الاستشراق والتصوف
الاستشراق والتصوف


كتابة

الاستشراق والتصوف

أخبار الأدب

الثلاثاء، 01 يونيو 2021 - 04:26 م

د. أحمد حسن أنور 
«التصوف نور مِنَ الحق يدُلُّ على الحق، وَخَاطِرُ مِنهُ يشير إليه، التصوفُ فَناؤكَ عن الكونَيْن لِيَبْقى، مُكَوِّنهُما» أبو القاسم النصراباذى (ت367هـ/ 977م)

تهدف هذه المقالة إلى قراءة دراسة الاستشراق المعاصر للتصوف الإسلامي، ونظرًا لأنه قدم دراسات كثيرة ذات مستويات مختلفة، ومتعددة بتعدد مدارسه، ومنهاجه، وأهدافه، واتجاهاته، علاوة على أن دراساته- الاستشراق المعاصر- كتبت بلغات أوروبية متنوعة. فإننا سنكتفى بالإشارة إلى المستويات الأساسية للدراسات الاستشراقية المعاصرة فى مجال التصوف الإسلامي، بالطبع بعد محاولة عرض ومناقشة وتحليل مصطلح الاستشراق. 
تمهيد: 
اهتمت الحركة الاستشراقية اهتمامًا ملحوظًا بدراسة التصوف الإسلامي، ومن الصعب جدا رصد البدايات الأولى لهذا الاهتمام خاصة أنه يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون من الزمان، إلا أن أهم ما يعنينا هنا هو التركيز أكثر على الدراسات الاستشراقية المعاصرة للتصوف (بمستوياتها المختلفة) بشكل عام. 
وإذا كان مصطلح «الاستشراق- المستشرق» من المصطلحات التى أخذت دلالات وأبعادًا متعددة، بل ومتضاربة ومتناقضة فى الكتابات العربية، فإننا سنحاول أولاً مناقشة المصطلح من أجل تحديد توظيفنا الإجرائى للمصطلح. 
وإذا كنا سنقدم على اختيار نموذج استشراقية لمقالتنا فإننا نعتقد بأهمية أن تتمتع هذه النموذج بمجموعة من الخصائص التى من شأنها أن تساعدنا فى إدراك رؤية الاستشراق المعاصر للتصوف، ومن ضمن هذه الخصائص: (أن يكون المستشرق على معرفة ممتازة باللغة العربية الفصحى - أن يعتمد المستشرق على المصادر العربية الأصلية واكتشاف ذلك من خلال المطالعة الأولية لقائمة المراجع- إلمامه الواضح بالدراسات العربية الحديثة والمعاصرة). 
وستهدف هذه المقالة إلى مناقشة مجموعة من الإشكاليات ومن أهمها: 
كيف قرأ الاستشراق المعاصر التصوف الإسلامي؟ وهل هذه القراءة يمكن وصفها بأنها قراءة من داخل بنية الحضارة العربية الإسلامية؟ أم أنها قراءة اتصفت بآراء وأحكام مسبقة؟ 
وهل قدمت الدراسات الاستشراقية المعاصرة إضافة حقيقية لحقل ومجال التصوف الإسلامي؟ 
تلك هى أبرز التساؤلات التى تهدف هذه المقالة إلى مناقشتها، ومن الضرورى أن نشير إلى أن الإجابة عن بعض التساؤلات السابقة ستظهر فى ثنايا المقالة، كل فى موضعه، كما ستبرز الخاتمة الإجابة عن بعضها الآخر. 
أولاً- مصطلح الاستشراق: 
1- التعريف اللغوى: 
لم ترد كلمة «استشراق» فى المعاجم العربية القديمة، ومن هنا لم يعد أمامنا من سبيل سوى العودة إلى أصل الكلمة فى اللغة العربية. فالكلمة أصلها من كلمة (ش ر ق) يقال شرقت الشمس مشرقًا وشروقًا إذا طلعت، وأضيف إليها- كلمة شرق- ثلاثة حروف هى الألف والسين والتاء، ليصبح معناها طلب النور والهداية والضياء. ولو حاولنا البحث فى المعاجم اللغوية الحديثة والمعاصرة، فربما كان أول ظهور للكلمة في: (معجم متن اللغة) حين ذهب صاحبه إلى القول: «استشراق هو طلب علوم الشرق ولغاتهم (مولدة عصرية) يقال لمن يُعنى بذلك من علماء الفرنجة”. ثم نجد بعد ذلك من ذهب إلى أن لفظة «استشراق» ومشتقاتها مولدة استعملها المحدثون من ترجمة كلمة (Orientalism)، ثم استعملوا من الاسم فعلا، فقالوا استشرق، والمدققون يؤثرون استعمال «علماء الشرقيات» بدلاً من مستشرق. 
2- التعريف الاصطلاحى: 
بالرغم من أن الاستشراق أصبح اليوم علمًا له كيانه ومنهجه، ودراساته ومؤلفاته، فصار حقًا علينا أن نحدد مفهومه وماهيته، وأن ندرك من هو المستشرق؟ والحقيقة أننا لا نجد اتفاقًا بين المستشرقين والكتاب الغربيين من ناحية، وبين الباحثين العرب من ناحية أخرى على تعريف المصطلح. فيبدو أننا منذ اللحظة الأولى نواجه إشكالية فى تحديد التعريف الاصطلاحى للمفهوم. لذلك سنحاول رصد أبرز التعريفات للمفهوم فى الكتابات الغربية من ناحية، والعربية من ناحية أخرى، دون إطالة، فى محاولة استخلاص المعنى العام للمفهوم. 
3- مفهوم الاستشراق من منظور غربى: 
ذهب المستشرق الإنجليزى جون آرثر آربرى Arthur John Arberry (ت: 1969م) إلى القول بأن معجم أكسفورد الجديد يحدد المستشرق (Orientalist) بأنه من تبحَّر فى لغات الشرق وآدابه، ويقصد ببلاد الشرق هنا بلاد العرب والترك والفرس والهند وجزر الهند الشرقية والشرق الأقصى، وهكذا يدخل فى نطاق المستشرق اللغات والآداب المنتمية لأكثر من نصف الجنس البشرى ولمدنيات عظيمة عدة. 
أما المستشرق الألمانى الشهير رودى بارت  Rudi Paret(ت: 1983م) فقد ذهب إلى القول بأن الاستشراق علم يختص بفقه اللغة خاصة، وأقرب شيء إليه إذن هو أن نفكر فى الاسم الذى أطلق عليه، كلمة «استشراق» مشتقة من كلمة شرق، وكلمة شرق تعنى مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي. 
ومن الملاحظ على التعريفين السابقين أنهما قد أدخلا أى شيء وكل شيء ذى طبيعة شرقية ضمن اختصاص الاستشراق. ومن هذا المنطلق قد يتجه المستشرق إلى دراسة أى شيء فى الحضارة الشرقية مثل: اللغة، الدين، الفلسفة، التاريخ، الفن، المجتمع، العادات والتقاليد،.....الخ. كما أن تعريف آربرى وبارت قد فتح الباب على مصراعيه أمام أى دارس أوروبى لدراسة أى موضوع فى العالم الشرقي. ليس هذا فحسب، بل إن مفهوم العالم الشرقى هنا مفهوم مفتوح، فالصين والهند واليابان وأندونسيا وبلدان أخرى تدخل فى إطار هذا المفهوم؛ لأنها بلدان شرقية من الناحية الجغرافية، وهذا ما يفسر بداية وجود تخصصات فرعية داخل الاستشراق، فهناك الاستشراق المهتم بدراسة منطقة الشرق الأدنى، وهناك الاستشراق المهتم بدراسة البلدان العربية وحضارتها قديمًا وحديثًا. 
وبالاستمرار فى البحث عن التعريفات الغربية لمفهوم الاستشراق فسنجد فى ذلك الإطار ما ذكر المستشرق أجنتسيو جويدى Ignazio Guidi (ت: 1935م) والذى ذهب أيضا إلى تعريف الاستشراق على أنه علم دراسة الشرق، وغرضه الأساسى ليس مقصورًا على مجرد درس اللغات أو اللهجات فقط بل هدفه بناء الارتباط المتين بين التمدن الغربى والتمدن الشرقي، كما أنه يعتبر أن علم الشرق ليس إلا بابًا من أبواب تاريخ الروح الإنسانى. 
ولو حاولنا البحث عن تعريفات غربية أخرى للاستشراق فسنجد العديد والعديد، إلا أن أهم ما نلاحظه على أغلب تلك التعريفات الغربية ما يلى: 
إن المستشرق يبدأ بدراسة اللغة، فإذا كانت اهتماماته تنصب على دراسة الحضارة العربية الإسلامية فسيركز أولاً على دراسة متخصصة دقيقة للغة العربية.


 إذا كانت اللغة هى الخطوة الأولى- بالرغم من صعوبتها- لكنها ليست أكثر من مدخل أولى يتمكن من خلالها المستشرق من الاطلاع والتعرف على العالم الشرقى والبدء فى اكتشاف ثقافته وحضارته وأديانه وتاريخه وعاداته وتقاليده. 
 يبدأ المستشرق بعد ذلك فى التخصص فى مجال أو قطاع واحد محدد من المجالات المعرفية للحضارة الشرقية، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، فهناك من المستشرقين من تخصص فى دراسة التاريخ الإسلامي، وهناك من تخصص فى علوم الدين- بل فى فرع واحد من علوم الدين- الإسلامي، وهناك من تخصص فى دراسة التصوف الإسلامي، وهذا ما سنركز عليه أكثر. 
 يزداد التخصص أكثر فأكثر، حتى إن المستشرق قد يركز جل اهتماماته البحثية على دراسة موضوع محدد، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها: تركيز المستشرق الفرنسى لويس ماسينيون Louis Massignon (ت: 1962م) على دراسة الحسين بن منصور الحلاج (ت: 309هـ/ 922م)، وتركيز المستشرق الإيطالى جوزيبى سكاتولين Giuseppe Scattolin على دراسة الصوفى المصرى الشهير عمر بن الفارض (632هـ/ 1235م)... والأمثلة على هذا الأمر لا تنتهي. 
 يظهر بوضوح أثر تركيز مستشرق ما على تخصص معين ثم التركيز أكثر على أحد فروعه فى مجمل الإنتاج العلمى للحركة الاستشراقية. كما أن المتطلع لدائرة المعارف الإسلامية يستطيع أن يرصد وبيسر مدى اهتمام أى مستشرق- بارع- فى التركيز على تخصص محدد، بل موضوع واحد داخل التخصص. وبذلك تمكن الاستشراق عن جد من تقديم إسهامات بحثية عديدة ومتنوعة فى مختلف القطاعات المعرفية للحضارات الشرقية. 
4- مفهوم الاستشراق من منظور عربي: 
تنوعت وتضاربت المواقف العربية فى النظر إلى الاستشراق بدءًا من تعريفه، وصولاً إلى الحكم عليه بالقبول أو الرفض. فهناك من نظر إلى الاستشراق والمستشرقين على أنهم أعوان الاستعمار قديمًا وحديثًا وهاجمهم هجومًا شديدًا وعنيفًا، وهناك من دافع عنهم دفاعًا مطلقًا حتى اعتبرهم رسل العناية الإلهية للاهتمام بالتراث العربى وجمع مخطوطاته وتحقيقها ودراستها...إلخ. 
ولو حاولنا البحث عن التعريفات المتعددة للاستشراق فى الكتابات العربية فربما نجد المئات من التعريفات، لذلك سنحاول التركيز على رصد التعريفات الأكثر حضورًا فى الأوساط الثقافية والعلمية. 
وربما نجد من أبرز التعريفات تلك التى قدمها الدارس الأمريكى الجنسية الفلسطينى الأصل إدوارد سعيد (ت: 2003م) حين قال: «الاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودى والمعرفى بين ما يسمى [الشرق]، وبين ما يسمى فى معظم الأحيان [الغرب]» من ناحية، ومن ناحية أخرى يعرف الاستشراق «بصفته المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق.... والسيطرة عليه: وباختصار بصفة الاستشراق أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه..”. ومن المعروف أيضا مدى الهجوم الذى شنه إدوارد سعيد على الاستشراق معتبرًا المستشرقين فى خدمة الاستعمار فى الماضي، ومنظرين لمرحلة ما بعد الاستعمار من ناحية أخرى. 
ولو حاولنا البحث عن مواقف رافضة لهذا التعريف فربما نجد مقصودنا فيما قدمه المفكر المصرى الشهير عاطف العراقى (ت: 2012م) حينما وصف الاستشراق قائلاً: «دراسة الغربيين لتاريخ الشرق، أممه ولغاته وآدابه وعلومه وعاداته ومعتقداته وأساطيره، فهو حركة علمية عنيت ولا تزال تعنى بدراسة الحضارة الشرقية من قبل باحثين ينتمون إلى حضارة أخرى لهم شعور مخالف لبناء الحضارة التى يدرسونها». ولو انتقلنا إلى باحث آخر فسنجد ما قدمه عبد الحميد مدكور حين قال: «الاستشراق هو البحث الأكاديمى الذى يكتبه غربيون غير مسلمين عن الشرق الإسلامي، والمستشرق باحث غربى غير مسلم يكتب عن الشرق الإسلامي». 
وبالرغم من أن أغلب التعريفات العربية- خاصة الأكاديمية منها- قد ركزت على أن الاستشراق هو البحث الأكاديمى من طرف باحثين غربيين عن الشرق، إلا أننا نشير إلى أن هناك تعريفات أخرى عديدة قد تناولت مفهوم الاستشراق من منظور أيديولوجي، بل من منظور أيديولوجيات متعددة خاصة: «الماركسية والإسلامية» كما أن أصحابها قد خلطوا بين الاستشراق السياسى من ناحية، والاستشراق العلمى من ناحية أخرى. 
لذلك ننتقد من جانبنا أى محاولة لتقديم تعريف جامع مانع للاستشراق، خاصة أن كل مستشرق يمثل حالة، ويصلح لأن يكون حالة خاصة وموضوع للدراسة بالمعنى الحرفى للكلمة. ليس هذا فحسب، بل إن دراسة مستشرق ما قد تؤدى إلى الكشف عن حدوث محاولات متعددة لديه؛ أعنى تغيير أحكامه من دراسة لأخرى، وهذا الأمر يزيد الموضوع تعقيدًا، فقد يتحول المستشرق نفسه من حالة إلى أن يكون عملٌ واحدٌ من أعماله حالةً خاصةً وموضوعًا للدراسة. 
ولذلك أعتقد أنه قد يكون من المفيد عدم التسرع فى تعميم الأحكام سلبًا أو إيجابًا، وأن تكون إسهامات ودراسات أى مستشرق هى المعيار الأكثر أهمية لتقييم جهوده من ناحية، والحكم على التزامه بالمنهجية والموضوعية من ناحية أخرى. وبذلك قد ينتهى هذا الجدل الدائر بين الرفض التام أو القبول المطلق للاستشراق. 
ثانيًا- الاستشراق والتصوف «من النشأة إلى التطور»: 
اهتمت الحركة الاستشراقية اهتمامًا ملحوظًا بالتصوف الإسلامي، ومن الصعب جدا رصد البدايات الأولى لهذا الاهتمام خاصة أنه يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون من الزمان، كما أنه يكاد يكون من المستحيل رصد ببلوجرافيا بكافة الدراسات الاستشراقية التى تناولت التصوف الإسلامى بالدراسة والشرح والمقارنة والتحليل. ومن الضرورى الانتباه إلى أن هذه الدراسات الاستشراقية لا تأتى على صورة واحدة- خاصة أن التصوف قابل للدراسة من اتجاهات وعلوم متعددة- فمنها ما يمكن أن نسميه بـدراسات «التصوف الخالص»، ومنها من درس التصوف من منظور علاقته بعلوم أخرى مثل: (علوم القرآن الكريم، علوم الأحاديث النبوية، علوم الفقه والعقيدة، الفرق الإسلامية كالأشعرية...) علاوة على اعتماد الحركة الاستشراقية على مناهج متعددة فى دراسة التصوف الإسلامي. وبالرغم من ذلك يمكننا تقسيم الدراسات الاستشراقية للتصوف إلى ثلاثة مستويات أساسية. 
المستوى الأول «التحقيق»: اهتمت الحركة الاستشراقية فى هذا المستوى بتجميع أهم المخطوطات العربية لأمهات الكتب الصوفية، ومن ثم عكف مجموعة من المستشرقين على تحقيقها وطباعتها فى لغتها الأم كى تكون متاحة للباحث الغربى كمادة أولية من ناحية، وللقارئ العربى من ناحية أخرى. والجدير بالذكر أن الجهود الاستشراقية فى مجال تحقيق النصوص الصوفية قد تمت فى بدايتها من خلال محاولات فردية وشيئًا فشيئًا نستطيع أن نجد اليوم عدة مراكز بحثية فى الجامعات الأوروبية تهتم بتقديم التمويل المالى للباحثين الراغبين فى تحقيق التراث الصوفى والإسلامي. ولعل من أبرز المحاولات الفردية الأولى التى أسهمت فى نشر بعض المصنفات الصوفية المهمة وتحقيقها ما نجده عند المستشرق الإنجليزى رينولد نيكلسون Reynold Nicholson (ت: 1945م) من تحقيقه لكتاب (اللمع فى التصوف) عام 1914م، وما حققته المستشرقة الإنجليزية مارجريت سميث Margaret Smith (ت: 1954م) لكتاب (الرعاية لحقوق الله)، وما حققه المستشرق الإنجليزى جون آرثر آربرى Arthur John Arberry (ت: 1969م) لـ: (كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف) و(كتاب المواقف والمخاطبات) و(كتاب الصدق)، وفى هذا الصدد أيضا نجد ما قدمه المستشرق الإيطالى المعاصر جوزيبى سكاتولين من تحقيقه لديوان عمر بن الفارض. ونصوص صوفية عديدة أخرى تم تحقيقها ونشرها بعناية الحركة الاستشراقية.
 المستوى الثانى «الترجمة«: وفى هذا المستوى نجد أن الحركة الاستشراقية قد قامت بترجمة العديد من النصوص الصوفية إلى مختلف اللغات الأوروبية (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية... ولغات أخرى) حتى أصبح من الصعب أن نجد نصًا صوفيًا مركزيًا غير مترجم إلى اللغات السابقة، ولنا أن نقدم أمثلة قليلة على ذلك؛ فبعض مؤلفات: الحارث بن أسد المحاسبى (243هـ/ 857م)، سهل التسترى (283هـ/ 896م)، الجنيد البغدادى (298هـ/ 910م)، الحسين بن منصور الحلاج (309هـ/ 922م)، عبد الجبار النفرى (354هـ/ 965م)، عبد الرحمن السلمى (412هـ/ 1021م)، عبد الكريم القشيرى (465هـ/ 1072م)، أبو حامد الغزالى (505هـ/ 1111م)، محيى الدين بن عربى (638هـ/ 1240م) مترجمة إلى عدة لغات أوروبية.
 المستوى الثالث «الدراسة والإبداع»: بعد أن أتمت الحركة الاستشراقية مهمتها الأولى الماثلة فى تحقيق التراث الصوفي، ومهتمها الثانية الماثلة فى ترجمة النصوص الصوفية المركزية إلى اللغات الأوروبية أصبحت النصوص الصوفية متاحة بعدة لغات للباحثين من مختلف البلدان الأوروبية، فبدأت مرحلة جديدة يمكن أن نسميها بمرحلة «البحث والدراسة» أو مرحلة «الإبداع» فى الدراسات الصوفية، وتتسم هذه المرحلة ببلوجرافيا من مئات- أو قل آلاف- الدراسات الغربية المتنوعة عن التصوف الإسلامي. ومن المثير للانتباه أن الدارسين الأوروبيين «المستشرقين» فى هذا المستوى قد قدموا دراسات صوفية اتسمت بالتنوع، ولنا أن نقدم القليل من الأمثلة على ذلك: 
 فمنهم من قدم دراسات جادة عن تاريخ التصوف الإسلامى بشكل عام مثل ما قدمته المستشرقة الألمانية آنا مارى شيميل Annemarie Schimmel (ت: 2002م) فى دراستها العميقة عن التصوف والمعنونة بـ «الأبعاد الصوفية فى الإسلام»، وما قدمه المستشرق الأمريكى المعاصر ألكسندر كنيش Alexander Knysh صاحب أجود دراسة عن تاريخ التصوف الإسلامى والمعنونة بـ «تاريخ التصوف الإسلامي»، وكتابهما فى الغرب- أعنى كتاب شيمل وكتاب كنيش- هما الكتابان الأساسيان والمقرران الدراسيان لطلاب الدراسات العليا فى مختلف الجامعات الأوروبية والأمريكية، وقد سبق لى التدريس فى أوروبا من هذين الكتابين، مما يجعلنا ندعى أننا على علم ودراية جيدة بمحتواهما العلمى المتميز، فهما بالفعل كتابان جيدان لمن يريد أن يطلع على المراحل الأساسية للتصوف ومدارسه ومصطلحاته، وأفكاره واتجاهاته. 
 وهناك من ركز فى دراسته على دراسة مرحلة محددة من تاريخ التصوف الإسلامى مثلما فعل المستشرق السويدى تور أندريه Tor Andrae (ت: 2002م) حين ذهب إلى دراسة «حركة الزهد» أو «الزهاد والعباد» فى فترة مبكرة من تاريخ الإسلام فى القرنين الأول والثانى الهجريين، محاولاً رصد العناصر الأساسية لمفهوم الزهد من ناحية، وأثرها على نشأة وتكوين التصوف من ناحية أخرى، كما أنه قد حاول اكتشاف أثر مفهوم الحب الإلهى فى إحداث نقلة نوعية للتصوف، حيث كان الزهد- وهو المرحلة الأولية للتصوف- قائمًا على مفهومى الخوف والمحاسبة، ومع إبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية بدأنا نرصد لغة جديدة فى حركة الزهد، تلك اللغة التى ركزت على مفهوم الحب الإلهى لتؤدى إلى إحداث نقلة نوعية فى بنية ومعالم التصوف الإسلامى.  
 وفى هذا الإطار نجد أيضا دراسة المستشرق الأمريكى المعاصر ميشيل ساليس Michael Sells المعنونة بـ «الفترة المبكرة للتصوف الإسلامي» والتى اتجهت إلى رصد المصطلحات الصوفية من نصوصها الأولى فى القرنين الأول والثانى الهجريين وكيف تطورت هذه المصطلحات فى القرن الثالث الهجرى على وجه التحديد. ومن ضمن المصطلحات التى ركزت عليها دراسة ميشيل ساليس مصطلح «الخوف، المحبة، المعرفة، التوحيد» وقد أوضح لنا ميشيل ساليس فى دراسته كيف أن هذه المصطلحات كانت النواة الأولى للأفكار الصوفية التى تطورت بعد ذلك، ومن ضمن ما أوضحه هو تركيز الزهاد الأوائل على مفهوم المعرفة الذوقية أو المعرفة الإلهية الواردة من الله مباشرة لقلب عبده المؤمن، وأوضح لنا فى دراسته كيف أن هذه الأفكار قد أدت إلى نشأة وتطور ما سماه بـ «نظرية المعرفة عند صوفية الإسلام«. 
 وهناك من المستشرقين من ركز جل اهتماماته لدراسة موضوعات صوفية صعبة ومتخصصة كنشأة وتطور التفسيرات الصوفية للقرآن الكريم مثل: بولس نويا Paul Nwyia (ت: 1980م)، وجرهيارد بورينج Gerhard Böwering، حيث ذهب الأول إلى دراسة التفسير الصوفى المنسوب للإمام جعفر الصادق (ت: 148هـ/ 765م) وأثره على التفسير الصوفى عند عبد الرحمن السلمى (ت: 412هـ/ 1021م) المعروف باسم «حقائق التفسير»، فى حين ذهب الثانى إلى تقديم دراسة تحليلية وهرمينوطيقية عميقة- اتسمت بإبداعها المنهجي- لتفسير المتصوف سهل التسترى (283هـ/ 896م) للقرآن الكريم. وقد أوضحت هاتان الدراستان أهمية إدراك وجود قراءة خاصة للقرآن الكريم لدى المتصوفة؛ تلك القراءة التى تعتمد على مفهومى التأويل والذوق، ومن المعروف أن التفسيرات الصوفية للقرآن الكريم قد شهدت تطورًا وانتشارًا ملحوظًا بعد ذلك خاصة لدى الإمام عبد الكريم القشيرى (465هـ/ 1072م) صاحب كتاب «لطائف الإشارات فى تفسير القرآن» لتصل إلى ذروتها مع الشيخ الأكبر لدى الصوفية محيى الدين بن عربى (638هـ/ 1240م). 
 ومن المستشرقين من ركز جل اهتماماته البحثية على دراسة شخصية صوفية واحدة وهذا ما نجده مع المستشرق الأمريكى المعاصر وليم تشيتك William Chittick الذى قدم أكثر من خمس دراسات «نشرت فى كتب» عن المتصوف محيى الدين بن عربى (638هـ/ 1240م)، حتى بات وليم تشيتك هو الدارس الأشهر، والمرجعية الأساسية لأى باحث معاصر يتجه لدراسة ابن عربى. 
 ومنهم أيضا من اتجه إلى دراسة «الطرق الصوفية» كما فعل المستشرق الإنجليزى سبنسر ترمينجهام Spencer J. Trimingham وقد حاول ترمينجهام فى دراسته رصد بداية ظهور ظاهرة «الطرق الصوفية» فى القرن الخامس الهجرى وما تلاه، كما أنه قام بدراسة أثرها الأخلاقى فى تربية المريدين من ناحية، ومدى أهميتها للمجتمع فى تقديم قيم الدعم التربوى والأخلاقى من ناحية أخرى. كما أنه أوضح كيف قدمت الطرق الصوفية فلسفة تربوية وأخلاقية فريدة ومتميزة فى الحضارة الإسلامية.
ومن خلال ما سبق- بالرغم من أنه أمثلة قليلة جدا- نستطيع القول بأن التصوف الإسلامى يحتل مكانة بارزة فى البحوث الاستشراقية، مكانة أوسع وأغنى مما كان فى الماضي، ومع الأسف الشديد لا تستطيع حركات الترجمة فى العالم العربى ترجمة أهم الدراسات الغربية عن التصوف الإسلامى خاصة الدراسات المتسمة بالمناهج المعاصرة فى الغرب. 
كما أننا قد لاحظنا أن أغلب هذه الدراسات- ونعنى بصفة خاصة الدراسات التى تمت فى العقود الأربعة الأخيرة- قد تناولت دراسة التصوف الإسلامى «برؤيته من الداخل قدر الإمكان» أى أنها تدرس التصوف من خلال العودة إلى مصادره ونصوصه الإسلامية الأصلية، وتحاول قراءته من خلال مكانته فى البيئة الإسلامية فى ضوء محاولة العودة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، كما يأتى أغلبها خاليا من التوجهات والأحكام الأيديولوجية المسبقة. 
ولنأخذ على هذا الأمر مثالا: فلو حاولنا تتبع قراءة المستشرق الإيطالى المعاصر جوزيبى سكاتولين لمفهوم التصوف الإسلامى فسنجده يتجه أولا إلى قراءة المصطلح من مصادره الإسلامية الأصلية، وقد ظهر هذا الأمر جليا فى كتابه المعنون بـ «التجليات الروحية فى الإسلام» حيث بدأ ينبه قارئه قائلاً: «وأخيرًا، فهذا الكتاب الذى نقدمه للقراء الكرام يجمع عددًا وافرًا من النصوص التى تمثل أهم الشخصيات والتيارات الصوفية مما يُعتبر الحقبة الكلاسيكية للتصوف الإسلامى.... وقد رأينا أنه من الأفضل أن يتم عرضها بترتيب تاريخى لإبراز التعاقب الواقعى للأشخاص وأفكارهم وتبصراتهم. وكذلك فضَّلنا أن نجعل المتصوفة يتكلمون هم عن أنفسهم من خلال نصوصهم، فلا نكون نحن المتكلمين عنهم» وبعد ذلك نجده يقدم أكثر من (أربعين) تعريفًا للتصوف نقلا عن مصادره الإسلامية الأصلية عامة، وكتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف» للكلاباذى (380هـ/ 990م)- الكتاب الذى قيل عنه «لولا التعرف لما عرف التصوف»- خاصة. ومن ضمن أبرز التعريفات التى قدمها للتصوف استنادًا على المصادر الإسلامية: 
وقال قَوْمٌ: إنما سُمُّوا صُوفِيَّةً للِبْسِهِمُ الصُّوفَ- ومِنْ لِبْسِهِمْ وزِيِّهِمْ سُمُّوا صُوفِيَّة.... إلا أنه لا يتوقف عند هذا المستوى الاشتقاقى للمصطلح. خاصة أن هناك من يقول إن اللفظ «صوفي» مشتق من الفعل (صفا- يصفو- صفاء) ومنه العبارة (صُوِفىَ قلبُه) أى طهر من كل ذنوبه ورذائله كى ينعم بتطهر قلبه بعد ذلك، ولإثبات حضور هذا المعنى فى تاريخ التصوف الإسلامى يعود سكاتولين إلى تقديم النصوص الصوفية الدالة على ذلك ومنها: (إنَّما سُمَّيَتِ الصُّوفِيَّةُ صُوفِيَّةً لصَفَاءِ أسْرَارِهَا، ونَقَاءِ آثارها- الصُّوفىُّ مَنْ صَفَا قَلْبُهُ لله- الصُّوفىُّ مَنْ صَفَتْ لله مُعامَلَتُهُ فَصَفَتْ له مِنَ الله عَزَّ وجلَّ كَرَامَتُهُ) وتعريفات أخرى عديدة يقدمها سكاتولين..
 ثم نجده أيضا ينتبه جيدا إلى أن هناك تاريخيًا من ذهب إلى القول بأن اللفظ «صوفي» نسبة إلى «أهل الصُفَّة» وهم قوم من فقراء المهاجرين بنُيت لهم صُفَّة (أى مكان مُظلَّل) بجوار المسجد النبوى بالمدينة، ليكرسوا أوقاتهم للعبادة الدائمة. كما أنه يعود إلى النصوص التاريخية كى يبرهن على قوله من خلال تاريخ التصوف وفى ذلك نجده قد أورد النصوص التالية: (إنما سُمُّوا صُوفِيَّةً لقُرْبِ أوْصَافِهِمْ مِنْ أَوْصَافِ أهْلَ الصُّفَّة).
وكى يحيط سكاتولين بالجوانب التاريخية المختلفة للفظ لا يغفل ما ذهب إليه بعض المتصوفة من اعتبار أن اللفظ مشتق من لفظ «الصَّفّ»، إشارة إلى أن الصوفية هم الذين يقفون فى الصف الأول أمام الله، وفى ذلك أورد أيضا النصوص التاريخية الدالة على ذلك (إنما سُمُّوا صُوفِيَّةً لأنَّهُمْ فى الصَّفَّ الأوَّلِ بَيْنَ يَدَى الله جَلَّ وَعزَّ بارْتِفَاعِ هِمَمِهمْ إليه، وإقْبالِهِمْ عَلَيْهِ، ووُقُوفِهِمْ بسَرَائِرِهمْ بَيْنَ يَدَيْهِ- ومن نسبهم إلى الصُّفَة والصَّفِّ الأوّل فإنه عَبِّر عن أسرارهم وبواطنهم).
 وإذا كان هناك من ذهب إلى الاعتقاد بأن لفظ صوفى مشتق من الكلمة اليونانية (sofos) التى معناها «الحكيم»، وهذا لأنهم اعتبروا أنفسهم من أهل الحكمة والخبرة، فهم أصحاب المعارف السامية الجليلة. فإن سكاتولين يعترض على هذا الاشتقاق قائلاً: «هذا الاشتقاق يبدو ضعيفًا جدًّا إذْ إن الكلمة اليونانية (sofos) عُرّبت فى الغالب عند الفلاسفة المسلمين بكلمة (سوفوس) وليس بـ(صوفي)».
 والجدير بالذكر أن سكاتولين قد اجتهد أيضا فى القيام بحفريات تاريخية متميزة فى تاريخ التصوف من أجل محاولة اكتشاف المفهوم أكثر فأكثر، حيث نجده يقدم لنا تعريفًا تاريخيًا مميزًا لم يظهر من قبل فى أى دراسة صوفية عربية، وهو ذلك التعريف الخاص بالمتصوف المجهول أبو القاسم النصراباذى (ت367هـ/ 977م): «التصوف نور مِنَ الحق يدُلُّ على الحق، وَخَاطِرُ مِنهُ يشير إليه، التصوفُ فَناؤكَ عن الكونَيْن لِيَبْقى، مُكَوِّنهُما». 
ومن خلال المثال السابق نستطيع أن نكتشف مدى اعتماد الحركة الاستشراقية المعاصرة على قراءة التصوف من داخل بنيته العربية الإسلامية الأصلية استنادًا على نصوصه التاريخية. 
وختامًا: 
أعتقد بأهمية التمييز الواضح بين ما يمكننى تسميته بـ «الاستشراق الأكاديمى أو العلمى» الذى تناول بمنهجية واضحة دراسة التصوف الإسلامى من ناحية، والاستشراق السياسى الذى أسقط أيديولوجيته المسبقة على موضوع الدراسة واستخرج النتائج قبل القراءة من ناحية أخرى، ولحسن الحظ تأتى أغلب الدراسات الاستشراقية المعاصرة للتصوف اليوم متسمة بالمنهجية العلمية، معبرة عن الاستشراق الأكاديمي، وبعيدة عن الاستشراق السياسى، وربما كان السبب فى ذلك هو ظهور حالة من النقد الذاتى بالمؤسسات الاستشراقية الأوروبية منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي. 
وإذا كانت عملية قراءة النص تنطوى على ما هو أكثر من معرفة باللغة، إذ يضم النص مجموعة من الشفرات المركبة والمعقدة (مصطلحات وأفكار وخبرة ذوقية) التى تمثل اللغة واحدة منها، علاوة على أن فعل القراءة فى مجال التصوف الإسلامى يتطلب من المستشرق أن يكون على معرفة ودراية جيدة بموضوعات عديدة فى التراث والثقافة العربية الإسلامية (كعلوم الدين والتاريخ الإسلامى والفلسفة الإسلامية... إلخ) بالإضافة إلى ضرورة تمتع المستشرق بحس ذوقى يجعله يستقبل الإشارات الرمزية للتجربة الصوفية، ففى ضوء ذلك يمكننا القول: بأن الحركة الاستشراقية المعاصرة قد تمكنت بالفعل من اكتساب خبرة فريدة ومتميزة ومتراكمة عبر الزمان أدت إلى إحداث عملية تحول نوعى ملحوظ على مستوى الدراسات الاستشراقية المعاصرة فى مجال التصوف الإسلامى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة