أبداعات عربية
أبداعات عربية


أبداعات عربية

مغادرة

أخبار الأدب

الثلاثاء، 01 يونيو 2021 - 12:52 م

عمر‭ ‬حمش‭ - ‬غزة

قبل‭ ‬الموتِ؛‭ ‬حفرتُ‭ ‬حفرتى‭ .. ‬

اخترتُ‭ ‬موطن‭ ‬مأواى‭ ‬الأخير،‭ ‬ولقد‭ ‬راقنى‭ ‬التعرف‭ ‬إليه‭.‬

شُدِه‭ ‬الحارس؛‭ ‬حين‭ ‬علم‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الحفرة‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬حفرتي،‭ ‬فباعد‭ ‬المسافة‭ ‬التى‭ ‬بيننا،‭ ‬وقد‭ ‬اتسعت‭ ‬عيناه،‭ ‬وعلا‭ ‬جبينه،‭ ‬حتى‭ ‬أيقن‭ ‬أنّ‭ ‬الأمرَ‭ ‬جديٌّ،‭ ‬وأننى‭ ‬لن‭ ‬أشجّ‭ ‬رأسَه‭ ‬بالفأس؛‭ ‬وشرع‭ ‬بمناولتى‭ ‬آخر‭ ‬قطع‭ ‬البلاط‭.‬

نقدته‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬جيبي،‭ ‬وقلت‭: ‬احفظ‭ ‬قبرى‭ ‬يا‭ ‬أخي‭.‬

لم‭ ‬أترك‭ ‬الأمرَ‭ ‬عند‭ ‬هذا؛‭ ‬بل‭ ‬غدوتُ‭ ‬أهرولُ‭ ‬خلف‭ ‬الجنازات،‭ ‬فأشاركهم‭ ‬الطقوسَ،‭ ‬وأتمعنُ‭ ‬فى‭ ‬الوجوه،‭ ‬وأخمنُ‭ ‬من‭ ‬منهم؛‭ ‬سيهرولُ‭ ‬خلف‭ ‬نعشي‭.‬

كنت‭ ‬أقول‭: ‬شارك‭ ‬غيرك؛‭ ‬غدا‭ ‬فيك‭ ‬يشتركون‭.‬

بعد‭ ‬الجنازاتِ؛‭ ‬لم‭ ‬أكُ‭ ‬متعجلا‭ ‬فى‭ ‬مبارحةِ‭ ‬المقبرة،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬نهاياتِ‭ ‬كلّ‭ ‬مراسم؛‭ ‬كنت‭ ‬أنزوي،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬غادر‭ ‬جمعٌ،‭ ‬وعاود‭ ‬الصمتُ؛‭ ‬نهضتُ،‭ ‬ثمّ‭ ‬خطوتُ،‭ ‬وتتبعتُ‭ ‬المعالمَ،‭ ‬من‭ ‬شواهد،‭ ‬وشوكٍ،‭ ‬وشجيرات،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬وصلتُ؛‭ ‬وقفتُ‭ ‬أمام‭ ‬قبري،‭ ‬وخشعتُ‭ ‬كمن‭ ‬يقف‭ ‬ببابِ‭ ‬وليّ‭ .. ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬صحوتُ؛‭ ‬انثنيتُ،‭ ‬فنزعتُ‭ ‬بلاطتي،‭ ‬وقصدتُ‭ ‬مدخلي،‭ ‬ثمّ‭ ‬دلفتُ‭ ‬مخضعا‭ ‬رأسي،‭ ‬وتمددتُ‭ ‬على‭ ‬رملي؛‭ ‬لأشرعَ‭ ‬فى‭ ‬رحلةِ‭ ‬تشممِ‭ ‬رطوبةِ‭ ‬حفرتي،‭ ‬ومراقبةِ‭ ‬صغار‭ ‬الحشراتٍ‭ ‬المتهيئة،‭ ‬والمتلاحقة‭ ‬فى‭ ‬صعودٍ،‭ ‬وفى‭ ‬هبوط‭ ‬على‭ ‬شقوقِ‭ ‬صفوف‭ ‬الطوب‭ ‬التى‭ ‬كنت‭ ‬رصصتها‭.‬

هكذا‭ ‬سار‭ ‬الأمرُ،‭ ‬وأنا‭ ‬أسبرُ‭ ‬غورَ‭ ‬القادم،‭ ‬وأرى‭ ‬جسدى‭ ‬المتمدّد،‭ ‬وأربطتى‭ ‬المنحلة‭ ‬على‭ ‬مواضع‭ ‬كفني‭.‬

كنتُ‭ ‬أظلّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬ساعةً،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬ارتويتُ،‭ ‬واستكان‭ ‬قلبي؛‭ ‬قمتُ‭ ‬متثاقلا،‭ ‬وخرجت‭ ‬راضيا،‭ ‬ثمّ‭ ‬أعدتُ‭ ‬بلاطتي،‭ ‬لأمضيَ‭ ‬نحو‭ ‬الحارس‭ ‬الذى‭ ‬يقدّم‭ ‬خطوةً،‭ ‬ويؤخرُ‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬يلتقطُ‭ ‬دراهمي،‭ ‬ثمّ‭ ‬يفرُّ،‭ ‬ويلتفتُ،‭ ‬وأنا‭ ‬أغادرُ‭ ‬نافضا‭ ‬الرملَ‭ ‬العالقَ‭ ‬بجلبابي‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬حان‭ ‬حيني،‭ ‬فمِت‭ ‬آمنا؛‭ ‬وقد‭ ‬مسّنى‭ ‬حبورٌ،‭ ‬واكتنفتنى‭ ‬غبطةٌ،‭ ‬وأخذتُ‭ ‬أرقبُ‭ ‬مراسمي‭.‬

كانوا‭ ‬يمرونَ‭ ‬صامتينَ‭ ‬بالقبور،‭ ‬وكنتُ‭ ‬من‭ ‬فوقهم‭ ‬أتأرجحُ،‭ ‬وأشيرُ،‭ ‬وأصيحُ‭: ‬

من‭ ‬هنا‭ .. ‬من‭ ‬هنا‭ .. ‬كفى‭ .. ‬هنا‭.‬

ولكم‭ ‬كانت‭ ‬فجيعتي؛‭ ‬وهم‭ ‬يتجاوزونَ‭ ‬قبريَ‭ ‬والحارسُ‭ ‬يقفُ‭ ‬متنحيا،‭ ‬قربه‭ ‬رجلُ‭ ‬أنيقٌ‭ ‬مبتسم؛‭ ‬يرمقُ‭ ‬تجهمي،‭ ‬ثمّ‭ ‬يخرجُ‭ ‬لسانه؛‭ ‬ويحرّكه‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة