د. خالد القاضى
د. خالد القاضى


يوميات الأخبار

خواطر المستشار عبده الأوْدَن

خالد القاضي

الخميس، 10 يونيو 2021 - 06:01 م

 واحد من أهم رموز القضاة الذين لم تُحص عليهم هفوة طوال مسيرتهم.. فاستحق هذا الختام المشرف لعطائه القضائي.

تأملتُ بروّيةٍ وإعجابٍ بالغين، تلك الخواطر التى سطّرها بأسلوب أدبى بديع معالى المستشار الجليل عبده عطية الأودن رئيس محكمة استئناف القاهرة وعضو مجلس القضاء الأعلى، وهو بصدد اكتمال عطائه القضائى فى سن السبعين فى نهاية يونيو الجارى 2021، وذلك بعد قرابة خمسين عامًا قضاها ناسكًا متبتلا فى محراب العدالة، فى مشهد إنسانى رفيع.. متوج بمسيرة قضائية مهنية مشرفة.

استحضر المستشار الأودن فى خواطره معانى العبودية لله تعالى، مع قيمة خدمة زملائه القضاة وهو الذى جلس على قمة هرم محكمة استئناف القاهرة وهى أقدم وأكبر محكمة استئناف فى مصر والتى تضم قرابة ألفى مستشار فى دوائرها واختصاصاتها النوعية المتخصصة والمتفردة بها بنصوص قانونية.
فخاطب قضاة المحكمة فى عبارات تعكس أسمى التقاليد والقيم الإنسانية.. كتبها بمداد الرقى والتحضر، وفى كلمات ملؤها التواضع والود: «سادتى القضاة: عرفتكم زملاء أعزاء فنعم الزمالة.. عرفتكم أصدقاء فنعم الصداقة.. عرفتكم إخوة فى الله ولى كلمة فى هذا فالمحبة فى الله نعمة من الله والتواصل مع الأحبة أنس ومسرة فسلام على من دام فى القلب ذكرهم وإن غابوا عن العين- فنعم الإخوة.. لقد من الله عليّ بأن جعلني(خادم مطيع لكم) وقد تمكنتُ بفضل الله تعالى أن أحقق لكم طلباتكم ورغباتكم التى آليتُ على نفسى فى تحقيقها فى جمعيتكم الموقرة (أى الجمعية العمومية التى فوضته فى اختصاصاتها فى بداية العام القضائي).. الجميل فيكم أن تعلمت منكم فضيلة التواضع وما أعظمها فضيلة لكونى خصنى الله أن أكون خادم لكم فصرت بهذا عبدالله وما أعظم مقام العبودية لله تعالى».

ثم اختتم رسالته الخالدة فى وجدان الجميع بعبارات تنم عن شخصية قاض صدق ما عاهد الله عليه، فكتب: «أخيرًا عزائى لنفسى عندما تنتهى مهمتى أن أعيش على هذا الحب وتلك المودة «.. ولم يشأ أن ينهى رسالته قبل تحية خلفه معالى المستشار الجليل محمد رفعت.. فكتب: «وسوف أترك هذا المكان بمشيئة الله تعالى لسعادة المستشار محمد بك رفعت وهو أفضل منى خلقًا وعلمًا وإدارة ودعائى له بالتوفيق والسداد».

إلى هنا انتهت خواطر المستشار عبد الأودن.. وأقرر - دون شبهة المجاملة أو المبالغة - أنها من أندر الأحداث فى تاريخ القضاء المصرى الشامخ المعاصر والممتد لأكثر مائة وخمسين من السنوات.. وعبر أجيال عديدة.. والتى يتنبه فيها من يكتمل عطاؤه ببلوغه سن المعاش.. لمخاطبة زملاء له وكذلك موظفين وعمال كذلك.

وفى الواقع فإن المستشار الأودن هو نتاج هذه الأرض الطيبة.. مصرنا الغالية.. وهو واحد من المصريين الشرفاء الذين تشكل وجدانهم فى القرية المصرية.. حيث الود والتسامح والتواضع والإيثار وإنكار الذات.. وهو كذلك واحد من أهم رموز القضاة الذين لم تُحص عليهم هفوة طوال مسيرتهم القضائية.. ولم تزل قدماه قط.. فاستحق هذا الختام المشرف لعطائه القضائى على منصات القضاء.

لقد نكأ المستشار الأودن جراحًا غائرة فى نفسى شخصيًا بخواطره تلك.. لأننى من المهتمين للغاية بجودة اللغة وبديع الكلمات ورصانة العبارات، سيما من المشتغلين بالقانون بعامة، والقضاة منهم على وجه الخصوص.. ونشرتُ - قبل نحو عشرين عامًا مضت - عشرات الأحكام والمرافعات والمذكرات القانونية، فى ثلاثية كتب «من روائع الأدب القضائى» التى صدرت أعوام 2000 و2001 و2002 عن مكتبة الأسرة بمشروع القراءة للجميع، والتى كان لها - بفضل الله - أثرٌ إيجابى ملموس على مختلف أعمار وفئات القراء من المصريين والعرب المتعطشين لهذا النوع من الأدب الغائب.

 بين انكسار.. وانتصار  (C'est la vie)

 نعم ككل البشر.. كانت حياتى - ولازالت - مزيجًا من لحظات السعادة والانتصار فى مختلف مراحلها.. وفى مقابلها - ولا شك- لحظات التعاسة والانكسار.. ولكن هذه هى الحياة (C'est la vie).. الحقيقة الدامغة.. والواقع المُعاش.

ومن ثم، أعترف أننى كنتُ أخالف دوما ذلك المثل الشعبى القائل «دارى على شمعتك تقيد» والذى يعد ناموس حياة معظم الناس على مدار التاريخ الإنسانى، ولكننى أحد القلائل الذين لا سر لهم على الإطلاق، فأنا (على الهوا On air) ليل نهار، ولا أكتم رغبة ولا أدارى شمعة قط.. اعتقادا منى بأن كل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى، وبأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يضروك بشيء ما ضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، وهو ما تسبب لى فى عديد من الانكسارات والإحباطات العنيفة والحادة فى رحلتى كادت تعصف بى وتقتل طموحى وما حققته من انتصارات خلالها بفضل الله تعالى.

لقد مررتُ فى حياتى بقرابة عشرين مشهداً محبطًا.. والمتلقى - أنا - يتميز من الغيظ، وكثير من تلك الإحباطات ما شابها من قلق وتوتر وسهد وتفكير وشعور بالظلم والقهر، الذى كان من الممكن أن يتسبب فى الإحباط ولكن الله سلم..

وكأننا كنا نبحث عن «الغول أو العنقاء أو الخِل الوفى» وهذه هى المستحيلات الثلاثة عند العرب، ورابع تلك المستحيلات هذه التراجيديا العبثية..
وكأننا كنا نحارب طواحين الهواء كما صورها الأديب الإسبانى الشهير «سيرفانتيس» فى ملحمته الرائعة «دون كيشوت» أو «دون كيخوته» كما ينطقها الإسبان!!!

عشرون مشهداً.. أتقلب خلالها على جمرٍ أسريّ.. نظرات أولادى تكاد تعصف بما بقى من قدرة الاحتمال.. ويتمادون أكثر - فى صمتهم الصارخ - وهم يضعون كتبى فوق مائدة الطعام فى ترتيب زمنى قبيل دخولى حجرة الطعام.. واضطر أن أنحيها (آسفاً) فى هدوء وصمت لعلى أزدرد لقيمات يقمن بها صلبي..

أسئلة حائرة.. مبهمة.. عصية على الفهم والتصديق، تأتى الطعنات والمؤامرات ممن كنتَ تعتقد أنهم أقرب المقربين، وأصدق الأصدقاء.. وأخلص الخلصاء.. سنًا ومقامًا ورفعة..!!

وبعد هذا المارثون الطويل، وتلك التراجيديا السوداء يأتى الفرج من عند الله ناصعاً قاطعاً، حينئذ ٍ انسابت العَبرات المتحجرة، واغرورقت عيناى بالدموع، وسجدتُ لله حمداً وشكراً.. واحتضنتُ أفراد أسرتى، ووجدت ابنتى الصغرى يغادرها السقم والهزال الذى كان قد ألم بها.. وتصيح بعبارة ألفت أذناى سماعها فى قاعات المحاكم : «يحيا العدل.. يحيا العدل»، ثم تذهب إلى فراشها، وتلقى بجسدها النحيل عليه، وتنام ملء جفونها عن شواردها.. وتنهدتُ مبتسماً قائلاً لابنتى الكبرى المثقفة: «الآن أدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح».. فدعينا نبتهل إلى الله الحق العدل حمداً وعرفاناً.. وقرر ابنى أن يتجه إلى مكتبتي؛ ليقرأ فى كتابى «من روائع الأدب القضائي».. ودخلت زوجتى المطبخ لتعد لى وجبتى المفضلة؛ لعلى الآن أستطيع أن أتناولها بمتعة، وأقول لها فى النهاية: «تسلم إيدك...»!

ونامت الأسرة قريرة العين منذ فترة بعيدة، واستيقظنا فجراً على ضجيج الابنة الصغرى، وهى تبحث عن حقيبتها وأدواتها المدرسية، وتطلب من أمها إعداد «الساندويتشات»، وملابس المدرسة، وإتقان التسريحة وتزيين الضفيرة، وبعدها صاحت: الآن يا أبى.. وتضع قبلة تزين بها جبينى.. وهرولت فى الدَرَج إلى حافلة المدرسة، وتابعتُها من الشرفة، وهى تكاد تحتضن كل من فى الحافلة وتضحك بملء فيها، وتصر على أن تجلس فى الكرسى الأمامى، وتلوح لى بعلامة النصر.....!!!!

وهكذا عزيزى القارئ الكريم لعلك الآن تستطيع أن ترى ما سطرته المحن القاسية التى تحولت إلى منح إلهية كما يقول القائل:

جزى الله ُ الشدائد َ كلَّ خير.. فقد عرفتنى عدوى من صديقي.. أعتقد الآن أن (الرسالة وصلت..) .. مش كده ولا إيه؟؟!! .. وتصلح أن تكون (مشروع مسلسل تراجيدى قد يُعرض فى رمضان المقبل !!)..

نجاحات.. وأمنيات

(>) فى 8 يونيو 2014 أدى فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا رئيسًا منتخبًا لمصر بعد نجاحه بغالبية 96.9% من أصوات الناخبين..

وأمنية أن نفخر حقيقة بهذا اليوم التاريخى فى سجل الوطنية المصرية بعد انتخابات ديمقراطية نزيهة شهد بها القاصى والدانى.. وبداية مسيرة الإنجازات العملاقة.

(>) فى 5 يونيو 2021 شهد معالى وزير العدل ومعالى النائب العام أداء اليمين القانونية لمعاونى النيابة العامة دفعة 2017 بعد نجاحهم فى اجتياز كافة مراحل الاختيار والترشيح بكفاءة ونزاهة وموضوعية..

وأمنية أن يحذو هؤلاء الزملاء الجدد حذو رئيس النيابة الرائع الذى قدم الحفل فكان قمة فى الأداء شكلا وموضوعًا.

(>) فى 9 يونيو 2021 نجح المستشار الدكتور أبوبكر الصديق رئيس هيئة قضايا الدولة أن يسطر اسمه بين العظماء بافتتاحه مقرها ببنى سويف قبيل أيام من اكتمال عطائه القضائى ( أدامه الله لمصرنا الغالية )...

وأمنية أن تستمر الحصانة القضائية لمن أتموا عطاءهم من رؤساء الجهات والهيئات وأعضائها بعد سن السبعين، بحسبانهم رؤساء لجان فض المنازعات بوزارة العدل.

 ويبقى القانون

تنص المادة 186 من الدستور المصرى على أن : «القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات».

(>) قاض مصرى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة