشر‭ ‬والتناقضات‭ ‬والانتكاسات‭ ‬الماثلة‭ ‬بسبب‭ ‬ضبابية‭ ‬الرؤية،‭ ‬واضمحلال‭ ‬مساحة‭ ‬الهدوء‭ ‬المُرتجى،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬للمبدع‭ ‬سوى‭ ‬كلمته‭ ‬التى‭ ‬يشكل‭ ‬بها‭ ‬معبرا‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬مُهترئ‭ ‬وواقع‭ ‬مأمول‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬جاءت‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬‭  ‬لعلاء‭ ‬البربرى‭ ‬بديلاً‭ ‬وارفاً‭ ‬عن‭ ‬الصمت،‭ ‬ومرتكزاً‭ ‬لخطوات‭ ‬نحو‭ ‬أفق‭ ‬أرحب،‭ ‬عبر‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة‭ ‬جداً‭ ‬‮«‬شكلاً‮»‬‭ ‬لكنها‭ ‬طويلة‭ ‬مضمونأً‭ ‬وثرية‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬ورؤى‭ ‬ومواربة‭ ‬وإقدام‭ ‬ونكوص،‭ ‬وفضح‭ ‬لقبح‭ ‬الواقع،‭ ‬وصراخ‭ ‬هادئ،‭ ‬لكنه‭ ‬موار‭ ‬وصاخب،‭ ‬وفى‭ ‬غير‭ ‬موضع‭ ‬بدت‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬جدا‭ ‬أشبه‭ ‬بومضات‭ ‬كاشفة‭ ‬للهم‭ ‬الإنسانى‭ ‬العام‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬الشجن‭ ‬الذاتى‭ ‬والأحاسيس‭ ‬الخاصة،‭ ‬وتجلت‭ ‬الرمزية‭ ‬فى‭ ‬سرد‭ ‬مكتنز‭ ‬ولغة‭ ‬محملة‭ ‬بالوجع‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ودلالات‭ ‬موارة‭ ‬بالثورة‭  ‬والتمرد‭ ‬ولغة‭ ‬الرفض‭ ‬لتناقضات‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

ولأول‭ ‬وهلة‭ ‬يفصح‭ ‬علاء‭ ‬البربرى‭ ‬عن‭ ‬كنه‭ ‬مشروعه‭ ‬القصصى‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة،‭ ‬فبدءاً‭ ‬من‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬‭ ‬يتناص‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬القرآنى‭ ‬المقدس،‭ ‬لكن‭ ‬العبارة‭ ‬المشتقة‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬سور‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬جاءت‭ ‬أشبه‭ ‬بفاتحة‭ ‬لإثبات‭ ‬حضور‭ ‬الألم،‭ ‬فالمغضوب‭ ‬عليه‭ ‬توزع‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬18‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬جداً،‭ ‬وبدا‭ ‬شاخصاً‭ ‬فى‭ ‬لحظات‭ ‬النكوص‭ ‬والإقدام‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬منسية‮»‬‭ ‬ص‭ ‬15،‭ ‬وقصة‭ ‬‮«‬المريض‮»‬‭ ‬ص‭ ‬20،‭ ‬وحديث‭ ‬ودى‭ ‬‮«‬31‮»‬،‭ ‬و«نكد‭ ‬زوجى‭ ‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬104‭).‬

إن‭ ‬‮«‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬عنوان‭ ‬للمجموعة‭ ‬القصصية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭  ‬وجه‭ ‬الحياة‭ ‬بقسوتها‭ ‬وضغطها‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬الحالمة،‭ ‬وهو‭ ‬المعادل‭ ‬الموضوعى‭ ‬للأمل‭ ‬والألم‭ ‬والحلم‭ ‬المبتور‭ ‬والخطوات‭ ‬التى‭ ‬تتلمس‭ ‬الطريق‭ ‬فلا‭ ‬تجده،‭ ‬والعيون‭ ‬التى‭ ‬تبصر‭ ‬فى‭ ‬الظاهر‭ ‬لكنها‭ ‬عمياء‭ ‬فى‭ ‬الباطن‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬البربرى‭ ‬جعل‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬‭ ‬صورة‭ ‬لجميع‭  ‬‮«‬المغضوب‭ ‬عليهم‮»‬‭ ‬بسبب‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحلم‭ ‬والوعى‭ ‬والرقة‭ ‬والقبض‭ ‬على‭ ‬الأمل،‭ ‬فإنه‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬صرخة‭ ‬هائلة‭ ‬فى‭ ‬إهدائه‭ ‬الذى‭ ‬تصدّر‭ ‬المجموعة‭ ‬‮«‬الىَّأنا‭ ‬الذى‭ ‬حاولتُ‭ ‬طول‭ ‬حياتى‭ ‬أنْ‭ ‬أعرفنى،‭ ‬فلم‭ ‬أستطع،‭ ‬إلى‭ ‬صفحة‭ ‬الماء‭ ‬التى‭ ‬نظرتُ‭ ‬إليها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخطأ‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬الصرخة‭ ‬التى‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الوردة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلمسها،‭ ‬وتلمّح‭ ‬بأوجاع‭ ‬الذات‭ ‬المجهولة‭ ‬بلا‭ ‬تصريح،‭ ‬وتفتتح‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬مع‭ ‬مفردات‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إبحار‭ ‬فى‭ ‬جوهرها،‭ ‬فالصدود‭ ‬يُباغت‭ ‬النفس‭ ‬الحالمة،‭ ‬والخطأ‭ ‬أو‭ ‬‮«‬التخطىء‭ ‬القسرى‮»‬‭ ‬نهاية‭ ‬حتمية‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬البليد‭ ‬المعتم‭.‬

شعرية‭ ‬القصة

إذا‭ ‬كانت‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬الابن‭ ‬الشرعى‭ ‬للشعر،‭ ‬فإن‭ ‬علاء‭ ‬البربرى‭ ‬تماهى‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬وتقاطع‭ ‬مع‭ ‬بنيته‭ ‬فى‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬وبدت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬قصائد‭ ‬نثر،‭ ‬وجاءت‭ ‬الرؤية‭ ‬الكلية‭ ‬وتجليات‭ ‬السرد‭ ‬الأسلوبية‭ ‬والبناء‭ ‬اللغوى‭ ‬والصورة‭ ‬الجزئية‭ ‬والكلية‭ ‬مشتبكة‭ ‬مع‭ ‬بنية‭ ‬الشعر‭ ‬الحداثى،‭ ‬لكنه‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬لا‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬‮«‬كنه‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬ومقوماتها‮»‬،‭ ‬ولعل‭ ‬العين‭ ‬الراصدة‭ ‬لا‭ ‬تنكر‭ ‬مقدرة‭ ‬القاص‭ ‬الجلية‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬اللغوى‭ ‬الذى‭ ‬يجمع‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬رهافة‭ ‬السرد‭ ‬والحبكة‭ ‬المدهشة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الحساسية‭ ‬السردية‭ ‬والشعرية‭ ‬فى‭ ‬آن،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬يتجلى‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬يسكن‭ ‬فى‭ ‬سحابة‮»‬‭ ‬ص‭ ‬96،‭ ‬والتى‭ ‬تفتح‭ ‬أفق‭ ‬التأمل‭ ‬على‭ ‬الحلم‭ ‬والالتصاق‭ ‬بالذات‭:‬

أنا‭ ‬الرماديُّ‭ ‬الساكن‭ ‬فى‭ ‬سحابة

وحدى‭ ‬أقاوم‭ ‬سقوط‭ ‬المطر‭ ‬

وأنا‭ ‬المنهمر‭ ‬على‭ ‬ذات‭ ‬مشبعة‭ ‬بالعذاب‭ .. ‬أكلم‭ ‬نفسى‭ ‬وأواعدها‭ ‬فلا‭ ‬نلتقى‭.‬

ورغم‭ ‬المآخذ‭ ‬على‭ ‬‮«‬شعرية‭ ‬القصة‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬القصصية‭ ‬المتماهية‭ ‬مع‭ ‬الشعر،‭ ‬وتحديدا‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬،‭ ‬جاءت‭ ‬شعرية‭ ‬السرد‭ ‬فى‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬‭ ‬متكئة‭ ‬على‭ ‬سمات‭ ‬أسلوبية‭ ‬جعلتها‭ ‬واقعة‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬وسطى‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والسرد،‭ ‬لكنها‭ ‬تنطوى‭ ‬على‭ ‬مقومات‭ ‬القصة‭ ‬بصورة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬انتمائها‭ ‬للشعر،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬السمات‭: ‬الحكاية‭ ‬المقتضبة‭ ‬والسرد‭ ‬المكتنز‭. ‬كما‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الربع‭ ‬الخالى‮»‬‭: ‬‮«‬الجوع‭ ‬ينتهى‭ ‬بالشبع،‭ ‬والحب‭ ‬لغز‭ ‬بعيد،‭ ‬أعدو‭ ‬وراء‭ ‬لغة‭ ‬لا‭ ‬يتكلمها‭ ‬أحد‭ ‬كى‭ ‬نتفاهم‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يأتى‭ ‬السرد‭ ‬المكتنز‭ ‬ليصنع‭ ‬دائرة‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬نكد‭ ‬زوجى‮»‬‭: ‬‮«‬الورقة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬ملقاة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.. ‬الأرض‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬ينظفها‭ ‬جيداً‭ ‬قبل‭ ‬وصولها‭.. ‬وصولها‭ ‬الذى‭ ‬زاده‭ ‬هماً‭ ‬على‭ ‬هم‮»‬‭. ‬وتنتهى‭ ‬عند‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬ثلاثة‮»‬‭ ‬والتى‭ ‬تجسد‭ ‬حالة‭ ‬شعرية‭ ‬سردية‭ ‬مساحة‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭ ‬فيها‭  ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المحكى‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬‮«‬فى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬والشمس‭ ‬تغيب،‭ ‬أريد‭ ‬امرأة‭ ‬فاجرة‭ ‬فى‭ ‬العشق‭ ‬لا‭ ‬فى‭ ‬الخصومة،‭ ‬امرأة‭ ‬لا‭ ‬تنتظر‭ ‬غياب‭ ‬الشمس‭ ‬كى‭ ‬تقف‭ ‬أمامى،‭ ‬ثم‭ ‬ترمى‭ ‬بعريها‭ ‬على‭ ‬جنونى‮»‬‭.‬

القبض‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬ومزجه‭ ‬بالأسطورة‭. ‬وبينما‭ ‬أنسن‭ ‬السارد‭ ‬الأشياء‭ ‬وتوحد‭ ‬معها،‭ ‬جعلها‭ ‬تنطق‭ ‬بتفاصيل‭ ‬الواقع‭ ‬ومجريات‭ ‬الحياة،‭ ‬ولعل‭ ‬أسطرة‭ ‬الحياة‭ ‬هنا‭ ‬وسيلة‭ ‬مراوغة‭ ‬بالسرد‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الحساسية‭ ‬العالية‭ ‬للغة،‭ ‬والصانع‭ ‬لبنية‭ ‬موسيقية‭ ‬موغلة‭ ‬فى‭ ‬الشعر‭ ‬والخيال‭ ‬الأسطورى،‭ ‬فالنوم‭ ‬يتكلم‭ ‬ويشرب‭ ‬الشاى‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الهارب‮»‬،‭ ‬والوحدة‭ ‬كائن‭ ‬حى‭ ‬وشريك‭ ‬حياة،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬سيدتى‭ ‬الوحدة‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬الكوابيس‭ ‬فهى‭ ‬كائنات‭ ‬حية‭ ‬لمعتقلين‭ ‬وجرحى‭ ‬وشهداء،‭ ‬‮«‬قصة‭ ‬منسية‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬القصة«اليد‭ ‬التى‭ ‬تحدثت‭ ‬حديث‭ ‬المُواسى‭ ‬على‭ ‬قلة‭ ‬حيلته‭ ‬وعجزه‮»‬‭.‬

‭ ‬وحينما‭ ‬يقصر‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬توصيل‭ ‬دلالات‭ ‬القهر‭ ‬والألم‭ ‬والكبت‭ ‬والخذلان،‭ ‬تنطق‭ ‬الحروف‭ ‬بالهم‭ ‬الإنسانى‭ ‬وتترجم‭ ‬أحزانه‭ ‬وآماله‭ ‬وآلامه‭ "‬قال‭ ‬صاد‭ ‬يوماً‭ ‬لسين‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تُغطى‭ ‬سوى‭ ‬نصفك‭ ‬العلوي؟‭ ‬رد‭ ‬سين‭ ‬وهو‭ ‬يهتز‭ ‬ويصعد‭ ‬باهتزازاته‭: ‬أنت‭ ‬صديق‭ ‬عمرى،‭ ‬لماذا‭ ‬تسأل‭ ‬الآن‭ ‬بالذات؟‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الجائزة‭ ‬99‮»‬‭.‬

تشكيل‭ ‬حالات‭ ‬التكثيف‭ ‬والإيجاز‭ ‬والإحالة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬برمزية‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬عوامل‭ ‬ماثلة‭ ‬خارجه‭. ‬فالسارد‭ ‬هنا‭ ‬يؤنسن‭ ‬الكائنات‭ ‬والأشياء‭ ‬ويتحاور‭ ‬معها،‭ ‬ويستأنسها‭ ‬ليرمز‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬التمرد‭ ‬والتوحد‭ ‬مع‭ ‬الذات‭ ‬انطلاقاً‭ ‬نحو‭ ‬تفاصيل‭ ‬وجودية‭ ‬وقضايا‭ ‬مجتمعية،‭ ‬وتبدو‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‭ ‬أشبه‭ ‬بوسيلة‭ ‬شحن‭ ‬للجسد‭ ‬والروح،‭ ‬وجاءت‭ ‬العبارات‭ ‬القصيرة‭ ‬المكثفة‭ ‬دالة‭ ‬وموجزة‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬الضيق‭ ‬بالحال‭ ‬والضجر‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬وتجسيداً‭ ‬للصراع‭ ‬النفسى‭ ‬والوجودي‭. ‬

وبدت‭ ‬حالة‭ ‬التكثيف‭ ‬والإيجاز‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬‭ ‬فأر‭ ‬جميل‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬يرمز‭ ‬الفأر‭ ‬لصراع‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬بين‭ ‬الحب‭ ‬والخوف‭ ‬والظلم‭ ‬والعدل‭ ‬والشر‭ ‬والخير،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يتحدث‭ ‬المطر‭ ‬عن‭ ‬معاناته،‭ ‬وكما‭ ‬كان‭ ‬الضجر‭ ‬حكيماً‭ ‬فلم‭ ‬ينفجر‭ ‬ولم‭ ‬يوص‭ ‬حتى‭ ‬بزجاجة‭ ‬نبيذ‭. ‬وفى‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬لعنة‮»‬‭ ‬يتحول‭ "‬السيد‭ ‬صفر‭" ‬إلى‭ ‬فزاعة‭ ‬وهمية‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬موازية‭ ‬خارج‭ ‬النص،‭ ‬فهذا‭ ‬الذى‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬الآخرون‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬وراءه‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى‭ ‬مسكوتا‭ ‬عنها،‭ ‬ومتروكة‭ ‬للمتلقى‭ ‬لتخيلها‭.‬

التناص‭ ‬مع‭ ‬القرآن

مثلما‭ ‬جاء‭ ‬عنوان‭ ‬المجموعة‭ ‬مشتقاً‭ ‬من‭ ‬فاتحة‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬اشتملت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬فى‭ ‬جزئها‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬عبارات‭ ‬تتناص‭ ‬مع‭ ‬آيات‭ ‬قرآنية،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك«قبضتُ‭ ‬قبضة‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬الرسول‮»‬،‭ ‬وهى‭ ‬العبارة‭ ‬الواردة‭ ‬فى‭ ‬الآية‭ ‬القرآنية‭ ‬‮«‬‭ ‬قال‭ ‬بصرتُ‭ ‬بما‭ ‬لم‭ ‬يبصروا‭ ‬به‭ ‬فقبضتُ‭ ‬قبضةً‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬الرسول‭ ‬فنبذتُها‭ ‬وكذلك‭ ‬سولت‭ ‬لى‭ ‬نفسى‮»‬،‭ ‬‮«‬الآية‭ ‬96‭ ‬سورة‭ ‬طه‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬أيضاً‭ ‬جاء‭ ‬قول‭ ‬القاص‭ ‬‮«‬بصرتُ‭ ‬بما‭ ‬لم‭ ‬تبصر‭ ‬به‮»‬‭ (‬ص‭ ‬71‭) ‬،‭ ‬لكن‭ ‬يلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أمران‭:‬

الأول‭: ‬أن‭ ‬التناص‭ ‬مع‭ ‬القرآن‭ ‬جاء‭ ‬لخلق‭ ‬حالة‭ ‬روحانية‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬الشجن‭ ‬المسيطر‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬والرغبة‭ ‬فى‭ ‬تبرير‭ ‬الفعل‭ ‬الأسطورى‭ ‬بالالتصاق‭ ‬بالمقدس‭ ‬والغيبى‭.‬

الثاني‭: ‬كسر‭ ‬نمطية‭ ‬السرد‭ ‬المعتاد،‭ ‬وخلق‭ ‬بنية‭ ‬حداثية‭  ‬مضفرة‭ ‬بلغة‭ ‬تتماس‭ ‬مع‭ ‬أجزاء‭ ‬بعينها‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬القرآنى‭ ‬فى‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬التماهى‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬كشف‭ ‬الحجب‭ ‬والإيغال‭ ‬فى‭ ‬أسرار‭ ‬النفس‭ ‬فى‭ ‬إقدامها‭ ‬وإحجامها‭ ‬وأفراحها‭ ‬وأتراحها‭ ‬وتمردها‭ ‬وسكونها‭.‬

القاص‭ ‬متمكن‭ ‬من‭ ‬لغته،‭ ‬وجاءت‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬غير‭ ‬المغضوب‭ ‬عليه‮»‬‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬المهارة‭ ‬اللغوية‭ ‬سرداً‭ ‬وبناءً‭ ‬وبلاغة،‭ ‬وخلت‭ ‬من‭ ‬الترهل‭ ‬والسيولة‭ ‬غير‭ ‬المبررة،‭ ‬فكل‭ ‬عبارة‭ ‬موظفة‭ ‬بصورة‭ ‬جيدة‭ ‬وخادمة‭ ‬للفكرة‭ ‬الكلية‭ ‬والجزئية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬المجموعة‭ ‬لم‭ ‬تخل‭ ‬من‭ ‬الهنات‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة