جمال حسين
جمال حسين


من الأعماق

ليس كل ما يلمع

جمال حسين

السبت، 26 يونيو 2021 - 08:53 م

‭"‬ليس‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يلمع‭ ‬ذهبًا،‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبرق‭ ‬فضَّة‭".. ‬مثلٌ‭ ‬إنجليزىٌّ‭ ‬استخدمه‭ ‬الكاتب‭ ‬الشهير‭ ‬ويليام‭ ‬شكسبير،‭ ‬فى‭ ‬مسرحيته‭ ‬الشهيرة‭ "‬تاجر‭ ‬البندقيَّة‭"‬؛‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المظاهر‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬خادعةً،‭ ‬ولا‭ ‬تُعبِّر‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ !‬

ويرجع‭ ‬أصل‭ ‬المثل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نجل‭ ‬أحد‭ ‬الملوك‭ ‬تقدَّم‭ ‬لخِطبة‭ ‬فتاةٍ،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تقدَّم‭ ‬لخِطبتها‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬عِلْية‭ ‬القومِ‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقتِ؛‭ ‬ممَّا‭ ‬أثار‭ ‬حيرة‭ ‬والدها‭ ‬فى‭ ‬الاختيار‭ ‬فابتكر‭ ‬حِيلةً؛‭ ‬لاختيار‭ ‬عريس‭ ‬من‭ ‬الثلاثة،‭.. ‬قدَّم‭ ‬الأبُ‭ ‬للخُطَّاب‭ ‬ثلاثةَ‭ ‬صناديقٍ؛‭ ‬الأول‭ ‬مصنوعٌ‭ ‬من‭ ‬الذهبِ،‭ ‬والثانى‭ ‬من‭ ‬الفضَّة،‭ ‬والثالث‭ ‬من‭ ‬الرصاصِ،‭ ‬وأبلغهم‭ ‬بأنه‭ ‬وضع‭ ‬صورةً‭ ‬للعروس‭ ‬داخل‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬الصناديق‭ ‬الثلاثة،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬صندوقًا،‭ ‬ومَنْ‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬العروسِ‭ ‬فى‭ ‬صندوقه،‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬العريس‭ ‬المرتقب‭.. ‬بدأ‭ ‬نجلُ‭ ‬الملك‭ ‬باختيار‭ ‬الصندوق‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الذهب،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬بداخله‭ ‬شيئًا،‭ ‬وكذلك‭ ‬مَنْ‭ ‬اختار‭ ‬الصندوق‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الفضَّة،‭ ‬بينما‭ ‬فاز‭ ‬بالعروس‭ ‬مَنْ‭ ‬اختار‭ ‬الصندوق‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬الرصاص،‭ ‬وهنا‭ ‬قال‭ ‬الملك‭ ‬لابنه‭ ‬قولته‭ ‬المُتداولة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭: "‬ليس‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يلمع‭ ‬ذهبًا‭"!!.‬

تذكَّرتُ‭ ‬هذه‭ ‬المقولة،‭ ‬وأنا‭ ‬أُتابع‭ ‬طرائف‭ ‬وعجائب‭ ‬نتائج‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬الإعداديَّة‭ ‬بالمحافظات،‭ ‬بعد‭ ‬عامٍ‭ ‬دراسىٍّ‭ ‬مُرتبكٍ‭ ‬وغير‭ ‬مُنتظمٍ؛‭ ‬بسبب‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬التى‭ ‬أثَّرت‭ ‬بالسَّلبِ‭ ‬على‭ ‬العملية‭ ‬التعليميَّة،‭ ‬وعلى‭ ‬حضور‭ ‬الطلابِ‭ ‬والمدرسين‭.. ‬اندهشتُ‭ ‬واندهش‭ ‬الكثيرون‭ ‬مثلى‭ ‬من‭ ‬حصول‭ ‬أعدادٍ‭ ‬غير‭ ‬مسبوقةٍ‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬٢٨٠‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬٢٨٠‭ !!.. ‬والطبيعى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬مصدر‭ ‬سعادتنا؛‭ ‬لتفوُّق‭ ‬أبنائنا‭ ‬وحصولهم‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة،‭ ‬إلَّا‭ ‬أن‭ ‬مُعظم‭ ‬مَنْ‭ ‬تحدَّثت‭ ‬إليهم،‭ ‬وكل‭ ‬ردود‭ ‬الفعلِ‭ ‬تُؤكِّد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النتائج‭ ‬خادعةٌ،‭ ‬ولا‭ ‬تُعبِّر‭ ‬بحالٍ‭ ‬من‭ ‬الأحوالِ‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬الطلاب‭ ‬الحقيقى،‭ ‬خاصةً‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬عدم‭ ‬انتظام‭ ‬الدراسة‭ ‬بسبب‭ ‬كورونا‭.‬

وحتى‭ ‬نضع‭ ‬الأمورَ‭ ‬فى‭ ‬نصابها،‭ ‬أدعو‭ ‬حضراتكم‭ ‬إلى‭ ‬تأمُّل‭ ‬وتحليل‭ ‬النتائج،‭ ‬التى‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬المزادات،‭ ‬رافعةً‭ ‬شعار‭ "‬مين‭ ‬يزوِّد‭" ‬فى‭ ‬أعداد‭ ‬الحاصلين‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ !!.‬

فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬حصل‭ ‬٢٩٢‭ ‬طالبًا‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬١٦٢‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬وفى‭ ‬الجيزة‭ ‬حصد‭ ‬٢٦٦‭ ‬طالبًا‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬١٦٣‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬وفى‭ ‬المنوفية‭ ‬نال‭ ‬٣٤٠‭ ‬طالبًا‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬٧١‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬لكن‭ ‬الطفرة‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬الصعيد؛‭ ‬حيث‭ ‬ضربت‭ ‬محافظة‭ ‬سوهاج‭ ‬الأرقام‭ ‬القياسية؛‭ ‬بحصول‭ ‬١١٧٥‭ ‬طالبًا‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬٧٨‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬تلتها‭ ‬محافظة‭ ‬أسوان‭ ‬بـ‭ ‬٧٥٠‭ ‬طالبًا،‭ ‬ثم‭ ‬قنا‭ ‬بـ‭ ‬٤٩٨‭ ‬طالبًا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬٥١‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬فأسيوط‭ ‬٤٠٠‭ ‬طالب‭ ‬اجتازوا‭ ‬العلامة‭ ‬الكاملة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬٦٦‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ‭ !.‬

حِزمةٌ‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التى‭ ‬أرَّقتنى،‭ ‬وأرَّقت‭ ‬مَنْ‭ ‬يُريد‭ ‬إجابةً‭ ‬شافيةً‭ ‬عنها،‭ ‬أتوجَّه‭ ‬بها‭ ‬للمسئولين‭ ‬فى‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬وللخبراء‭ ‬التربويين‭ ‬أيضًا‭: ‬هل‭ ‬زيادة‭ ‬أعداد‭ ‬الحاصلين‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬طبيعيةٌ‭ ‬؟،‭ ‬أليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬1100‭ ‬طالبٍ‭ ‬فى‭ ‬سوهاج‭ ‬وحدها‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائيَّة‭ ‬من‭ ‬٧٨‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬بينما‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬٢٩٢‭ ‬طالبًا‭ ‬بالقاهرة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬١٦٣‭ ‬ألف‭ ‬طالبٍ،‭ ‬خاصةً‭ ‬إذا‭ ‬وضعنا‭ ‬فى‭ ‬الحُسبان‭ ‬الفارقَ‭ ‬الكبيرَ‭ ‬فى‭ ‬أعدادِ‭ ‬مَنْ‭ ‬خاضوا‭ ‬الامتحانات‭ ‬فى‭ ‬المحافظتين‭ ‬وفارق‭ ‬إمكانيات‭ ‬المدارس‭ ‬بين‭ ‬المحافظتين‭ ‬؟‭!!‬،‭ ‬هل‭ ‬صحيحٌ‭ ‬ما‭ ‬يتردَّد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النتائج‭ ‬الخادعة‭ ‬بسبب‭ ‬الغش‭ ‬؟،‭ ‬أليس‭ ‬عجيبًا‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬١٩٢‭ ‬طالبًا‭ ‬من‭ ‬مركزٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬بأسيوط‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائيَّة؛‭ ‬بما‭ ‬يُعادل‭ ‬عدد‭ ‬الأوائل‭ ‬فى‭ ‬باقى‭ ‬مراكز‭ ‬المحافظة؟‭!!‬،‭ ‬وهل‭ ‬كل‭ ‬الحاصلين‭ ‬على‭ ‬٢٨٠‭ ‬درجةً‭ ‬من‭ ‬٢٨٠‭ ‬نوابغ‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬المواد،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يفقدوا‭ ‬نصف‭ ‬درجةٍ‭ ‬فى‭ ‬اللغات‭ ‬الإنجليزيَّة‭ ‬والفرنسيَّة،‭ ‬بل‭ ‬وموادٍ‭ ‬كالرياضيات‭ ‬والعلوم‭ ‬وغيرها؟‭!‬،‭ ‬وهل‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬جهابذة‭ ‬فى‭ ‬اللغة‭ ‬العربيَّة‭ ‬ليتمكَّنوا‭ ‬من‭ ‬العلامة‭ ‬الكاملة‭ ‬فى‭ ‬موضوع‭ ‬التعبير‭ ‬الذى‭ ‬يصعب‭ ‬فيه‭ ‬جدًا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائيَّة؟‭!..‬

هل‭ ‬وضع‭ ‬المسئولون‭ ‬امتحانات‭ ‬سهلةً‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحدِّ؛‭ ‬مراعاةً‭ ‬لظروف‭ ‬كورونا؟‭!.‬.. بالتأكيد‭ ‬هناك‭ ‬متفوِّقون‭ ‬ونوابغ،‭ ‬يستحقُّون‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة‭ ‬عن‭ ‬جدارةٍ‭ ‬واستحقاقٍ،‭ ‬لكنى‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬فرحتهم‭ ‬انطفأت؛‭ ‬وهم‭ ‬يرون‭ ‬مَنْ‭ ‬كانوا‭ ‬دون‭ ‬المستوى،‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬الدرجات‭ ‬النهائيَّة،‭ ‬ويتساوون‭ ‬معهم‭ ‬فى‭ ‬المجاميع‭.‬

لدينا‭ ‬سوابق‭ ‬فى‭ ‬الغشِ‭ ‬الجماعىِّ‭ ‬لذلك‭ ‬أحذر‭ ‬الجميع ‭أ‬ن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬النتائج‭ ‬خادعة‭ ،‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬نصب‭ ‬أعيننا‭ ‬أن‭ ‬بلادنا‭ ‬مستهدفة‭ ‬والحروب‭ ‬الآن‭ ‬مختلفة،‭ ‬فعندما‭ ‬يريد‭ ‬الأعداء‭ ‬تدمير‭ ‬أمة‭ ‬لا‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬قنابل‭ ‬نووية‭ ‬أو‭ ‬صواريخ‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى؛‭ ‬لكن‭ ‬يحتاجون‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬التعليم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬نشر‭ ‬ثقافة‭ ‬الغش‭ ؛‬لتخريج‭ ‬أجيال‭ ‬ضعيفة‭ ،‬فالمريض‭ ‬يموت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬طبيبٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغش،‭ ‬والعمارات‭ ‬تنهار‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مهندسٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغش،‭ ‬ويضيع‭ ‬العدل‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬قاضٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغش،‭ ‬ويتفشَّى‭ ‬الجهل‭ ‬فى‭ ‬عقول‭ ‬الأبناء‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مُعلِّمٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغش،‭ ‬وتضيع‭ ‬الأموال‭ ‬بسبب‭ ‬مُحاسبٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغش،‭ ‬ويضيع‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬شيخٍ‭ ‬نجح‭ ‬بالغشة.. فانتبهوا‭ ‬يا‭ ‬أولى‭ ‬الألباب‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة