طارق حجى
طارق حجى


حديث عن اللغات واللهجات

الأخبار

السبت، 12 يونيو 2021 - 07:03 م

على المستوى الشخصى والإنسانى، شهدت «أيام العدوان الثلاثي» مولدَ شعورى بمصريتى

حبى للغاتِ واهتمامى بها هما فى طليعةِ أولوياتى الثقافيةِ.
فمنذ صغري بدأ شغفى باللغةِ من شتى الجوانبِ.
ومن هذه الجوانبِ : الصوتيات.
ومنذ أيام عثرتُ على دفترٍ قديمٍ يرجع لسنةِ 1970 وفيه هذه الملاحظات :
معظمُ المصريين ينطقون السين وكأنها صادٌ (مثال : مدينة أسوان). والقاف عندهم أقرب لل كاف !
أما حروف الثاء والظاء والذال
فينطقونها نطقاً معيباً بدون إخراجِ اللسان.
أما الجيم المصرية، فلا أعترض عليها لأنها هى «الجيم القحطانية» (اليمنية) وهى الأصل لكونها أقدمَ من «الجيم العدنانية» (المعطشة).
انتهت الكلماتُ التى كتبتُها منذ 51 سنة !
وقد توسع واستفحل ولعى باللغةِ خلال السنوات (من 1979) التى كان استعمالى للإنجليزيةِ أضعافّ استعمالى لأيةِ لغةٍ أخرى.
ومفرداتُ اللغةِ الإنجليزية هى (بالأدلةِ الأكاديميةِ) الأكثر من أيةِ لغةٍ أخرى. ويضاف لذلك، أنها اللغةُ التى يحاول كلُ (أو معظم) البشر فى عصرنِا الحديث بها.
ومن هواياتى (التى كان فشلى فيها أضعافَ نجاحي) أن أعرف من لهجةِ أى بريطانى أتعامل معه : من أية منطقةٍ فى بريطانيا جاء ؟
وخلال سنى إقامتى وعملى فى المغرب (وكنتُ وقتها مدرساً بجامعة فاس)، ولعتُ بالدارجةِ المغربية (وبلهجةِ فاس بالذات) وأتقنتُها لدرجةِ أَننى كنتُ عندما أُقابل مغاربةً فى أوروپا يقولون لى ما معناه : أكيد أنت ولد (إبن) فاس ! رغم أَننى كنتُ أعانى وأنا أنطق الراء والقاف الفاسيتين !
ومن هواياتى التى انشغلتُ بها، اللهجات المصرية. وعندما كنتُ أحظى بحوارٍ مطول مع رأس الكنيسة المصرية البابا شنودة الثالث (2012/1923) كنت أستمتع بما كان يقولَه لى عن لهجاتِ الصعيد وبالذات لهجة المنطقة التى جاء هو منها وهى أسيوط... وما أكثر ما أضحكنى بنطقه لجملٍ مليئةٍ بحرفِ الجيم الذى ينطقه بعضُ أهل أسيوط ك «دال» : ددع (جدع)... ديش (جيش) !
وقد تأخرت معرفتى بلهجاتِ مجتمعاتِ الخليج العربي. ولَم أتمكن من إتقانِها كما فعلتُ مع إنجليزية ال BBC وعربية فاس المغربية. ولكننى عرفتُها معرفةً لابأس بها. وكثيراً ما أتذكر أن «فلان» وهو حاكمَ دولةٍ خليجية كان يستمتع بتقليدى للهجةِ بلدِه ! وبالذات لصياغتى لجملٍ عامرة بحرفِ الجيم (والذى يصبح ياء) والقاف (التى تتحول ل غين) مع عدة كلمات مؤنثة آخر حروفها هى الكاف، مثل «عيونك» والتى تصبح «عيونچ» !
وأذكرُ أننى منذ سنواتٍ عديدة كنتُ فى محطةِ القطارِ الرئيسة فى چينيڤ (سويسرا) واقتربَ منى شخصٌ وقال : حضرتك بتتكلم عربى ؟ فقلتُ له : نعم... وممكن بلهجة مدينتك ؟ فتساءل : وما هى مدينتى ؟ فقلتُ له : أنت مصريٌ وتحديداً من پورسعيد ! ثم أخبرتُه أَننى بورسعيدى (مثله) وأعرفُ البورسعيدى بمجرد نطقه لبضعِ كلمات !!
وحديث اللغاتِ واللهجاتِ يمكن أن يطول !
وسأعودُ له.

الكتابة والحوارات والأحاديث

منذ صدر اول مؤلفاتى منذ 43 سنة، كتبتُ ونشرتُ وحاضرتُ وتحدثتُ كثيراً. والثمرة كانت 34 كتاباً والافَ المقالات والمحاضرات والحوارات التلڤزيونية والاذاعية والصحفية.
ورغم تعدد اوراق شجرة كتاباتى واحاديثى، فانها كلها تهدف للترويجِ لسلةٍ واحدةٍ من الافكارِ والقيمِ هى : افكار وقيم الحداثة الانسانية.
وهذه الافكار والقيّم ليست غربيةً او شرقيةً، بل وليس لها طبيعة وهوية غير كونها ثمرةَ الانسانية ومنتجاً للحداثةِ والتقدمِ.
فكل ما كتبتُه ولازلت اكتبُه، وما قلتُه ولازلت اقولُه يهدف لترسيخِ قبول واقتناع المتلقى بهذه القيم :
بالتعدديةِ كمعلمٍ من اهم معالمِ الحياة والافكار والنظم. ونقيض التعددية هو ضد الحياة. فالحياة بطيعتها تفرز انماط معيشة وافكاراً ونظماً متعددة ومتنوعة. والتعددية تثرى الحياة.
وبقبول الاخر والذى يسميه البعض بالغيرية. وقبول الاخر ليس فقط من اروع اوجه رقى العقل الانسانى بل انه نتيجة طبيعية وحتمية للايمان بالتعددية. لان عدم قبول الاخر او اللا-غيرية نتيجتها المؤكدة هى نفى التعددية.
ومن القيمّ التى تنتج عن التعددية والغيرية (قبول الاخر) قيمة ثالثة هى «العيش المشترك» و»ثقافة السلام».
وقيم التعددية والغيرية والعيش المشترك هى من ثمار «محبة الحياة» وهى قيمة تفتقدها بعض الثقافات التى تُعلى من قيمة الموت وتقلل من قيمة الحياة.
وواضح ان كل القيّم التى ذكرتها ترتبط ببعضها وتتكامل.
ومن القيم التى كتبت عنها كثيراً «حقوق المرأة كانسانٍ يتساوى مع الرجل فى كافة الحقوق وكل الواجبات». والترويج لحقوق المرأة يستلزم تسليط الضوء على «الذكورية» كواحدة من ابشع وافظع سقطات بل جرايم بعض البشر فى حق بشر اخرين. كما ان الترويج لحقوق المرأة تطلب كشف اللثام عن الدور المشين لموسسات دينية وقفت دايماً مع الافكار والنظم والقيم الذكورية وقدمت ما توهم البعض (جهلاً) انها ادلة على تأييد «السماء» للقيم الذكورية.
كما ان كتاباتى واحاديثى وحواراتى روجت لضرورة تأسيس المنظومات التعليمية على قواعد ومباديء «التفكير العلمي».
ومن اهم قيّم الانسانية الحديثة «مدنية الدولة» وما ينتج عن «مدنية الدولة» من تداعيات بالغة الاهمية. ومعظم قيم الانسانية الحديثة يصعب وجودها فى ايّ مجتمعٍ لا تكون فيه الدولة مدنية بشكل كامل.
ولا يمكن الحديث عن قيم الحداثة دون تسليط الضوء على اليات كفالة وحماية «حقوق الانسان» كما هى مُعرّفة فى القانون الدولي.
والترويج لقيّم الإنسانية الحديثة يقتضى الدعوة للتصدى الفكرى لثقافة الكراهية والتى لا تزال شائعة فى العديدِ من المجتمعات والتى تنطلق أحياناً من منطلقات دينية وأحياناً من نوازع عرقية وفى حالات أخرى من موروثات تاريخية مترعة بالسلبيات.

بورسعيد 1956 

فى خريفِ 1956 كنتُ تلميذاً فى السنةِ الثانيةُ الإبتدائية فى مدرسةٍ فى مدينةٍ مصريةٍ صغيرةٍ ما بين الغردقة والسويس. وكانت شقيقتى التى تكبرنى ب 26 شهراً تعيش على بعد 300 كيلومتر عنا إذ كانت فى مدرسةٍ فرنسيةٍ فى بورسعيد وتقيم مع جدى وجدتى من جهةِ أمي.
خلال الأسبوع الأخير من شهرُ أكتوبر 1956 تيقن والداى أن الحربَ قادمةٌ وأن بورسعيد ستكون فى قلبِ الحربِ. فحربٌ بسببِ قناةِ السويس لا يمكن أن تكون عملياتُها بعيدةً عن بورسعيد.
لذلك قرر أبى أن نسافر (من رأس غارب لبورسعيد) لنكون مع شقيقتي.
وبالفعلِ, سافرنا ووصلنا فى نفسِ الوقت الذى بدأ فيه الهجومُ :
الإسرائيلى من الشرق على شبه جزيرة سيناء.
والبريطاني/الفرنسى على بورسعيد.
وليلةُ وصولنا لبورسعيد, حطم الطيرانُ الفرنسى الجسرَ الذى لابد من المرورِ عليه لمن يصل بورسعيد (مثلنا) من الجنوبِ, فأصبح بقاؤنا فى بورسعيد لنهايةِ الحربِ حتمياً. وهذا هو ما حدث.
بقينا فى بورسعيد لمدةِ شهرين, فقد بدأت الحربُ يوم 31 أكتوبر وانتهت يوم 23 ديسمبر.
وأنا أتذكرُ التجربةَ جيداً.
وغالباً أن سببَ تذكرى لتفاصيلِ هذه التجربة هو بدرجةٍ قليلةٍ لأننى عشتُها, وبدرجةٍ أكبر لأننى سمعتُ قصة هذه التجربةِ عشرات المرات من أبى وأمي.
ولاشك عندى أن شعورى بمصريتى يرجع لهذه الأيامِ ولهذه التجربةِ.
فقد سمعت أذناى أزيزَ الطائراتِ البريطانية والفرنسية وهى تدك بورسعيد, ورأت عيناى الدبابات والمصفحات والجنود البريطانيين والفرنسيين, كما رأيت بنفسى عشراتِ البيوت البورسعيدية المحطمة والمهدمة. ولا تزال صورةُ ميدانِ فريال فى حى الإفرنج ماثلة أمام عينى ومعظم العمارات المطلة عليه مهشمة.
ولازلت أتذكرُ استدعاءَ أبى من قبلِ ضابطٍ بريطانى لسؤالِه عدةَ أسئلةٍ عن الفدائيين المصريين الذين قتلوا مور هاوس وهو ضابط إنجليزى وقريب لملكة بريطانيا.
انتهت الحرب يوم 23 ديسمبر 1956. وهو اليوم الذى أصبح إسمه لعقودٍ : عيد الجلاء.
ورغم أن مِصْرَ قد ضُرِبت عسكرياً : هُدمت لحدٍ بعيدٍ ثالث مدنها وهى بورسعيد, واحتل الجيش الإسرائيلى شبه جزيرة سيناء, فإن مِصْرَ ومعظم دول العالم اعتبروا أن الحرب كانت هزيمة للمعتدين الثلاثة ونصراً لمصرَ.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة