سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة


سلمى قاسم جودة تكتب :

ذاكرة العطر وغواية النوستالجيا

آخر ساعة

الأحد، 06 يونيو 2021 - 12:57 م

 

هو الممر الحريرى.. الخفى والمعلن.. الظاهر والسرى.. يصل الماضى بالحاضر.. يبعث المستحيل، يعيد طزاجة اللحظات الفانية، هو العطر.. الإكسير السحرى يتجاذبه الأثير، مبعثر فى دوامات الهواء، يكتنز الذكرى يوثقها، يناوش الحواس الخاملة، يسحق آلة النسيان الجهنمية، هو القادر دوما على  إحياء العدم واقتفاء أثر بهجة الحياة، قارورة العطر تحاكى النداهة الهائمة، تتقن الإغواء، هى بمثابة الظل المقيم، هو العطر الشاهد الأزلى على قصص الحب، فتنة النساء تتوج بأريجه النفاذ، الموحي، هو الدوار المثير، المُسكر الذى سكن صفحات الأدب وأبيات الشعر، الفن والخيال، شعر أشهى  الغجريات، هو بستان الزهر الذى زين الوجود. يقول  نزار قباني: «تخيلت.. حتى جعلت العطور تُرى.. ويُشم اهتراز الصدى»

كان الوقت عصرا، الهواء الباريسى يبدو بلون البرتقال بفعل ومضات الشمس المذهبة، أرتشف رحيق الزهر ينثره نسيم الشانزليزيه، أنا مع أمى ندلف إلى بيت عطور جيرلان، المكان بالنسبة لى هو أقرب إلى مغارة على بابا المجوهرة، ولكن هنا مصنوع من البلور، كريستال القوارير يضوي، يتناغم مع الأجواء الذهبية لشمس آخر النهار، رائحة العطر تبث الثمالة غير المحتملة، أقف حائرة فى قلب تلك الجنة الوردية، المربكة، هاهى قارورة «شاليمار»، الذى سُمى ملهى ليلى فى مصر باسمه بفعل شهرته وانتشاره، وهاهو عطر «الرداء الأحمر» للرجال، وفيما بعد صرت مولعة بالثوب القصير الأسود لجيرلاند la petite robe noire نحن الآن فى بوتيك شانيل شارع كومبو، تلك السيدة الاستثنائية أعشقها، هى لا تعرف الهزيمة ولكنها تتقن الحلم ودحر اليأس، تحول كل الانكسارات إلى انتصارات ونجاحات، عندما مات حبيبها وقصت شعرها حزنا عليه سطعت لأول مرة موضة الشعر القصير، وبينما تندلع الحرب ويرتفع ثمن الحرير والأقمشة الباهظة تشترى هى القماش الخاص بالفانلات الرجالى، فتنطلق موضة الأثواب الجيرزيه الملتصقة بأجساد النساء، فموضة البنطلون لتصبح من الآن فصاعدا، المرأة فى منطقة وسطى بين الذكورة والأنوثة، هى جابرييل شانيل، الطفلة غير الشرعية فى ملجأ للأيتام، نشأت حيث ألقى بها والدها، وهنا المرجعية الطريفة لأشهر عطر عرفه العالم حتى اليوم، وهو شانيل نمرة ٥، فلقد كان رقمها فى الملجأ ٥، وكانت مارلين مونرو لا تستعمل  سوى شانيل n.5، وعندما سُئلت عن الرداء الليلى الخاص بها عند النوم قالت فقط شانيل «نمرة ٥»، فى بوتيك شانيل كان العزف بالألوان، وألق الرقى وتلك الذائفة الجمالية الممتزجة بشذا العطور الغارقة فى الغموض والسحر، يفضى إلى التماهى فى فالس محلقة تتجاوز أطر الزمان والمكان، المقهى الباريسى المسكون برحيق القهوة، «كافيه كريم».. قلت للنادل.. فالآن أوان الانتباه، أذهب إلى  المكتبة حيث المكان مكتظ بنسخ رواية «العطر» لسوسكين، يسطع نجمه وتتحول روايته الغريبة إلى Best sellers هى تتناغم وتتجاوب مع أزهار الشر لبودلير شاعرى  المفضل، له قصائد عن العطر بديعة «le parfum» ثم القارورة، فدائما هناك فى قلب الدولاب والأدراج زجاجة عطر عتيقة منسية محملة بالأسرار والألغاز القابعة فى رحم الزمن.. تلك القارورة المطلسمة القادرة دوما على إشعال الحنين والشوق، هذا الشوق السائل، المسافر فى الغلائل الزمنية فى العطر لسوسكين، الجمال يمتزج بالقبح، المتعة بالجريمة، الخير بالشر، فالبطل جرونوى يقتل الأبكار، المليحات من الصبايا، يحول بشراتهن الشهباء المضيئة وشعورهن  وجدائلهن التى تحاكى أنفاس وشرايين الشمس الصهباء المخضبة بنزيفها الأبدى العظيم إلى قوارير عطور، ليمتزج فى هذا الكون الفسيح المرعب، الجمال بالقبح، فنحن فى هذا المجهول لا نعرف مصدر الأشياء، فجيرونوى يقطف زهوة الحياة ليجعلها أسيرة قارورة عطر موشومة بالقتامة الطبية، كتب سوسكيند: «لكن جيرونوى العظيم كان قد تعب وأخذ يتثاءب، فقال: ها قد أنجزت عملا عظيما وأنا راضٍ عنه كل الرضا، لكن كل ما هو منجز تام يشعرنى بالملل.. هكذا تكلم جيرونوى العظيم، بينما كان الشعب البسيط شعب الروائح العبقة فى الأسفل يرقص ويحتفل مسبحا «بحمده»، وهكذا فى دنيا (العطر) يمتزج الموت بالحياة، الجريمة بالفضيلة والمتعة بالعذاب، هى ثنائية هذا الوجود الهش، المنهك.. الآن أرتشف رائحة الأزمنة والأمكنة، أتنفس عطر الياسمين، حديقة بيضاء معطرة، بارفان (ديوريسمو) العطر الخاص والمميز لوالدتي، العمارة السعودية، أرتد إلى طفولتي.. أكاد أسمع عبارة تتكرر كثيرا، الجيران الأعزاء يعرفون خط سير أمى ومواعيدها من رائحة عطر ديوريسيمو يعبق المصعد، فالأسانسير يتحول إلى زجاجة بارفان، وعبير الياسمين يظل عالقا فى الهواء مثل الذكريات، وتابعها نشوة الحواس، ولا أروع من كلمات نزار: ارجع إلىَّ.. فإن الأرض واقفة كأنما الأرض فرت من ثوانيها.. ارجع.. فبعدك لا عقد أعلقة ولا لمست عطورى فى أوانيها..

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة