مدهوش
مدهوش
أبدًا
الثلاثاء، 08 يونيو 2021 - 12:35 م
إعداد: إدوين هونج .. ترجمة: نزار آغرى
أغلب ما نشره بيسوا خلال حياته (١٨٨٨ - ١٩٣٥)، اقتصر على نصوص صحافية عن الثقافة والأدب. بدأ عام ١٩١٢ بثلاثة مقالات سريعة عن البرتغال وآدابها. ثم شرع يكتب للصحف والمجلات الأدبية في لشبونة وأوبورتو. نشر بعض هذه المقالات بالاسمين المستعارين، (ألفارو دي كامبوس وريكاردو رييس)، وراح يدافع عن اختلافاتهما حول المسائل الجمالية وحول أعمال شخصيته المستعارة ذات المكانة العالية األبيرتو كاييروب. وقد استثنى اكاييروب نفسه من كتابة النثر.
كان قد تلقى كل تعليمه باللغة الإنجليزية ولهذا بدأ بكتابة الشعر بالإنجليزية حصرًا في السنوات الأولى (١٩٠١ - ١٩٠٩). كما أنه بدأ باكرًا في كتابة ملاحظاته النثرية ومقالاته القصيرة عن الفلسفة الكلاسيكية وعصر التنوير (نصوص فلسفية) بالإنجليزية والبرتغالية. واستمر في كتابة الملاحظات، التي بدأها في المدرسة، طوال حياته.
بعد أن قرر في عام ١٩٠٩ أن يصبح كاتبًا، التحق في لشبونة بمجموعة من المثقفين الذين أصدروا مجلة باسم اآجوياب. بعد ذلك أخذ يكتب قصائد وتأملات باللغة البرتغالية، ولكنه استمر في كتابة الشعر بالإنجليزية حتى قبل وفاته بأيام قليلة. ساهم مع اماريو دي سا كارنيروب في تأسيس مجموعة اأورفيوسب (١٩١٥)، وفي إصدار مجلة بالاسم نفسه، مكرسة لتجديد اللغة والأفكار والجمال. ثم استمر مع المجلة التي أعقبتها، ابورتوغال فوتوريستاب، (البرتغال المستقبلية).
كان همُّه الأساسي أن يقوم بتكريس موقف حداثي يوازي ما هو قائم في فرنسا وإيطاليا، وأن يخلق ذائقة لأفكاره التي تبنى بعضها في أعمال شخصياته المستعارة. خلال سنة أو أكثر رفع لواء حركة ابوليسموب (حركة بول)، النسخة الفرنسية والإنجليزية للشعر الانحطاطي، ثم تخلى عنها لصالح االإنترسيكشيونيسموب (التداخلية)، وهي حركة شعرية تقوم على الانطباعية البصرية والتفسخ الساخر، وتستند إلى الأعمال المبكرة لـ اعزرا باوندب وبجون جولد فليتشرب، وهما شاعران لم يكن بيسوا سمع بهما حتى ذلك الوقت في أغلب الظن، غير أن المستقبلية الأدبية والفلسفية التي رفع لواءها تجسدت في حركة اسينساشيونيسموب (الإحساسية)، وكان رائداها األبيرتو كاييروب، الشاعر الرعوي غير المنتمي لأي مدرسة (حارس الغنم)، وبألفارو دي كامبوسب، الشاعر، المهندس البحري المصاب بالكآبة الذهنية (النشيد المظفر)، والحساسية المتشظية (دكان التبغ).
الأعوام بين ١٩١٠ و١٩٢٠ كانت أكثر الفترات خصوبة في حياة بيسوا. وترافقت مع موجة جديدة من الطاقة التخيلية التي تفجرت في أعقاب قيام الجمهورية البرتغالية عام ١٩١٩ والتأثيرات المتدفقة من الحرب العالمية الأولى. في العشرينيات بدأت أعمال بيسوا تشق طريقها إلى المثقفين في لشبونة. وظهر جيل شاب من الكُتَّاب تحلق حول مجلة ابريسينشياب (الحاضر) التي أخذت على عاتقها نشر أفكاره. قصته الوحيدة والكاملة، االمصرفي الفوضويب، نشرت عام ١٩٢٢ في مجلة اكونتيمبورانياب (المعاصر)، كما نشرت أجزاء من يومياته تحت اسمه نصف المستعار ابرناندو سواريسب. غير أن أعمال ابرناندو سواريسب انتظرت حتى عام ١٩٨٢ كي تُجْمَع في مجلدين وتُنشَر بعنوان اليبرو دي ديساسوجيوب (كتاب اللايقين).
مِن أكثر مؤيديه حماسًا كان الناشر والناقد الأدبي اآرماندو كورتيس رودريجيسب، الذي كشف النقاب عن رسائل بيسوا، بما فيها تلك التي تتحدث عن شخصياته المستعارة، وكذلك الروائي والناقد الشاب اخواو جاسبار سيميوسب، الذي اتخذه بيسوا صديقًا له، وشرح له كيف يوضب مخطوطاته التي هيأها اخواو سيميوسب للنشر بعد وفاة بيسوا. وتنطوي الدراسة الرائدة التي كتبها اسيميوسب عن حياة وأعمال بيسوا عام ١٩١٥ على أهمية خاصة.
بقيت أعمال بيسوا كما هي إلى أن انكبَّ عليها الناشرون والدارسون لاحقًا لتمحيصها وعرضها للبحث والنقاش. وكانت هذه الأعمال أودعت في شقة شقيقته في لشبونة وبقيت هناك، مع مكتبته وأوراقه، إلى وقت متأخر؛ حيث نُقِلَت إلى المكتبة الوطنية. اليوم، وفي الذكرى المئوية لميلاده، وبعد أن نُشِرَ الجزء الأكبر من كتاباته، ينهض بيسوا رائدًا من رواد الحداثة في العالم.
شأنه شأن كافكا، كان بيسوا في نزاع أبدي مع جسمه، ومع عقله أيضًا. ولأن عقله كان سلاحه الرئيسي في حربه ضد نفسه؛ فقد ظلَّ يسنّه لكي يذكره دومًا بمدى عجزه عن العيش في االعالم الواقعيب. هذا الأمر جعله يتوقع الأسوأ بالنسبة لشخصه؛ بحيث غدا أقوى خصوم ذاته.
يتحدث بيسوا عن الرعب الذي ينتابه حين البدء بأي شيء، ويضيف أنه يعجز عن إنهاء أي شيء. كافكا يقول الشيء نفسه. كان العالم عدوه اللدود. كانا إذًا شخصين منتظمين بطبيعتين عقليتين مخيفتين، كيف كان لهما أن ينافسا العالم الخارجي بكل قواه غير المنتظمة وطاقاته الساحقة، بما يترك لهما المجال كي يخلقا لنفسيهما واقعًا منظمًا وفعَّالًا، سواء في الفن أو في الحياة؟! كانت عداوة الذات مغروسة عميقًا فيهما، فنظرا إلى العالم، خصمهما الرئيسي، بوصفه تهديدًا أبديًا من شأنه أن ينفجر فيهما في أي لحظة.
حول الإحساسية
(1)
النهضة الجديدة
بالنسبة إلى النهضة فإن الواقع هو الروح. الرومنطيقيون رأوا أن الواقع هو الطبيعة. الآن إذًا، وبما أن معرفتنا لا تستطيع أن تتجاوز حدود الروح والطبيعة، فإن النهضة الجديدة (دعونا نسميها هكذا) لا تملك أساسًا جديدًا للواقع. ولهذا فإن أصالتها تنبثق من كونها تؤلف مزجًا للسيكولوجـيتين االنهضوية والرومنطيقيةب.
ليست هناك فرضية أخرى يمكن تخيلها.
هذا المزج، على أي حال، يولد واقعًا مدهشًا: تعايش إحساسين إزاء الواقع، فكرة مزدوجة عن الواقع. ولكن ليس في مقدور المرء أن يملك سوى فكرة واحدة عن واقع واحد. لا يمكن تخيل الواقع سوى أنه واحد. والنتيجة، إذن، هي أنه بالنسبة للنهضة الجديدة يجب أن يكون هناك مزج بين الطبيعة والروح. وعليه يكون الواقع عبارة عن طبيعة ذ روح. أي أن الطبيعة سوف تدرك، بالنسبة للنهضة الجديدة، باعتبارها روحًا.
كيف يمكن للاواقعي، إذن، أن يعبِّر عن نفسه بوصفه لا واقعيًّا؟ لكي يكون اللاواقعي لا واقعيًّا يترتب عليه أن يكون واقعيًّا. ولهذا فاللامرئي هو واقع لا واقعي أو لا واقع واقعي: تناقض منجز. المتعالي، إذن، يكون ولا يكون في الوقت نفسه. إنه يوجد وراؤه وليس وراء تجليه. هو واقعي ولا واقعي في هذا التجلي. من الجلي أن هذا النظام ليس ماديًّا أو روحيًّا بل هو حلولية متعالية. فلنسميه إذن االحلولية المتعاليةب. هناك مثال أبدي واحد عنه: كاثدرائية الفكر في فلسفة هيجل.
االحلولية المتعاليةب تستغرق وتتجاوز كل النظم. بالنسبة لها فإن المادة والروح هما واقعيتان ولا واقعيتان في الوقت نفسه، أي جوهريًّا الله واللاالله. وهكذا يصح أن نقول إن المادة والروح موجودتان ويصح أن نقول إنهما غير موجودتين، لأنهما موجودتان وغير موجودتين في الوقت نفسه. الحقيقة النهائية التي يمكن للمرء أن يقولها بالنسبة لأي شيء هي إنه موجود وغير موجود في آن واحد. ولذلك فإن التناقض هو جوهر الكون: عدم إدراك الواقعي هو إدراك اللاواقعي. وهذا إثبات يزداد رسوخًا كلما مضينا أكثر. ليس خطأ أن نقول إن المادة مادية والروح روحية، ولكن الأصح أن نقول إن المادة روحية والروح مادية.
(2)
رسالة إلى محرر إنجليزي
سيدي:
إن الغاية من هذه الرسالة هي الاستفسار عما إذا كنت على استعداد لطبع أنطولوجـيا للشعر البرتغالي االإحساسيب. أنا على دراية تامة بمدى انشغالك بالحركات الجديدة وهذا ما شجعني على طرح هذا الاستفسار.
لربما يصعب عليَّ أن أشرح بالضبط، في الفسحة التي يتيحها لي الحجم الرسمي للرسالة، ما تعنيه حركة الإحساسية. ومع هذا فإني سوف أحاول أن أضع أمامك بعض الأفكار عن ماهيتها. وآمل أن أسد الفراغات المحتملة في شرحي السريع هذا بالمقتطفات التي أرفقها، والتي هي ترجمات لقصائد وأبيات إحساسية.
أولًا: في ما يتعلق بالأصل. سيكون من العبث القول إن الإحساسية بالشكل الذي هي عليه تأتي من الآلهة أو تطلع من أرواح مبتكريها من دون أي اعتبار للسيرورة البشرية للأسلاف الأوائل وتأثيراتهم. غير أننا نزعم أنها أصلية بالفعل بالقدر الذي عليه أي حركة ثقافية أو غير ثقافية. وهي لا تمثل، لا جوهريًا (في كينونتها الميتافيزيقية) ولا ظاهريًا (في تجلياتها التعبيرية) نوعًا جديدًا من نظرة كونية. ليس لدي أي تردد في قول ذلك. بما (أنني) (لن أقول مؤسسها، لأن مثل هذه الأشياء يجب ألا تقال أبدًا) (...) (على الأقل بشكل أساسي) مسؤول عنها، فإني أنسبها لنفسي ولأتباعي غير المعصومين عن الخطأ لكي لا نكون أكثر تواضعًا مما نكون عليه حين يتعلق الأمر باستعمالاتها الاجتماعية.
بالنسبة للأصل، إذن، فإن تعدادنا للأصول الأولى سوف يكون بمثابة العنصر الأول في ما يتعلق بالشرح الوافي للحركة. نحن ننحدر من ثلاث حركات: الرمزية الفرنسية، والوثنية المتعالية البرتغالية، وحفنة الأشياء التافهة والمتناقضة التي تعبر عنها المستقبلية والتكعيبية، وما شابه من تعبيرات طارئة. ولكن ينبغي القول إننا ننحدر من روح هذه الحركات وليس من مادتها. أنت تعرف ما هي الرمزية الفرنسية ولذلك فأنت بالطبع على دراية من أنها تشكِّل في العمق أقصى تجليات النزعة الذاتية الرومانسية، غير أنها إلى جانب ذلك تشكِّل أقصى تجليات الحرية الرومانسية للتنوع. وفضلًا عن هذا فقد كانت تمثل تحليلًا دقيقًا وسقيمًا للغاية (مركب لغايات التعبير الشعري) للأحاسيس. كانت، منذ ذلك الوقت، ولو فجة، بالمقارنة مع حركتنا. لقد غضت البصر عن العالم جريًا وراء تلك الحالات الذهنية التي كان من شأن التعبير عنها ألا يتسق مع التوازن (الاستقرار) العادي للأحاسيس.من الرمزية الفرنسية نستمد موقفنا الأساسي القائم على إبداء أكبر قدر من الاهتمام بأحاسيسنا، ومن ثَمَّ سلوكنا اللامبالي وغير المتحمس وغير المكترث بأبسط الأشياء وأكثرها صلابة في الحياة في آن معًا. هذا لا يشملنا كلنا، بالرغم من أن التحليل الدقيق والفاحص للأحاسيس يشغل الحركة كلها.
وأما في ما يتعلق بالاختلافات: فإننا نرفض كليًا، إلا في حالات استثنائية ولأغراض جمالية بحتة، الموقف الديني للرمزيين. فالله بالنسبة لنا هو مجرد كلمة يمكن استعمالها بشكل ملائم لتشير إلى ما هو غامض من دون أن تتضمن مقاصد أخلاقية أو غيرها. إنها ذات قيمة جمالية فقط. إضافة إلى هذا فإننا نشجب ونبغض عجز الرمزيين في امتلاك النفس الطويل وفشلهم في كتابة قصائد طويلة وببنيتهمب الرخيصة.
ليست لديك دراية بــــــبالوثنية المتعاليةب البرتغالية. وهو أمر مؤسف، لأنه بالرغم من أنها ليست حركة قديمة، فإنها أصيلة. تصور لو أن الحركة الرومانطيقية الإنجليزية، بدلًا من أن تعود القهقرى إلى المستوى التينيسي ذالروسيتيذ البراونيجي، صعدت إلى الأعلى نحو اشيليب، وعملت على بث المزيد من الروح في وثنيته الروحية أصلًا، وهكذا سوف تصل إلى مفهوم الطبيعة (وثنيونا المتعاليون هم في الأساس شعراء طبيعيون)، التي ينصهر فيها الجسد والروح ويتحولان إلى شيء يتجاوزهما. إذا قدر لك أن تتخيل اويليام بليكب، وقد تقمص روح اشيليب، وراح يكتب انطلاقًا من ذلك فسيكون في وسعك على الأرجح أن تدرك ما أعنيه. لقد تمخضت هذه الحركة عن قصيدتين في وسعي أن أعتبرهما من أعظم القصائد على مر الزمن. هما قصيدتان قصيرتان على أي حال. الأولى، هي اأغنية النورب لجويرا جونكييرو، أعظم الشعراء البرتغاليين طرًا (كان يقود الشاحنات حين نشر اباترياب في عام 1896، ولكنبباترياب هي دراما غنائية ساخرة، ولا تنتمي إلى مرحلته الوثنية المتعالية). اأغنية الضوءب هي على الأرجح أعظم إنجاز شعري ميتافيزيقي منذ قصيدة اأغنيةب لوردزسورث. القصيدة الأخرى، التي تتجاوز بالتأكيد قصيدة االركوب معًاب لبراونينج بوصفها قصيدة عاطفية، والتي تنتمي إلى المستوى الميتافيزيقي نفسه لقصائد الحب ـ العاطفة، بالرغم من أنها أكثر وثنية من وجهة النظر الدينية، هيبمرثيةب لتيخيرا دي باسكوسياس، الذي كتبها عام 1905. نحن االإحساسيونب مدينون لهذه المدرسة الشعرية بالطريقة التي تنصهر فيها الروح والمادة وتتعاليان في شعرنا. وقد دفعنا العملية إلى الأعلى أكثر مما فعل الأولون، بالرغم من شعوري بالأسف لعجزنا حتى الآن في أن نجترح شيئًا يضاهي مستوى القصيدتين اللتين أشرت إليهما توًا.
أما بالنسبة لتأثرنا بالحركة الحديثة التي تتضمن: التكعيبية والمستقبلية، فإننا مدينون للاقتراحات التي تلقيناها منهم أكثر من تأثرنا بمضمون أعمالهم، إذا شئنا أن نكون دقيقين.
لقد أضفينا طابعًا ثقافيًا على حركتهم. تفكيك النموذج الذي يصنعونه (لأننا تأثرنا لا بأدبهم، إن كان في حوزتهم شيء يشبه الأدب أصلًا، بل بصورهم)، فقد مضينا إلى ما نعتقد أنه المجال الأكيد للتفكيك ذ ليس تفكيك الأشياء بل تفكيك إدراكنا لتلك الأشياء.
وبعد أن أطلعتك على منبتنا، وبشكل مختصر استعمالنا لذلك المنبت، واختلافنا عنه، فسوف أقوم الآن بشرح موقفنا المركزي من الإحساسية، بما تيسر لي من دقة.
٪ الحقيقة الوحيدة في الحياة هي الإحساس. الحقيقة الوحيدة في الفن هي وعي الإحساس.
٪ ليست هناك فلسفة ولا أخلاق ولا حتى جماليات في الفن، أيًا كانت تمثلاتها في الحياة. في الفن ثمة فقط أحاسيس ووعينا لها. كائنًا ما كان الحب والفرح والألم في الحياة، فإنها في الفن مجرد أحاسيس. إنها على أرض الواقع عديمة الفائدة للفن. الله هو إحساسنا لأنفسنا (لأن الفكرة هي إحساس)، وهو يستخدم في الفن للتعبير عن أحاسيس بعينها، مثل: الوقار والغموض وما شابه ذلك. لا يمكن للفنان أن يؤمن أو لا يؤمن بالله تمامًا، مثلما لا يمكن للفنان أن يشعر بالحب والفرح والألم. إنه يعتقد أو لا يعتقد، في اللحظة التي يكتب فيها، وذلك تبعًا للفكرة التي تمنحه الوعي بأحاسيسه وتمكنه من الإفصاح عنها بأفضل ما يكون في تلك اللحظة. وما إن ينقضي ذلك الإحساس فإن هذه الأشياء تصير، بالنسبة له كفنان، مجرد هياكل تحاول روح الأحاسيس أن تمظهرها لتلك العين الداخلية التي يكتب انطلاقًا من رؤيته للأشياء وإحساسه بها من خلالها.
٪ الفن، بأكمل تعريف له، هو التعبير الموزون لوعينا بالأحاسيس، أي أنه يجب أن نعبِّر عن أحاسيسنا بطريقة تخلق معها موضوعًا يتحول بدوره إلى إحساس للآخرين. الفن ليس االإنسان مضافًا إلى الطبيعةب. كما قال ابيكونب، بل هو الإحساس مضروبًا بالوعي ذ لاحظ: مضروبًا.
٪ المبادئ الثلاثة للفن: (1): يجب التعبير عن كل إحساس إلى أبعد مدى ممكن. أي أن التعبير عن كل إحساس يجب أن يصل إلى العمق. (2): يجب أن يُعبَّر عن الإحساس بطريقة تمكنه من إيقاظ ذمثل هالة من النور تحيط بإحساس مركزي معينذ أكبر قدر ممكن من الأحاسيس الأخرى. (3): يجب أن تكون حصيلة كل ذلك على قدر كبير من الشبه بشيء منظم لأن ذلك هو شرط الحيوية.
إن أسمى هذه المبادئ الثلاثة: الإحساس، والإيحاء، والبناء. وهذا الأخير - وهو أحد أعظم المبادئ لدى الإغريق الذين اعتبر شاعرهم الأعظم القصيدة بمثابة احيوانب- لم يلق اهتمامًا يُذكَر من لدن الحداثويين. أدت الرومانطيقية إلى زعزعة القدرة على البناء الأمر الذي كان الكلاسيكيون الأوائل على الأقل يتمتعون به. وقد ترك شكسبير، بعجزه القاتل عن تصور الكيانات المنتظمة، تأثيرًا مريعًا في هذا المجال. (سوف تتذكر أن الغريزة الكلاسيكية لماتيو أرنولد قد ساعدته على إدراك ذلك). لا زال اميلتونب هو المعلم العظيم للبناء في الشعر. شخصيًا أعترف أنني أميل أكثر وأكثر إلى وضع اميلتونب فوق مصاف شكسبير كشاعر. ولكن عليَّ أن أعترف أيضًا، بقدر ما أملك من شأن (وأنا أحاول جاهدًا ألا أكون الشيء نفسه لثلاث دقائق متتالية لأن ذلك يلحق الضرر بالصحة الجمالية)، إنني وثني ولذلك أقف إلى جانب اميلتونب كشاعر وثني أكثر من وقوفي إلى جانب الشاعر المسيحي شكسبير. على أن كل هذا ليس سوى عاطفة، وآمل أن تغفر تسربه إلى هذا المقام.
أحيانًا أنظر إلى القصيدة - وكان في مقدوري أن أضيف أيضًا اللوحة والتمثال، لولا أني لا أعتبر الرسم والنحت من الفنون بل أشغالًا يدوية- كما لو كانت شخصًا كائنًا بشريًّا حيًّا، وإنها تنتمي بالحضور الجسدي، والكيان المؤلَّف من لحم ودم، إلى عالم آخر يرميه إليه خيالنا حيث نقرأه في هذا العالم بوصفه لا أكثر من ظل ناقص من ذلك الواقع الجمالي المقدس في مكان آخر. آمل أن يأتي يوم، بعد الموت، أقابل فيه وجهًا لوجه البعض من أطفال هؤلاء الذين خلقتهم، وآمل أن أراهم في أجمل تقويم بطلِّتهم الندية الخالدة. لربما تتساءل في قرارة نفسك كيف أن شخصًا يقول عن نفسه إنه وثني ينسج مثل هذه الخيالات. نعم، كنت وثنيًا قبل فقرتين من هذه الأسطر غير أنني أكف عن أكون كذلك وأنا أستمر في الكتابة. وفي نهاية هذه الرسالة أتوقع أن أكون شيئًا آخر. إني أترجم إلى الواقع، بقدر ما أستطيع، ذلك التفكك الروحي الذي أمدحه وأشيد به. وإذا كنت أتمتع بأي قدر من التماسك فهو أقرب إلى لا تماسك اللاتماسك.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة