الرئيس محمد انور السادات يستقبل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب
الرئيس محمد انور السادات يستقبل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب


عندليب الصحافة يسترجع معاهدة «النحاس».. ويرصد مأزق الموسيقار مع الرئيس

الأخبار

الأربعاء، 26 مايو 2021 - 06:27 م

بقلم : محمود عوض

فى جلستى المنفردة مع الموسيقار محمد عبد الوهاب, بناء على طلبه وتكرارا لجلسات منفردة مماثلة اعتادها معى, جربت تغيير مجرى الحديث حينما سألته عن رأيه فى الزعيم مصطفى النحاس, زعيم هايل وهو نفسه كان من بين معجبيه. هكذا رد عبد الوهاب.

قلت له: " عظيم.. مصطفى النحاس كرئيس لوزراء مصر أبرم معاهدة مع بريطانيا ـ المحتلة لمصر منذ سنة 1882ـ وانتقدها وطنيون كثيرون مهاجمين النحاس والمعاهدة باعتبارها مجرد إعادة انتشار لقوات الاحتلال داخل مصر، بينما لا تتيح لمصر سوى قشور تجميلية وتعطيها الاستقلال شكلا لكن من غير مضمون حقيقى وكما قرأت فى مراجعى، فإن أبسط تلخيص لأنصار المعاهدة وخصومها جاء فى مقالين متقابلين في مجلة " آخر ساعة "، الأول بقلم مصطفى أمين وعنوانه "أوقعها وألعنها"، والثانى بقلم كامل الشناوي وعنوانه " ألعنها ولا أوقعها "، يعنى كلا الطرفين متفقان على أنها معاهدة سيئة ومجحفة، لكن الخلاف يأتى من فكرة أن هذا هو الممكن والمتاح، ربما من أجل هذا اختار مصطفى النحاس أن يوقع المعاهدة منطلقا فى حينها ليدافع عن المعاهدة باستماتة معتبرا أنها " معاهدة الشرف والاستقلال".

ومع ذلك، وبمرور الوقت وخيبة الآمال وانكشاف الأوهام واستمرار أكثر من ثمانين ألف جندى بريطانى فى مصر من خلال قاعدة عسكرية ضخمة بامتداد قناة السويس تضاعفت الإحتجاجات الشعبية وتوالدت شبكات المقاومة ضد الإنجليز فى غليان وطنى مستمر، وحينما عاد حزب الوفد إلى السلطة ومصطفى النحاس إلى رئاسة الحكومة، كان هو الذى بادر فى سنة 1951 إلى إعلان إلغاء معاهدة سنة 1936 من طرف واحد، معلنا مقولته الشهيرة " من أجل مصرـ كنت قد ـ وقعت تلك المعاهدة، ومن أجل مصر أعلن إلغاءها".

انتعشت ذاكرة محمد عبد الوهاب تلقائيا وقال معلقا: "آه والله.. معك حق.. بل إن النحاس فى إعلانه إلغاء المعاهدة أخذ شعبية تفوق بمراحل ما كان قد حصل عليه عند توقيعها".

قلت له: "والآن لنفترض أنك كفنان ـ وقد كنت فنانا لامعا صوتا وصورة وموسيقى فى 1936 ـ دفعك حماس أهل السياسة بحجم النحاس إلى أن تشدو بأغنية تمجد " معاهدة الشرف والاستقلال "، ماذا كنت ستفعل حينما بادر مصطفى النحاس نفسه إلى إلغائها فى 1951، تنزل إلى جمهورك لتعتذر أنت أيضا عن أغنيتك الحماسية السابقة ؟..إن رجل السياسة هنا يستطيع أن يخرج من مشكلته كما الشعرة من العجين، ويقول إنه فى الحالتين كان يريد المصلحة، وإنه فى المرة الأولى وقع المعاهدة مضطرا، لكنه فى المرة الثانية يقوم بإلغائها مختارا أو رجوعا إلى الحق، الناس هنا ربما تغفر للسياسى بدرحات متفاوتة، لكن الناس لا تغفر لفنان مطلقا قيامه بالترويج لبضاعة مغشوشة، سياسة مغشوشة، خصوصا إذا كان واضحا من البداية أن تلك السياسة تحمل بذرة فنائها فى داخلها و... "

لم أعرف في لحظتها سر الارتياح الذى بدت ملامحه تلقائيا على وجه محمد عبد الوهاب, لكن ما عرفته هو أنه استرد روحه المرحة وكأن خاطرا ملتبسا وشريرا قد انزاح من داخله، مستدعيا سعاد ( مديرة المنزل) لكى تضع الغداء على الفور، وفى غرفة الغداء عاد عبد الوهاب إلى حكاياته المرحة وتعليقاته المشاغبة عن فايزة أحمد ووردة ونجاة ووديع الصافى.. إلخ. وفجأة.. جاءت له سعاد بالتليفون من حجرة الاستقبال التى كنا فيها، بما يعنى أن المتحدث شخصية استثنائية مهمة لم يكن يستطيع انتظار انتهاء عبد الوهاب من تناول غدائه، وفعلا.. همست سعاد : " وزير الإعلام قال ضرورى يكلمك حالا ".

أمسك عبد الوهاب بالسماعة ليرد: " أهلا أهلا أهلا يا ثيادة الوزير.. ده إيه الشرف العظيم ده ؟ " وخلال لحظات بدأت أدرك أن المتحدث على الطرف الآخر هو عبد المنعم الصاوى وزير الإعلام فى حينها, وبدا حبور عبد الوهاب من المكالمة يتضاعف فورا بمجرد أن قال له وزير الإعلام : " يا أستاذ عبد الوهاب.. أنا مكلف بنقل رسالة عاجلة إليك من سيادة الرئيس ", وعبد الوهاب يقاطعه : " تقصد الرئيس السادات ؟ أنا أول بأول والله أتابعه فى نشرات التليفزيون وهو فى أمريكا ومنبهر بالمجهود العظيم الذى يقوم به هناك والمعاهدة التى جرت فى كامب ديفيد أمبارح, وألف مبروك يا ثيادة الوزير, والله أنا فى كل صلواتى بادعو لثيادة الرئيس بالتوفيق, والحمد لله إن ربنا وفقه, وحافضل أدعى له باستمرار يرجع لنا من أمريكا بالسلامة ".

قال له الوزير : " الشعور متبادل يا أستاذ عبد الوهاب, وأنت بالذات مقامك كبير عند الرئيس, لهذا أنت الوحيد الذى طلبنى الرئيس من أمريكا لأنقل لك رسالة منه ", وفى دهشة كاملة وحبور واضح رد عبد الوهاب : " والله فيه الخير ثيادة الرئيس.. معقول فى وسط كل مشاغله وهمومه فى أمريكا ييجى على باله ويفكر فى واحد اسمه محمد عبد الوهاب ؟ "

ـ طبعا يا أستاذ عبد الوهاب.. مش قلت لك إن مقامك كبير عند سيادة الرئيس وعندنا كلنا.

فى الخلاصة الرسالة هى : " بعد هذا الإنجاز العظيم الذى توصل إليه الرئيس السادات فى كامب ديفيد بيقول لك هنا دورك يا فنان يا عظيم وجمهورك بالملايين فى مصر والعالم العربى, يعنى لو تعمل أغنية وطنية سريعة لتحية الرئيس وتكرر الإذاعة والتليفزيون إذاعتها فورا لترددها الملايين فى استقبالها للرئيس عند عودته بالسلامة إلى مصر, ويا أستاذ عبد الوهاب, سيادة الرئيس أمرنا بأن ننفذ لك كل طلباتك ونفتح لك أى ميزانية تطلبها ونترك لك الحرية بالكامل, عايز الأغنية تبقى بالصوت فقط, أو بالصوت والصورة,عايز نكلف لك أكبر مخرج وتختار أكبر عازفين و.. و.. "

هنا تغيرت ملامح وجه عبد الوهاب قليلا لتصبح أكثر جدية وكلماته أكثر بطئا ليختارها بعناية ودقة قائلا : " لكن يا أفندم ثيادة الرئيس فنان من يومه ويعرف إن الفنان يأخذ وقته "

ـ طبعا يا أستاذ عبد الوهاب, خد وقتك براحتك, الرئيس قبل الرجوع إلى مصر سيذهب إلى المغرب, يعنى أمامك ما لا يقل عن يومين ثلاثة, أو بالكثير أربعة أيام ",وبعد لحظات بدت كالدهر, فوجئت بعبد الوهاب يتصرف على نحو لم أتوقعه منه على الإطلاق, لقد قال لوزير الإعلام : " يا ( ثيادة ) الوزير, لا بد إن ( ثيادة ) الرئيس قال لك على حد تانى وأنت سمعت اسمه غلط, أصل يا ثيادة الوزير, وأنا والله بادعى للرئيس فى كل صلواتى إنه يرجع بالسلامة, ولما أفكر أعمل حاجة هنا, لازم أفكر فى شىء كبير جدا يليق بمكانة الرئيس وآخد فيه وقتى بالراحة, إنما أنت هنا مش محتاج لمحمد عبد الوهاب, أنت محتاج فقط لواحد يزغرد, هل ترضى يا ثيادة الوزير بعد العمر ده كله, أن يكون المطلوب منى هو.. زغرودة ؟

" زغرودة " قالها عبد الوهاب بعفوية وتلقائية ليغطى بها اعتذاره الفورى, وعندما أغلق سماعة التليفون وجدنى واقفا على مسافة أمتار من مائدة الطعام لكى آخذ راحتى فى ضحكة مجلجلة مما سمعته لتوى.

وسألنى عبد الوهاب بوجه شبه متوتر: " لماذا كل هذا الضحك ؟ ".

قلت له : " أنا غير مصدق بالمرة لما سمعته لتوى, أكيد أنت لست محمد عبد الوهاب الذى أعرفه " !

استغرب عبد الوهاب مقاطعا : " ياه.. قد كده أنت كنت رامى طوبتى ؟! "

قلت له : " مش بالضبط, المسألة هى أننى أراك دائما كمحمد عبد الوهاب, الآن رأيت أمامى نابوليون بونابرت..!".

ولم تعجبه المداعبة تماما, فقد ركبته هموم الدنيا كلها بمجرد انتهاء مكالمته مع وزير الإعلام.. قائلا لى : " طيب يا أخويا,ابقى خللى نابوليون ينفعنا.. وربنا يجيب العواقب سليمة".

وفى عودتى إلى المنزل استعدت فى ذهنى شريط تلك الواقعة مرة ومرات, وبرغم ما سمعته وشهدته, لم تكن لدى أى أوهام, لكن حتى مع معرفتى بشخصية محمد عبد الوهاب وسلوكه مع أهل السلطة, يظل ما رأيته ممثلا لجملة اعتراضية تماما فى شخصيتة وسلوكه, وأعرف أنه سواء بحكم تلك الطبيعة, أو للإلحاح المتوقع عليه تاليا, فربما يكون له موقف آخر معدل, لكننى كنت متأكدا من شىء واحد, فأيا كان ذلك الموقف المعدل المحتمل منه, إلا أنه فى جميع الحالات, لن يقدم " زغرودة " بالتعبير العفوى الجامع المانع الذى اختاره يوم دعانى للغداء, وفى الواقع.. لم تكن تلك وجبة غداء. كانت وجبة شجاعة, ولو مؤقتة, على حد تعبير عبد الوهاب فيما بعد.

من كتاب « الدنيا التى كانت »

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة