هشام مبارك
هشام مبارك


يوميات الأخبار

مانهاتن تودع أشباحها!

هشام مبارك

الإثنين، 21 يونيو 2021 - 08:14 م

يموت الذكر والأنثى بعد أن يسكنا ذريتهما من البويضات تحت الأرض حيث تقبع لمدة سبعة عشر عاما بالتمام والكمال ثم تخرج فى دورة جديدة

شهية أمريكا المفتوحة

لعلها كانت هذه هى أسهل مرة فى الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لا أدرى هل لأنها المرة الأولى التى أسافر فيها من القاهرة إلى واشنطن مباشرة ووصول الطائرة الساعة السادسة صباحا حيث لم يكن هناك تقريبا سوى الطائرة المصرية أم أن هناك أسبابا أخرى. لم يستغرق الأمر أكثر من خمس دقائق منذ هبوط الطائرة على أرض مطار دالاس فى العاصمة واشنطن، منها نصف دقيقة ليس أكثر أمام موظف الجوازات الذى لم يسألنى عن المدة التى سوف أقضيها داخل أمريكا.

فى العادة كنت أسافر من مطار القاهرة إلى من مطار (جيه إف كيه) فى نيويورك وهو أشهر مطارات العالم ويحمل اسما عزيزا على الأمريكيين وهو الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية جون فيتزجيرالد كينيدى الذى تم اغتياله عام ١٩٦٣ بعد أقل من ثلاث سنوات على انتخابه. كنت أستغرق فى مطار كينيدى ثلاث ساعات على الأقل ما بين الطابور الطويل للقادمين حتى الوصول لضابط الجوازات الذى يسأل غالبا عن سبب وصولى لأمريكا وطبيعة المهمة التى جئت من أجلها والمدة التى سوف أقضيها. حتى نتيجة المسحة الخاصة بخلو المسافر من فيروس كورونا لم يهتم الرجل فى واشنطن بها ولم يسألنى عنها، وكذلك تلك هى المرة الأولى التى لا يأخذ الرجل فيها الاستمارات التى ملأتها فى الطائرة خاصة بالجمارك. السؤال الوحيد الذى سألنيه الرجل: هل تحمل فى شنطتك أى نوع من البذور أو الحبوب؟ فقلت لا، فختم الباسبور وتمنى لى إقامة طيبة.

الأصدقاء المصريون فى أمريكا اجتهدوا فى تفسير ذلك، الصريح منهم قال لى بوضوح: ربما يكون السبب أنك كبرت فى السن أو بمعنى أوضح "عجزت" وأنهم فى أمريكا لا يقلقون من كبار السن ولكن من الصغار الحالمين بدخول أمريكا والاستقرار فيها. والبعض الآخر فسر ذلك بأن أمريكا شهيتها مفتوحة لاستقبال الناس بعد حظر السفر أكثر من عام ونصف العام بسبب فيروس كورونا، لدرجة أنه بمجرد فك الحظر شهدت المطارات الأمريكية سفر ووصول أكثر من خمسة ملايين مسافر أغلبهم طبعا من داخل الولايات المتحدة خاصة بعد تطعيم نسبة لا يستهان بها من الشعب الأمريكى باللقاحات التى تم تصنيعها لمواجهة كورونا. فريق ثالث من الأصدقاء قال إن الدخول بسهولة أو بصعوبة لأمريكا لا تحكمه قاعدة وكثير من الحالات تخضع للحالة المزاجية لضابط الجوازات ومدى رضا زوجته عنه، ويبدو أن زوجة الضابط الذى ختم لى بالدخول كانت راضية عنه تماما فقد كان فى حالة مزاجية عالية فى ذلك الصباح الرائق.

صوت الرعب

منذ أن وصلت العاصمة الأمريكية واشنطن لفت نظرى صوت منتشر هنا بشدة هذه الأيام، كنت فى البداية أظنه صوت زقزقة العصافير نهارا، لكنى استبعدت ذلك الاحتمال عندما سمعت هذا الصوت المزعج يتحول ليلا إلى ما يشبه صوت صرصور الحقل. لم تطل حيرتى كثيرا وعرفت أنه لا صوت يعلو فى هذه الأيام على صوت (السيكيدا) وهى حشرة تسكن فى باطن الأرض لمدة سبعة عشر عاما، ثم تخرج بعد كل هذا العمر الطويل من تحت الأرض إلى سطحها حيث تستمر فوق الأرض لمدة شهر تقريبا، وهو شهر التزاوج والأفراح والليالى الملاح، قلت لنفسى ساخرا: الخير على قدوم الواردين. عرفت أن هذا الصوت المزعج جدا الذى يصم الآذان ليل نهار هو صوت دلع إناث السيكيدا وهى تنادى على ذكورها لتمضية شهر العسل، حيث فى نهايته يموت الذكر والأنثى بعد أن يسكنا ذريتهما من البويضات تحت الأرض حيث تقبع لمدة سبعة عشر عاما بالتمام والكمال ثم تخرج فى دورة جديدة.

"يادى الحظ، يعنى نشنت يا فالح؟" هكذا كنت أقول لنفسى عندما عرفت أننى وصلت واشنطن فى بدايات شهر تزاوج السيكيدا الذى لا يحدث إلا كل سبعة عشر عاما. حشرة السيكيدا لا تستوطن جميع أراضى الولايات المتحدة وتكتفى بالعاصمة واشنطن وبعض مناطق فى الولايات المتاخمة لها مثل فيرجينيا وميريلاند، السيكيدا تشبه كثيرا الجراد ولها خمسة عيون وإن كانت لا تبصر بها، لذا تهاجم الناس وهى لا تراهم وتلتصق بأى جزء فى الجسد، وهى وإن كانت غير ضارة لكنها طبعا مزعجة جدا كما أن جثثها تفترش الطرقات والأرصفة بعد انتهاء عملية التزاوج.

الطريف أن فى جثث السيكيدا عدة فوائد فهى سماد خصب للأرض وطعام شهى للحيوانات، كما عرفت أن بعض الناس هنا بدأت تستطعم السيكيدا ويقيمون عليها حفلات شواء ويقولون إن طعمها يشبه الجمبرى المشوى وهى تشبه أيضا الجمبرى حيث يغلف جيدها مادة قشرية صلبة كما فى الجمبرى! لدرجة أن مطاعم شهيرة فى واشنطن بدأت تقدمها ضمن "المنيو" الخاص بها ولا أظن أنها أرخص من الجمبرى باعتبارها ملقاة على قارعة الطريق، فلا تنسى أنها بضاعة عزيزة لن تجدها إلا كل سبعة عشر عاما، ولعلى أتذكر لو عشت سبعة عشر عاما أخرى وعدت لزيارة أمريكا أن أتجنب زيارتها فى شهر تزاوج السيكيدا، وعلى رأى المثل يا سيكيدا لا تلزقى فيا ولا عايز جمبرى منك!.

بائع الهوت دوج

عبارة واحدة سمعتها من كل الأصدقاء الذين التقيتهم فى نيويورك، هل تتخيل أن نيويورك وبالذات منطقة مانهاتن تحولت إلى مدينة أشباح لشهور طويلة؟ السبب طبعا هو فيروس كورونا الذى راح ضحيته الملايين حتى الآن وكان لأمريكا نصيب كبير منها. عندما وصلت مانهاتن أسرعت إلى مكانى المفضل وهو التايم سكوير أشهر ميادين مانهاتن وأمريكا وربما العالم كله والذى يجتمع فيه ملايين البشر خاصة ليلة رأس السنة الميلادية ليتابعوا لحظة وداع سنة واستقبال أخرى. قال لى الأصدقاء هنا إن هذا الميدان الذى كان يعج بالسائحين طوال العام ظل شهورا طويلة عبارة عن أطلال تنعى حالها. لا أتخيل أبداً هذا المكان بدون هذه الأضواء التى تزين جدران كل بناياته بطريقة تخلب الألباب. لفت نظرى عربة تبيع ساندوتشات "الهوت دوج" الشهيرة، سمعت صوت موسيقى وأغانى عربية ينبعث منها، اقتربت من البائع الذى اتضح أنه مصرى احترف بيع الساندويتشات فى نيويورك منذ سنوات طويلة.

قال لى وهو يضحك: حظك حلو أنت جاى أمريكا وهى بدأت تفتح، لو جيت أيام الكورونا كانت صعبة عليك أحوال الناس، الحياة توقفت تماما بالذات للى بيعتمد على شغل حر زيى وبصراحة لولا بعض القرارات الحكومية اللى ساندت الناس كلها ماديا كنا اتفضحنا، ثم قال بالإنجليزية عبارة مشهورة: "جاد بلس أمريكا" أى ربنا يحفظ أمريكا.

وقفت بجوار الشاب على عربة الهوت دوج ندردش سويا، وعرفت منه أن هناك عددا كبيرا من المصريين ينتشرون بعربات الهوت دوج فى شوارع مانهاتن. منهم من بلغت شهرته الآفاق ومنهم من أدخل بعض الأطباق المصرية المتميزة التى عشقها الأمريكيون على يديه ويقفون طوابير للحصول عليها مثل الكشرى.

أغلب هؤلاء الشباب حاصل على شهادات جامعية من مصر ولم يجدوا غضاضة فى العمل كبائعى هوت دوج وكشرى فى أمريكا، الشغل ليس عيبا طالما كان شريفا وإذا لم تعمل ما تحب فعليك أن تحب ما تعمل. المهم ألا تستسلم لظروفك. هذه ليست دعوة للسفر أو الهجرة (والكلام على لسان صديقى بائع الهوت دوج) ولكن أردت من خلال هذه الأمثلة التدليل على ضرورة عدم الاستسلام لليأس والإحباط، فإذا كنت مثلا تحب الصحافة ولكن لم تسمح الظروف بالعمل فيها فهذه ليست نهاية الدنيا وممكن أن تعمل فى أى عمل آخر، وتنجح فيه، فى أمريكا لا يعمل كل خريج بالضرورة فى مجال تخصصه، فلو كانت فرص العمل فيه نادرة لجأ لعمل آخر بشرط أن يحصل على دورات تدريبية مكثفة فى مجاله الجديد، فقد تجد خريج إعلام مثلا تحول للعمل فى مجال الضرائب وغيرها من المجالات التى تبعد عن تخصصه الأصلى، بالمناسبة العمل فى الصحافة والإعلام لم يعد على قائمة الاهتمام بين الشباب الأمريكى الذى يفضل قطاع كبير منه دراسة التجارة وإدارة الأعمال لضمان فرص عمل أسرع. أما الطب والصيدلة فهى على قائمة الوظائف الأكثر طلبا فى الولايات المتحدة، لكن العرض لا يوافى هذا الطلب، لذا تجد الأطباء والصيادلة من أصحاب الفرص الأكبر فى الهجرة والعمل داخل أمريكا، خاصة بعد أزمة فيروس كورونا الذى غير شكل الحياة على كوكب الأرض.

كان هذا هو تقريبا ملخص دردشتى مع الشاب المصرى الرائع بائع الهوت دوج فى قلب مانهاتن حيث التايم سكوير والذى أصر على عدم سدادى لثمن الساندويتشات التى طلبتها قائلا: لا يمكن أبداً، انا بس عايز منك خدمة واحدة فقلت له: تحت أمرك فقال وهو يجتهد ليخفى دمعة حاولت الفرار من عينيه: أمانة عليك لما ترجع مصر سلملى عليها.

وادى السيلكون

رغم أن إدارة بايدن تختلف كلية عن إدارة غير المأسوف على شبابه ترامب بالذات فيما يخص قضايا الهجرة والمهاجرين إلا أنه البدايات غير مبشرة، حيث لاتزال قضايا المهاجرين معلقة، فعلى الرغم من إيقاف العمل بكل القرارات التعسفية التى أقرها أبو ايفانكا ضد المهاجرين إلا أن بايدن لم يعد العمل بالقوانين القديمة التى كانت تنصف هؤلاء المهاجرين خاصة العرب منهم. أما ما يعكس النفعية الأمريكية فهو قرار بايدن بمنح أولوية لتسوية إقامة عشرين ألف حالة هجرة معلقة من العاملين فى منطقة وادى السيلكون وما أدراك ما وادى السيلكون الذى يمثل ذروة التقدم الأمريكى الذى يتحكمون فى العالم من خلاله، ويكفى أن تعرف أن وادى السيلكون الذى يقع فى الجزء الجنوبى من خليج "سان فرانسيسكو" شمال ولاية كاليفورنيا، توجد به مجموعة من أبرز شركات التكنولوجيا العالمية مثل "آبل" و"سيسكو" و"مايكروسوفت" و"جوجل" و"أوراكل" وغيرها. أما الأولوية الثانية فى تسوية الأوضاع فقد منحها بايدن للعالقين على الحدود مع المكسيك، أما قضايا العالقين العرب على كثرتهم داخل المجتمع الأمريكى فهى أولوية مؤجلة لإشعار آخر، لذا يعيش كثير من العرب هنا فى حالة قلق وصدمة، قلق من أن موجة العنصرية فى عهد ترامب ضد المهاجرين لاتزال تؤثر فى المجتمع، وصدمة من تباطؤ إدارة بايدن تجاه قضاياهم وكأنها تبعث لنا نحن العرب فى كل زمان ومكان بأننا لن نكون يوما أولوية لأى إدارة أمريكية، ولعلنا نفهم أن الثقة فى أمريكا لا تصنع غير الوهم!

نهاية الرحلة

القوانين تشبه نسيج العنكبوت، تقع فيه الطيور الصغيرة، وتعصف به الطيور الكبيرة (مثل أمريكى).

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة