الإسكندرية ليست كمثلها من المدن
الإسكندرية ليست كمثلها من المدن


الإسكندرية ليست كمثلها من المدن

مدينة مسكونة بالأدب والشعر

آخر ساعة

الأحد، 06 يونيو 2021 - 12:28 م

حسن حافظ

ليست كمثلها من المدن، هكذا كانت الإسكندرية ولا تزال، بنت البحر التى خرجت من رحم أحلام فاتح العالم الإسكندر الأكبر، الرجل الذى تخيل مدينة تلتقى على أبوابها حضارات الشرق العريقة بحضارة اليونان الوليدة، مدينة تحرس تراث العالم الثقافى والفكرى والعلمى، مشعل حضارة ومنارة تنير دروب السالكين فى مسالك المعرفة. ضاعت فتوحات الإسكندر وطوتها الأيام سريعا، لم يتبق من ذكراه إلا المدينة العظيمة التى عاشت على ضفاف المتوسط غير بعيدة عن وادى النيل، وظلت على مدار عصورها قبلة العلماء وكعبة العلم ومهجع الأدباء والشعراء، لم تفقد المدينة العجوز قدرتها على الإغواء رغم أعوامها الـ 2353، فظلت الغواية المتجسدة التى سحرت الكثير من الأدباء والشعراء الذين كتبوا عنها وعن ناسها.

اختار الإسكندر بعد احتلال مصر وطرد الفرس منها، قرية صغيرة تسمى راقودة، وتطل على البحر المتوسط، غربى دلتا مصر، لكى تكون مقرا لحكم المقدونيين فى مصر، وذلك عام 332 قبل الميلاد. كانت هناك جزيرة صغيرة أمام القرية، تدعى فاروس، أمر الغازى الكبير بردم المسافة بين القرية والجزيرة، كان يرى أن المدينة المزمع وضع أساسها ستكون قريبة من بلاد اليونان وتكون همزة الوصل مع الداخل المصرى بتراثه العريق، محطة تجسد حلمه بالمزج بين حضارات العالم المعروفة وقتذاك فى حوض البحر المتوسط. 

وإذا كان للإسكندر فضل وضع حجر أساس المدينة، فإن خليفته وحاكم مصر بطليموس الأول صاحب الفضل الأول فى تحويل المدينة من معسكر للجنود إلى مدينة ملكية، تتميز بمنشآتها الثقافية والعلمية التى جعلت من المدينة أعجوبة العالم، ووارثة الفلسفة اليونانية ومركز التمازج الحضارى بين الثقافات الشرقية - وفى مقدمتها الثقافة المصرية- والثقافة اليونانية، وهو ما نتج عنه عصر ثقافى كامل عرف بالعصر الهلنستي، وهى كلمة تجمع بين مسمى بلاد اليونان الأصلى (هيلين) ومسمى الشرق، للتعبير عن سيادة الثقافة واللغة اليونانية على المساحة التى فتحها الإسكندر وتمتد من تركيا الحالية ومصر غربا إلى بلاد الهند شرقا، وكانت الإسكندرية هى المدينة المعبرة ثقافة وفكرا عن هذا المناخ بما امتلكته من مكتبة سار بذكرها الركبان، ومنارتها التى عدت إحدى عجائب الدنيا فى زمنها، ومراكز الأبحاث الفلسفية والعلمية التى جعلت المدينة قبلة طلبة العلم من كل جهة.

الحديث عن الطبقة الأولى من تاريخ الإسكندرية الثقافى يحيل مباشرة على المكتبة الشهيرة، ولا يوجد أفضل من الدكتور مصطفى العبادى، أستاذ التاريخ السابق بجامعة الإسكندرية، للحديث عن هذه النقطة، إذ يعد كتابه "مكتبة الإسكندرية القديمة سيرتها ومصيرها" العمدة فى هذا الباب، وهو الكتاب الذى اعتمدته منظمة اليونسكو وطبعته على نفقتها.

يقول العبادى إنه رغم وجود عشرات المكتبات فى العصور القديمة، إلا أن أشهرها جميعا كانت بلا جدال "مكتبة الإسكندرية، ليس لكونها أكبرها وأكثرها كتبًا طيلة التاريخ القديم فحسب، ولكن لأنها كانت مرتبطة أيضًا بواحد من أهم مراكز البحث العلمى، وكان يقصدها العلماء من جميع أقطار البحر المتوسط، وحتى بعد اندثارها مع اضمحلال العالم القديم، استمرت ذكراها فى كتابات مؤلفى العصور الوسطى... ولعل السبب وراء هذا الاهتمام الإنسانى غير المألوف هو أن المكتبة و"الموسيون"، كانا الممثل الرئيسى لحضارة عصرهما، والأساس الذى قامت عليه ما يمكن أن نسميه جامعة الإسكندرية القديمة التى حملت لواء عالمية البحث العلمى والمعرفة أكثر من سبعة قرون متصلة".

الميراث الحضارى والثقافى لمدينة الإسكندرية تعززت بعدما أصبحت معقل الدراسات الفلسفية فى العصر الرومانى ثم أصبحت معقل الدراسات اللاهوتية فى العصر المسيحى بعدما استضافت مقر الكنيسة المصرية، وتتابعت هذه الطبقات الحضارية فى العصر الإسلامى فأصبحت المدينة مركزا للدراسات الإسلامية خصوصا الحديث والفقه، بل وأصبحت مقرا لنشاط كبار الصوفية والذين أنتجوا شعرا صوفيا شديد العذوبة بالقرب من بحر الإسكندرية، وفى مقدمة كل هؤلاء يأتى الشاعر الصوفى البوصيرى الذى ألف قصيدته، والمعروفة اختصارا بقصيدة البردة فى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتم بالكتابة عن هذه الفترة المؤرخ الراحل جمال الدين الشيال الذى أخرج للناس كتابيه "تاريخ مدينة الإسكندرية فى العصر الإسلامي"، و"أعلام الإسكندرية فى العصر الإسلامي"، كشف فيهما عن استمرار الدور الحضارى للمدينة تحت الحكم الإسلامى وصولا إلى العصر الحديث.

كل هذا الميراث الحضارى والملامح المميزة لمدينة الإسكندرية عبر قرون عديدة جعلها قبلة الأدباء والشعراء فى العصر الحديث يكتبون عنها ومنها، يشيدون عوالم خيالية تتعانق مع واقع المدينة الساحر، ينهلون من التنوع الخلاق لمدينة كانت مفتوحة لاستقبال جنسيات من مختلف أنحاء العالم من أجل خلق شخصيات روائية من لحم ودم، فهذا قسطنطين كفافيس أعظم شعراء اليونان فى العصر الحديث، يتغنى بمدينة الإسكندرية التى يعتبرها مدينته لأنه نشأ فيها وفى شوارعها بدأ كتابة قصائده، خاصة أن المدينة أصبحت مدينة كوزموبوليتانية، أى مدينة متعددة الأعراق والثقافات بداية من القرن التاسع عشر وهو الملمح الأبرز فى تاريخ المدينة حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين.

وعن النشاط الثقافى يقول الدكتور نجيب عثمان أيوب، أستاذ النقد والأدب بجامعة حلوان، إن الإسكندرية كانت مركزا ثقافيا أساسيا فى مصر على الدوام، وهو ما جعلها مدينة ذات طبقات حضارية وتضم تنوعا بشريا من مختلف الجنسيات، لذا لم يكن غريبا أن يتهافت العديد من الروائيين على الكتابة عنها كنتيجة طبيعية لحراك ثقافى امتد على مدار عقود القرن العشرين، خرج من رحمه العديد من الكتاب والشعراء والأدباء، الذين شاركوا فى النهضة المصرية وتركوا علامات بارزة فى الأدب المصرى على مدار عقود.

ورصد أيوب تطور الحياة الثقافية فى المدينة قائلا لـ"آخرساعة": "المدينة تعد بوتقة انصهرت فيها مختلف الثقافات، ما تجلى بوضوح فى ازدهار حياة ثقافية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فمثلا قبل ظهور مدرسة الديوان الشعرية، ظهرت فى الإسكندرية جماعة الشلالات والتى جعلت من حديقة الشلالات بالإسكندرية مقرا لها، وكان على رأس هذه الجماعة الشاعر عبد الرحمن شكرى، مؤسس مدرسة الديوان، وعتمان حلمى وبعض الشعراء الآخرين، وكانوا يتناولون القضايا الأدبية ويلقون القصائد، ويعارضون مدرسة أبولو الشعرية بطابعها الرومانسى".

وتابع أيوب: "ظهرت فى الإسكندرية جماعة نشر الثقافة سنة 1932، وتضم: خليل شيبوب وصديق شيبوب ويوسف فهمى وعثمان الجزايرلى ومنيرة يوسف، وعملت هذه الجماعة على نشر الشعر والدراسات النقدية التى أظهرت صورة واضحة لبيئة الإسكندرية الثقافية وبحر المدينة ودروبها وتفاصيلها، وعبروا تعبيرا وجدانيا فنيا عن المدينة، ومن هذا المناخ الثقافى ظهر كُتاب الرواية الذين عبروا عن المدينة بوضوح ورسموا معالمها الروائية بشكل واضح وأكثر فنية، كما كانت هناك ندوة الإثنين، والتى تخرج منها أبرز الروائيين الإسكندرانيين أمثال إبراهيم عبد المجيد ومصطفى نصر، بل شهدت المدينة نهضة فى الفن التشكيلي، ويكفى أن نذكر اسم الفنان محمود سعيد ولوحته الشهيرة بنات بحري".

هذا التراث المتعدد المظاهر والمكون من طبقات تاريخية مختلفة، جعل لمدينة الإسكندرية سحرها الخاص، فألف العديد من الروايات عنها، فهذا نجيب محفوظ ابن القاهرة البار والذى كتب عن حاراتها أهم رواياته، لم يقاوم غواية بنت البحر، فكتب رواية "ميرامار" وهى روايته الوحيدة التى تدور بالكامل فى الإسكندرية، وقد قسم الرواية إلى أربعة أجزاء داخلية يعكس كل جزء رواية أحد الأبطال لأحداثها من وجهة نظره، ويبدو أن التقسيم الرباعى كان تحية فنية من النجيب لصاحب رباعية الإسكندرية، الروائى البريطانى لورانس داريل، الذى كتب سلسلة من أربع روايات تدور أحداثها جميعا فى مدينة الإسكندرية فى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وقد كتب كل جزء من الرباعية من خلال منظور أحد الأبطال، كما دارت بعض أحداث روايات محفوظ فى الإسكندرية مثل "الطريق" و"السمان والخريف".

أما الروائى إدوارد الخراط، فيعد أحد عشاق الإسكندرية الكبار، فصاحب رائعة "رامة والتنين" من أبناء المدينة، لذا عشق كل تفاصيلها، وكتب عدة روايات تدور فى عوالم الإسكندرية الخاصة بكل تراثها وكل طبقاتها الحضارية، فكتب "إسكندريتي،" و"يا بنات إسكندرية"، و"ترابها زعفران"، ويمزج الخراط بين تفاصيل ما عاشه من ذكريات فى المدينة فى النصف الأول من القرن العشرين مع التاريخ القبطي، ليعيد تقديم رؤية عن أحد جوانب روح المدينة المتعددة. كما وقع الروائى العراقى برهان الخطيب فى شباك المدينة الساحرة، والتى عاش فيها فترة من حياته، تجلت بوضوح فى روايته "ذلك الصيف فى الإسكندرية".

وخصص الروائى والقاص مصطفى نصر، جل إنتاجه الروائى للحديث عمن مدينة الإسكندرية والتفاصيل الدقيقة لحياة البشر فى المدينة التى تحتضن البحر، وهو فى مختلف أعماله يؤرخ لمحطات تاريخية مهمة وفاصلة فى تاريخ الإسكندرية.

فيما ألف الروائى السكندرى محمد جبريل روايته الشهيرة "رباعية بحري"، والتى تنطلق من الموروث الصوفى للمدينة عبر أوليائها المشاهير (أبو العباس المرسى، وياقوت العرش، والبوصيرى، وعلى تمراز)، لسبر أغوار المدينة والنفوس البشرية على حد سواء. وكتب جبريل روايات "أهل البحر" و"حكايات عن جزيرة فاروس" و"النورس" و"المينا الشرقي"، و"جبل ناعسة"، وهى كلها أعمال تدور فى مدينة الإسكندرية والتى يمزج فيها جبريل بين عوالم الصوفية المدهشة بالأساطير بالواقع المعاش.

وهناك من الأدباء من دلف إلى الإسكندرية من بوابة التاريخ، كما فعل يوسف زيدان فى روايته الأشهر "عزازيل"، والتى تدور فى مطلع القرن الخامس الميلادى، وهى فترة تميزت بالصراعات المذهبية داخل كنيسة الإسكندرية، فضلا عن الصراع بين المسيحيين والوثنيين، وفضلا عن تقديم زيدان لعمل روائى رفيع المستوى على مستوى الحبكة واللغة، فإنه تمكن من إماطة اللثام عن فترة تاريخية مهجورة لمعظم المصريين. بدوره عاد عمر حاذق إلى التاريخ فى رواية "لا أحب هذه المدينة" والتى تدور أحداثها الرئيسية فى مدينة الإسكندرية فى القرن الثانى الميلادى، وعبر شخصية بطل الرواية حورس يقدم الكاتب قصة إنسانية عميقة عن المعاناة وتحدى الصعوبات فى فترة تحولات تاريخية عاشتها المدينة.

أما أشهر من كتب عن الإسكندرية أدبيا فى العقود الأخيرة، فهو الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد، الذى خلد اسمه بثلاثية الإسكندرية والتى تضم روايات "لا أحد ينام فى الإسكندرية"، و"طيور العنبر" و"الإسكندرية فى غيمة".

وعن تجربته يقول عبد المجيد لـ "آخرساعة": "كتبت عن الإسكندرية من منطلق أننى ابن المدينة الذى شاهد التحولات التى تعرضت لها بين مدينة عالمية منفتحة على جميع الجنسيات فى طفولتي، وبين المدينة التى تغيرت وفقدت هذا التنوع منذ السبعينيات، وهو ما رصدته فى ثلاثية الإسكندرية التى شعرت بعد أن فرغت منها أننى انتهيت من حلم قديم راودنى كثيرا وعطلته الحياة من حولى، وهو إنجاز ثلاثية الإسكندرية، التى تحكى عن فصول التحولات التى مرت بها المدينة خلال القرن العشرين كله".

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة