إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

الموتى يتحدثون على «فيس بوك»!

إيهاب الحضري

الخميس، 17 يونيو 2021 - 06:37 م

أصبحت رحلة الصيف إلى جمصة ثابتة لدى «شلّتنا» كلها، لنقف مع صديقنا العاشق الصامت وندعمه. أما رحلة الشتاء فكانت أسبوعية، وغير متاحة إلا لصديق واحد اختاره هو بعناية، لأنه أكثر منه خجلا!

موعد مع لقاح «كورونا»


الثلاثاء:

بعد يوم عمل شاق، انطلقتُ كى أستطيع اللحاق بموعد تلقى لقاح «كورونا». منذ إبلاغى بالموعد، بدأتْ ردود الأفعال تتوالى من المحيطين بي. فى مثل هذه الأحوال يبدأ الجميع فى استحضار ذكريات قريبة، لما حدث بعد تلقّيهم اللقاح. حتى من لم يحصلوا عليه وجدوها فرصة لحكْى تجارب شهدتْها دوائر معارفهم.

كنتُ أقطع الكلام عن الأعراض الجانبية بتغيير الموضوع، فالقلق فيروس أكثر إثارة للفزع، وكثيرون منا لا يعرفون التوقيت المُناسب للفصل بين النصيحة واستعراض فيلم رُعب! بعيدا عن هواة الثرثرة، كانت هناك نصائح مدعومة بقوة القلق عليّ، صاحبها إلحاح متواصل ألا أخوض التجربة، أو على الأقل أتجنّب العقار الإنجليزي، الذى وجد نفسه مُتهما بتوليد جلطات قاتلة. شخصيا كنتُ أكثر ارتياحا له، لا لأننى قمتُ بدراسة الموقف بعناية، فلستُ من هذه النوعية من البشر المُهتمة بالتفاصيل الطبية، حتى أننى لا أتذكر أسماء الأدوية التى أتعاطاها لعلاج «كوكتيل» أمراضي، وإذا سُئلت عنها أرد بأوصاف ساذجة، تعتمد على شكل القُرص ولون العُبوة، وبضعة حروف أجمعها بمشقة! قرارى لم يعتمد على أسس علمية، بل على موقف مُسبق من المنتجات الصينية، التى أثبتت التجربة أنها تفقد صلاحيتها سريعا. ربما يختلف الأمر مع العقاقير، لكن الراحة النفسية تظل معيارا لا يُستهان به فى قراراتي، وعموما القرار النهائى سيكون للطبيب فى موقع تلقى اللقاح. بعد نحو نصف الساعة، عرضتُ عليه «روشتة» علاجى المُتخمة بأدوية الأمراض المُزمنة، وكالعادة لم أعترف بأن عينه وحدها كفيلة بتشخيص الحالة. بدأتُ الثرثرة وركزتُ على مرضيّ الضغط والسكر. من باب الأدب منحنى فرصة الكلام، ثم سألنى بهدوء إذا كنت أتناول أدوية بها كورتيزون أو علاجا كيماويا أو مُثبّطات مناعة، بعد ثوان من نفيى تلقيتُ اللقاح، وقررتُ البقاء بالمنزل فى اليوم التالي، كى أستعد لاستقبال الأعراض بشكل يليق بها، لكن الانتظار طال، وعلى عكس الالتزام الإنجليزى المعروف، أخلفت الأعراض موعدها معي، وقررتْ مقاطعتي!

 أرواح هائمة فى منصات التواصل

السبت:

بدأتُ اليوم باستعراض صفحة وفيات على «فيس بوك». فتحتُ عينيّ واستدعيتُ المحمول كى أطلّع على ما يدور حولي. صادفتُ أربعة منشورات خلال بضع دقائق، لأصدقاء ينْعون أقارب لهم. ينقبض قلبى تماما مثلما كان يحدث فى طفولتي. خلال فترة قضيتها فى قريتنا، لم تكن مُكبرات الصوت قد غزتْ المساجد بعد، ولأن الحاجة أم الاختراع، تطلّب الأمر ابتكار وسيلة لإعلان خبر حدوث وفاة. على طريقة الهنود الحُمر، كان الطبّال يقف فى مكان يتوسط عدة شوارع كبرى، ويبدأ قرع طبلته بصوت عال. تعلمتُ أن هذا الإيقاع الكئيب يتطلّب جرينا كأطفال، وسؤاله عن المتوفى لنعود ونخبر أهالينا. الموت واحد لكن أسلوب نشر أخباره يتطور، وأعتقد أن «فيس بوك» ساهم فى تراجع الإقبال على صفحات الوفيات بالجرائد الورقية، بعد أن تحول إلى سرادق عزاء ضخم ومجاني. ليس هذا بالاكتشاف الجديد، لكن المُختلف أن يُطل علينا الراحلون بمنشورات وكأنهم أحياء يُرزقون!

أعتقد أن حسابات كثيرين منا ستصاب بالسكتة القلبية بعد الوفاة، لأننا نتعامل مع «كلمات المرور» كأسرار حربية، فما يخفيه الموقع الشهير أعظم بكثير غالبا مما يطفو على سطحه! لكن هناك قليلين لم يكن لديهم ما يخشون كشفه، فانتقلت حساباتهم إلى ورثتهم، الذين يلجأون إليها لعلاج الحنين، أو بث منشور على ألسنة الراحلين كحيلة نفسية لمقاومة ألم الفراق. بينما يستخدمها آخرون لإحياء ذكرى من اختطفهم الموت برسائل مُوجّهة إليهم، تُشبه البوْح القديم بمحاورة صورة عزيز فقدناه، أو الوقوف على قبره ومحادثته كما لو كان معنا. لهذا تعاطفتُ بشدة مع رسالة وجهتْها ابنة الروائى الراحل الصديق بهاء عبد المجيد على حسابه الشخصي. كلماتها القليلة خرجت مُحمّلة بطاقة من الحب الممزوج بالشجن، جعلتْنى أدرك أننا نُقصر فى حق بعضنا، وبعد الرحيل نلوم أنفسنا على التقصير، غير أنها «ملامة» مؤقتة، نعود بعدها لممارسة الجفاء.

نساء فى فراش داعش

قبل ثلاثة أعوام كنتُ أؤدى فريضة الحج. خلال استراحة عابرة بدأتُ أتصفح «فيس بوك». كدتُ أغلقه كرد فعل لمحتوى تصادف أنه منزوع الدسم. استوقفنى منشور للصحفى الصديق عبد الرحيم قناوي، يُعلن عن حالة وفاة، قرأتُه كى أدعو للمتوفى فى الأراضى المقدسة، إلى أن أعود للقاهرة وأقدّم العزاء للرجل، الذى تربطنى به صداقة زاد عمرها على العشرين عاما. شعرتُ بالصدمة.. فلم يكن الراحل سوى عبد الرحيم نفسه.

قبل أيام طالعتنى صورته من جديد عبر حسابه. منشور عمره دقائق، مصحوب بغلافى كتابين. الأول أعرفه تماما لأننى كنتُ قد هنأتُ عبد الرحيم على صدوره فى 2015، يحمل عنوان «نساء فى فراش داعش»، بذل فيه الكاتب الراحل جُهدا بحثيا مُتميزا، كى يرصد ظاهرة انضمام النساء لمعسكرات الإرهاب، وتحوّل المرأة من مخلوق رومانسى إلى كائن متوحش نهم للدماء. بينما يحمل الكتاب الثانى عنوان «نساء فى مخْدع داعش»! ومع الغلافين إشارة إلى تشابه العنوانين رغم مرور ست سنوات على صدور الأول. علمتُ بعد ذلك أن كاتب المنشور هو عبد الناصر شقيق عبد الرحيم، استنجد بأصدقاء أخيه من الصحفيين كى يحفظوا حقه. وتساءل: هل هو توارد عناوين؟ من حق أسرة عبد الرحيم قناوى أن تنزعج، لأن اختلاف كلمة واحدة لا ينفى تطابق العنوانين. ربما لم تطّلع مؤلفة الإصدار الحديث على الكتاب الأقدم، لكن ضغطة على محرّك «جوجل» قبل النشر، كانت كافية لاستعراض كل العناوين المتشابهة والمتقاربة، كى لا يتم سلب الحق من كاتب راحل، قد لا يجد من يدافع عنه.

 قصة حب جامعية!

الاثنين:


كثيرا ما كنتُ أتمايل طربا مع أغنية، بينما يبدو المحيطون بى غير متفاعلين معها. هل هى الذائقة التى تتشكل وفق عوامل مُتداخلة؟ أم اللاوعى الذى ارتبط فى ظرف لا أذكره بنمط معين من الموسيقى؟ أنشغل عن أسئلتى بصوتها يتألق فى السيارة، تشدو وردة الجزائرية بـ «لولا الملامة»، إنها أكثر أغنياتها ارتباطا بقلبي. لكى أكون دقيقا، لا تجذبنى الأغنية كلها، بل أنتظر مقطعها الأخير، الذى يُنسينى العالم كلما سمعته. تنطلق ذاكرتى مع صوت وردة إلى الوراء. أكتشف أن أكثر من ثلاثين عاما مضت على تلك الليلة.

كنا مجموعة من طلبة الجامعة، ربطتْهم صداقة خفتتْ مع مرور السنين، ولم يبق على العهد سوى قليلين يتواصلون باستمرار. جمعنا حب الإسكندرية، لكن أحدنا كان من أبنائها الذين يفرون منها كل صيف، بحثا عن تفاصيل تختلف عن الإيقاع المُعتاد. سبقنا إلى جمصة ونجح فى إغوائنا لننسى عروس المتوسط مؤقتا، بعد أن اجتذبتْه فاتنة أخرى، فقد أحبّ عن بُعْد فتاة تقضى مصيفها فى جمصة. كان أكثرنا هدوءا وانطوائية، لكن أحواله انقلبتْ فجأة، وارتدى معطف شرلوك هولمز. بدأ يتحرى عنها منذ رآها ولم يجرؤ أن يتحدث معها. علم أن عائلتها اعتادت المجىء للمكان نفسه سنويا وفى موعد مُحدد. ليس هذا فقط، بل توصّل لعنوان منزلها فى القاهرة، وبمجرد عودتنا أصبح شارع المنيل مزاره المُفضل، منذ أن عرف أنها «تتمشّى» فيه كل أسبوع مع ابنة خالها. وهكذا أصبحت رحلة الصيف إلى جمصة ثابتة لدى «شلّتنا» كلها، لنقف مع صديقنا العاشق الصامت وندعمه. أما رحلة الشتاء فكانت أسبوعية، وغير متاحة إلا لصديق واحد اختاره هو بعناية، لأنه أكثر منه خجلا! كل خميس يتعقب قيسُنا ليلاه، ويفتعل حركات صبيانية كى تلتقى عيونهما لثوان.

فى الليالى الباردة ظل صديقنا يخفى عنا أسراره، رغم أننا نلتقى يوميا فى جامعة القاهرة. حرص على الكتمان ليتفادى «قفشاتنا» التى نحاصره بها طوال المصيف. وفجأة، جمعنا فى مؤتمر صحفى ليخبرنا أنه زار منزلها مع صديقنا الآخر، كى يخطبها من والدها! لكن المفارقة أن تحريّاته الدقيقة كانت صحيحة فى كل شىء إلا اسمها، عموما مرّ الموقف الكوميدى بسرعة، وعندما عرف أبوها أنه لا يزال فى عامه الجامعى الثاني، طلب منه العودة بعد التخرّج! عرفت الفتاة بمشاعره، وبدأت تلاحظ صُدفه الأسبوعية المُفتعلة فى شارع المنيل، ووجودنا السنوى الحاشد فى جمصة. أصبح أكثر خجلا من مواجهتها، وصارت أكثر حذرا، وأمسينا أكثر جرأة، لدرجة أننا حرفنا أغنية شهيرة لمحمد منير، بحيث تتضمن اسمها، وتعلو أصواتنا النشاز بالغناء كلما «فاتت جنبنا» فى ليالى جمصة الصاخبة. بعد التخرّج ظللتُ ألح عليه أن يكون أكثر جرأة، لكن الجرىء الذى دخل البيت من بابه قبل أعوام فقد شجاعته. وبعد ضغْط جماعى ذات ليلة، اتجه إلى زوج قريبتها وفاتحه فى أمر ارتباطه بها، ثم عاد إلينا مصدوما ليخبرنا أن خطبتها بعد أسبوع!

فى تلك الليلة أصابتنا صدمة جماعية. شعرنا أن ما حدث نبوءة بمصير مأساوى لكل علاقاتنا العاطفية، فالظروف سوف تقف فى وجه اكتمالها. وأذكر أيضا صوت وردة الجزائرية وهو يزيد من شجننا، بعد أن قام أحد أصدقائنا بتشغيل أغنيتها والإصرار على تكرارها بإلحاح، وجاءت كلماتها مُعبرة عنا كلنا، فى ذلك المقطع الملىء بالشحن:» يا عيون عطشانة عطشانة سهر.. يا قلوب تعبانة تعبانة سفر.. كتّروا م الحب تلاقوا فى الضلمة ألف قمر». قرّرنا أن نريح قلوبنا من تعب السفر إلى جمصة، وانقطعت علاقتنا بها منذ تلك الليلة، وأعتقد أن أحدا منا لم يُفكّر فى العودة إليها، ولو لاجترار الذكريات. تفرّقت «الشلة»، وتزوّج قيس بليلى أخرى، وضاعت تفاصيل الليالى القديمة، وعلا صوت وردة وسط زحام كوبرى أكتوبر: «بنحب يا ناس.. نكدب لو قلنا ما بنحبش.. ولا حدش فى الدنيا ما حبّش.. والدنيا يا ناس من غير الحب ما تتْحبّش». أفقتُ على صوت اصطدام سيارتين، ولحسن الحظ ابتعدتُ قبل الاستماع لوصلات السباب المعتادة، التى يهرب منها الحب خوفا من حروف تخدش حياءه!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة