سلامة موسى
سلامة موسى


نابليون فى مصر للاستيلاء على البحرالمتوسط

الأخبار

الأربعاء، 23 يونيو 2021 - 05:24 م

جاء نابليون لمصر ليستولى على البحر المتوسط ويقطع الطريق على الإنكليز فى استعمارهم للهند، فوجد الفوضى والأخلاق المنهارة والفقر والمرض، ولاحظ أنه لم يكن بين المماليك إحساس جماعى أو اتحاد للقتال، كان كل جندى يقاتل عن نفسه، ولا يقاتل عن مصر، كان شعار المماليك «أنا وحدي»، وكان الوجدان الغالب فى مصر هو الوجدان الدينى، وأرجو ألا يؤخذ كلامى على إطلاقه، فإن حركة عمر مكرم، قبل دخول نابليون مصر، ضد الوالى التركى، تحتوى شيئًا من الإحساس الوطنى فوق الإحساس الدينى، وحركة هذا العظيم نفسه ضد نابليون وتزعمه للمقاومة، واختياره لمحمد على مع سائر العلماء الأزهريين، ثم ثورته عليه، كل هذا كان يدل على بزوغ الإحساس الوطنى فوق الإحساس الدينى، ولما دخل نابليون مصر وجد عنصرين مختلفين، عنصرًا سائدًا من الشركس البيض يحكم ويتحكم ويملك، وعنصرًا مسودًا من المصريين السمر يخدمون ويذلون.
تقرب نابليون إلى المصريين وحاول استمالتهم ووعدهم بأن يكونوا سادة وطنهم دون الشركس والترك، لكن الإذلال الذى مارسه الشركس والترك كان قد أحدث ذلًّا بين الشعب المصرى، فشتت نابليون المماليك وبعثرهم فى الصعيد وسوريا، وألَّف مجلسًا نيابيًّا من المصريين فى القاهرة كان بالطبع يريد أن يعتمد عليه للاستشارة فقط، لكن الشعب كان قد تخبط فى فوضى نحو ثلاث مئة سنة، وكان قد هوى إلى حضيض من الذل والفقر والجهل بحيث لم يتفهم العبرة فى هذا الإنسان الجديد، نابليون الذى كان ينظر إلى الدنيا بعينين قد رأتا الثورة، كما كان يحس بقلب قد عرف أن باريس قد قتلت ملكين لاستبدادهما، والحق أن نابليون لم يكن جنديًّا عظيمًا فقط، بل كان إنسانًا جديدًا. كما نرى مثلًا من جلبه للمعلمين إلى مصر، ومن تأليفه لجنة لسن القانون الذى يعزى إليه، وهذا القانون الذى أخذنا نحن به أيام إسماعيل، كان يعزى إليه فى أكثر من معنى، فإنه كان يتدخل فى أعمال اللجنة التى كانت تسنه، وكان يشير عليها بما يجب من حذف أو إثبات أو تنقيح، وقد روى الجبرتى أشياء كثيرة عنه، فقال انه أنشأ المطاعم التى كان الجبرتى يتعجب من نظافتها وسرعة الخدمة فيها، وأنشأ «مؤسسة مصر» التى لا تزال حية إلى الآن، وقد رأى الجبرتى فيها عجائب من الكيمياء، مواد تمتزج بمواد فتخرج منها مواد أخرى تختلف لونًا وقوامًا عما كانت عليه، وقد كان هذا بعض «العلم» الجديد الذى كانت أوروبا تدرسه بعد أن تفشت فيها الصناعات وتطلبت البحث والاستقراء للوقوف على الحقائق التى تزيد الإنتاج.
وللأسف لم يفهم الجبرتى ولا المصريين شيئًا من هذا النور الجديد الذى تهيأت به أوروبا بعد ذلك لاقتحام المستقبل والاستيلاء على العالم، فهموا وعرفوا أن هناك آفاقًا رحبة من الأمم والأقطار التى لم يسبق لهم أن سمعوا عنها، وعرفوا أن المماليك ليسوا من القوة والعظمة بحيث لا يمكن الانتصار عليهم، وعرفوا أن الأتراك ليسوا هذه «الدولة العلية» التى لا يمكن التمرد على سلطانها، وكان محمد على من نتائج حملة نابليون، فإنه جاء لاسترداد سلطة الباب العالى، واختاره العلماء والأعيان بقيادة العظيم عمر مكرم، وكان محمد على يتظاهر أمامهم بالأمانة والخضوع لهؤلاء الذين اختاروه ولكنه صار ينظر إليهم ويعاملهم معاملة الأسياد للعبيد، معاملة المماليك للمصريين، مما أسخط عليه عمر مكرم وجعله يندم، ولما استقر الحكم لمحمد على أخذ يستعين برجال الحملة الفرنسية أنفسهم ويستخدمهم فى تقوية الجيش المصرى وتزويده بالذخائر والأسلحة، بل صار يستجلب المعلمين للتدريس فى المدارس لخدمة الجيش، والجيش وحده، دون الشعب المصرى، ومع ذلك تجاوزت نهضة محمد على الحربية إلى الشعب كما هو الشأن فى مثل هذه النهضات، فبقيت بعض المدارس بعد وفاته، وتعلم فيها المصريون، كما أن شامبليون استطاع أن يهتدى إلى حجر رشيد ويكتشف اللغة والخط الهيروغليفي، وانفتح للعالم بذلك أوسع الأبواب للوقوف على أسرار مصر القديمة، وإذا كانت «نهضة» محمد على هى صميمها نهضة فرنسية تغذوها الثقافة الفرنسية ويحمل أعباءها فرنسيون، فإن الفضل فى ذلك يرجع إلى حملة نابليون الذى عقد الصلة بين فرنسا ومصر، صلة العداوات فى الأصل ثم صلة الصداقة مع محمد على بعد ذلك.
من كتاب " مقالات ممنوعة " 1959
 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة