شرق وغرب
شرق وغرب


شرق وغرب

الرواية الروسية الآن.. ما وراء الكسوف

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 28 يونيو 2021 - 03:22 م

د. دينا محمد عبده
بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق فى أواخر القرن العشرين وإنهاء سلطة الرقابة الصارمة على الأعمال الأدبية ظهر العديد والعديد من الأدباء والتيارات والاتجاهات ولكن لم تتحدد هوية الأدب الروسى المعاصر مع مطلع القرن الجديد إلا بعد انقضاء العقد الأول منه، حيث جرت سلسلة ضخمة من المناقشات فى الأوساط الأدبية والنقدية أفرزت عدة نتائج كان من أبرزها أن الأدب الروسى المعاصر ينقسم من حيث شكله ومضمونه إلى نوعين رئيسيين وهما أدب النخبة وأدب الجمهور أو الأدب الجماهيري، كما ينقسم إلى أدب المجلات الورقية السميكة وأدب الإنترنت. وتحولت الأنواع الأدبية من شكلها الصارم المحدد المتعارف عليه إلى أشكال أخرى متداخلة حيث أصبح الآن من الصعب إيجاد الشكل الفنى الخالص للرواية أو النوفيلا أو القصة القصيرة فى أعمال أدباء القرن الحادى والعشرين. لم تعد الأنواع الأدبية الآن ترتبط بعوامل الواقع الأدبى مثل تطور النوع الأدبى وشكله ومكوناته والقوانين الأساسية التى تحكم تطور العملية الأدبية بقدر ما ترتبط بما هو خارج النطاق الأدبى مثل الوضع الاجتماعى والثقافى ومتطلبات الجمهور وسعى المؤلف إلى الأصالة وكذلك التجديد، فأصبح من الملاحظ الآن خروج تلك الأنواع الأدبية خارج الشكل التقليدى وتداخلها مع أنواع أخرى فنية ذات صلة أو حتى أنواع فنية أخرى مختلفة تماما. فقد ظهرت مثلا رواية الكمبيوتر التى تعتمد على الواقع الافتراضى وسلوك الإنسان وفقا لقوانين ألعاب الكمبيوتر ونذكر أمثلة لذلك رواية «حلم الرعب» للكاتب فيكتوربيليفين، ورواية «الأعصاب الماسية» لـ فيكتور بورتسيف و»متاهة التأملات» و«المرايا المزيفة» لـ سيرجى لوكاينكا و»الشبكة» لـألكسندر تيورين وألكسندر شيجوليف. كما ظهرت رواية السينما التى تعتمد على نقل الواقع السينمائى والبرامج التليفزيونية إلى لغة النثر الأدبى مثل رواية ألكسى سلابوفسكى «قطعة أرض» ورواية أرتور بيلوف «اللواء». وكذلك الرواية الأصيلة التى تعتمد على إعادة الأشكال الأصلية الخالصة للرواية الأدبية التى اكتسبت شهرة معينة فى وقت معين ويظهر ذلك فى محاولات الكاتب باريس  أكونين فى استعادة رواية المغامرة التى ارتبطت بالظروف الاجتماعية الحالية واعتمدت على تصوير التحايل والغش وانهيار المعايير الأخلاقية وأصبحت مطلوبة لتحقيق النجاح لإنسان هذا الزمان، ونذكر من ذلك سلسلة الروايات الشهيرة التى أصدرتها دار النشر أست، ومنها «رواية الغش الروسية» لـ ايفانوف تفيورسكى و»جرح النار» لـ لارتشينكوف، وتعتمد تلك الروايات على مجموعة من الأحداث فى حياة البطل أو البطلة ويكون أحد النصابين أو المحتالين الذى يسعى لتحقيق أهدافه وأحلامه بطرق غير مشروعة وغالبا ما تكون النهايات مفتوحة وتبوء محاولات البطل بالفشل. وكذلك رواية الجاسوسية والرواية الخيالية ورواية الطفل والكاريكاتير والرواية المقالية. وتتبلور كل هذه الأنواع والأشكال لتلبى احتياجات الجماهير وتندرج تحت ما يسمى أدب الجمهور. 


أما أدب النخبة فهو ذلك الأدب الذى يسعى الأديب من خلاله إلى التفرد والتميز الفنى ويعتمد فيه على تجربته الشخصية وكذلك استيعاب العالم من حوله من منظور فلسفى وكذلك البحث عن بطل جديد ورؤى جديدة فى أعماله. ويحاول الأدباء من خلال هذا الأدب خلق نماذج جديدة من الأنواع الأدبية وكذلك تعديل وتجديد الأنواع التقليدية من الرواية والنوفيلا. ونتيجة لذلك ظهرت عدة أنواع أدبية جديدة مختلقة يحاول الأدباء وصفها وتحديد خصائصها ومواصفاتها من خلال عنوان فرعى فى مؤلفاتهم الأدبية، ومن أمثلة ذلك «بيت النماذج» رواية الزمن الملل القصيرة لـ ألكسندر كاباكوف، و»بشر من أعلى وبشر من أسفل» نص منقسم إلى ألغاز» لـ نيقالاى روبانف و»فلتكن بوسخ» رواية سيرة ذاتية لـ أناتولى كاراليوف و»التفاخر» مونورواية لـ إينا ليسيانسكايا و»الخطاف» رواية أدبية غير مكتوبة للكاتب سيرجى بارافيكوف، وغيرهم. وتحوى تلك الروايات عناصر من الأنواع الأدبية المختلفة بل عناصر من أشكال الفنون المختلفة. أما بالنسبة لسمات الأشكال الموسيقية فيمكن رؤيتها فى رواية الأوبرا «حلقة شوبرت الموسيقية فى كلمات جوجال» لـ ليانيد جيرشوفيتش وكونشيرتو لأجل المراجعة» لـ يفجينى شفارتس.  
لابد من الإشارة إلى أن الفروق بين أدب النخبة وأدب الجمهور أصبحت فى طريقها إلى التلاشى تماماً ويعتبر الاندماج بين عناصر الواقعية وتيارات ما بعد الحداثة وكذلك اختلاط الحقائق بالخيال والغموض أهم ما يميز الأدب الروسى المعاصر، كما أصبح الآن يمكن التعرف على التاريخ من خلال الروايات البوليسية والتعرف على قضايا الوجود الفلسفية من خلال الصراعات الميلودرامية.     
 يعتبر تيار ما بعد الحداثة أهم ما يميز الأدب الروسى المعاصر والرواية الحديثة، فمع انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 وإطلاق الحريات ورفع الرقابة وانتشار حرية الفكر والكتابة والإبداع ظهرت تحولات عميقة فى الحياة الأدبية أدت إلى ظهور ذلك التيار حيث بدأ فى الظهور لأول مرة فى الأدب الفرنسى فى ستينيات القرن العشرين وانتقل إلى الأدب الروسى فى تسعينيات القرن وذهب البعض إلى أن بدايات ظهوره فى روسيا تعود إلى السبعينيات أو الثمانينات. تميز أدب ما بعد الحداثة بالسخرية والفكاهة السوداء كرد فعل لما جاء به أدب الحداثة. ووضع أدباء ما بعد الحداثة المصادفة فوق الموهبة وعن طريق المحاكاة الساخرة للذات دائما ما جعلوا قدرات الكاتب رهن الشك وسعوا إلى محو الحدود الفاصلة بين أدب الصفوة وأدب الجمهور ودعوا إلى التداخل بين الأجناس الأدبية المختلفة. يتميز تيار ما بعد الحداثة عن سابقيه من التيارات بالتحرر فى كل شيء سواء على مستوى الكلمة أو الفكرة أو الموضوع وقد يصل هذا التحرر إلى درجة مبالغ فيها ليخرج عن الأطر الأخلاقية العامة والتى لم يتجاوزها الأدب الروسى فى السابق.  
     كانت المهمة الرئيسية للأدب وفقا للتيارات والمدارس التقليدية المعروفة الكلاسيكية أو الواقعية أو حتى الرومانسية هى التعبير عن قضايا الواقع ومشكلاته وتناقضاته من خلال منظور سياسى أو اجتماعى أو تاريخى أو فلسفى وكذلك الاهتمام بالإنسان والتعبير عن أفكاره ومشاعره، أما أدب ما بعد الحداثة لم يعتبر الواقع أو الإنسان قضيته الرئيسية ما أدى إلى توجيه النقد لأصحابه بأنهم يسخرون من الواقع ويحتقرون الإنسان وهو ما أنكروه مؤكدين أن الواقع بالنسبة لهم هو مجرد نص وأن الإنسان هو مجرد حروف على ورق، فالحياة ومشكلاتها ليست شأنهم وإنما ما يعنيهم هو التعبير عن التصورات السابقة للواقع وخلطها معا وإعادة التفكير فيها. 
يؤكد النقاد أن الأدب يعيد نفسه كما يعيد التاريخ نفسه ومن هنا يأتى الاعتراف بأن أدباء ما بعد الحداثة من المستحيل أن يأتوا بجديد فى إبداعهم، فالأمر الحتمى هو أنهم يكررون ويحاكون سابقيهم من الأدباء قديما أو حديثا، بإرادتهم أو دون إرادتهم، بقصد أو بعدم قصد. ومن هنا أصبح دور الكاتب ليس إنتاج نصوص جديدة وإنما هو تجميع وإعادة صياغة لنصوص تم إنتاجها بالفعل فى السابق وهو ما أطلق عليه موت المؤلف أى أن المؤلف ليس المنتج الحقيقى لأعماله وإنما بمثابة ما يعرف باسم سكريبتور أوكاتب نصى أو كاتب سيناريو يعيد صياغة ما تم تقديمه ويقتبس ويكرر نصوص الآخرين من قبله بأسلوبه الخاص وبأبطال جدد من اختلاقه.ومن هنا تنتفى عنه صفه الإبداع. 


وفى المقابل يعتبر ما يعرف بميلاد القارئ من أبرز ما يميز أدب ما بعد الحداثة والمقصود به هو استيعاب القارئ للعمل الأدبى بطريقته الخاصة سواء بالتعاطف أو الاستهجان، سواء بالقبول أو الرفض، فالقارئ لا يسعى للبحث عن المعنى الباطن أو الفكرة الخفية فى النص كما لا يسعى إلى تقسيم الأفكار إلى صراع بين الخير والشر كما كان يحدث من قبل وإنما يحاول البحث عن ذاته داخل العمل الأدبى المطروح وفقا لمعتقداته وأفكاره ومشاعره.
يعتبر فسيفولاد أستروفسكى من أوائل رواد تيار ما بعد الحداثة وأحد مؤسسى تلك المدرسة فى الأدب الروسى ويعتبر كل من  ديميترى بريجوف وليف روبينشتين وفلاديمير سوروكين وتيمور كيبروف وفيكتور بيليفين من أبرز ممثليه وأدباءه. 
       مع مطلع القرن الحادى والعشرين انتشر تيار ما وراء الحداثة، وهو الذى أعقب تيارات الحداثة التى ظهرت فى بدايات القرن العشرين ثم تيارات ما بعد الحداثة فى نهايات القرن.  يتسم هذا التيار بالتذبذبات والتقلبات فى العملية الأدبية، كما يتسم بالغموض والتشكك. 
يدعو تيار ما وراء الحداثة إلى النظر إلى العالم بطريقة جديدة وإلى تعلم الانفتاح والتفكير ورؤية الأشياء والظواهر فى ازدواجيتها. فعلى سبيل المثال الرغبة فى سعادة مطلقة غير قابلة للتحقيق، وهى قضية مثالية، ففى جميع الأعمال الفنية تقريبًا يبحث الأبطال عن السعادة، لكنهم لا يجدونها أبدًا، يمكن للمرء أيضًا أن يتخيل ما وراء الحداثة كنوع من الوجود، وإن كان ميتافيزيقيًا. ورغم أن ما وراء الحداثة ليست طريقة لحل أى مشاكل ملحة، وليس برنامجًا للحياة إلا أن له هدف وهو رحلة البحث عن الحقيقة، وقد يكون الهدف وهميا بعيد المنال ولكن به سعى دائم للبحث عن المثالية.
     ولكن يبقى السؤال هل سلمت العملية الأدبية فى روسيا والرواية الروسية المعاصرة نفسها لتتبع فقط تيارات الحداثة وما بعد الحداثة وما وراء الحداثة؟ 
الإجابة لا، فقد عاد الأدب الروسى والرواية تحديدًا إلى تيار الواقعية خاصة فى السنوات الصفرية من القرن الحادى والعشرين، حيث أكد كبار الأدباء حينذاك على ذلك، وعلى رأسهم راسبوتين (2007)، فيكتور إروفيف (2002) وشارجونوف (2001) تزامنا مع الحديث عن انتهاء تيارات ما بعد الحداثة مع انتهاء القرن الماضى وظهور جيل جديد يحمل فكرا ورؤية جديدة وظهور تيار جديد أصبح يعرف بما وراء الحداثة.
وبالعودة للحديث عن تيار الواقعية الجديدة الذى بدأ فى الظهور والانتشار مع بدايات القرن الحادى والعشرين وارتبطت باسم الكاتب الروسى المعاصر الشهير زاخار بريلبين  وآخرين، فهى عبارة عن حركة أدبية أو تيار أدبى يكشف أزمة العلاقات الساخرة تجاه الواقع ويجمع بين كل من تيارات ما بعد الحداثة (« فوضى العالم» و» أزمة السلطة « و» التركيز على المادية») وكذلك الواقعية (البطل النمطى و الظروف النمطية) وأيضا الرومانسية (الفجوة بين المثل والواقع، والآنا  والمجتمع) مع الاستناد إلى مشكلات الوجودية والاغتراب، والسعى إلى المثل، فهى تصورعام للعالم، ينعكس فى الأعمال الأكثر اختلافًا فى معالجتها الفنية والأسلوبية.
يدعو الواقعيون الجدد إلى ضرورة عودة الأدب الروسى إلى أصوله، إلى الكلاسيكيات، فالألفية الجديدة من وجهة نظرهم تتطلب المزيد من المسئولية، والواقعية الجديدة تولى اهتمامها بشخصية الإنسان والعودة إلى التأليف والإبداع ولكن بشكل معدل حيث تنكرت تيارات ما بعد الحداثة لكل ذلك.
اليوم وعلى مدار عشر سنوات تركزت إبداعات الأدباء حول عدة موضوعات واتجاهات معينة، لعل أبرزها: الأدب الجماهيرى المتمثل فى الروايات البوليسية والجاسوسية وعلى رأسها روايات الكاتب أكونين؛ الخيال العلمى والفانتازيا والروايات التاريخية؛ موضوعات الديستوبيا أو ما يعرف بالمدينة الفاسدة المناهضة للمدينة الفاضلة؛ استمرار تقاليد ما بعد الحداثة  التى تتجسد فى أعمال كل من بيليفين وسوروكين؛ النزعة إلى محو كل الفوارق بين الأنواع والاتجاهات الأدبية المختلفة ويظهر ذلك فى إبداع كل من تولوستويا وبيكوف ما يمثل المزيج ما بين الواقعية الجديدة وما بعد الحداثة، ظهور ما يعرف بالعاطفية الجديدة وتمثلها روايات أوليتسكايا إلى جانب مسرحيات جريشكوفيتس، حيث الاهتمام بالإنسان المهمش والتعاطف معه؛ نثر المرأة وازدهر فى الأدب الروسى منذ نهاية القرن العشرين، والذى ارتبط بموضوعات الأسرة ودور المرأة فى المجتمع، حيث تميز بزيادة الشاعرية فى لغة المرأة، وتتميز عدة أسماء على الساحة الأدبية، مثل تولوستويا وبتروشفسكايا وأوليتسكايا وناربيكوفا وتوكاريفا وروبينا. وتظهر ما يعرف برواية المرأة، غير أن هناك من الأديبات مثل روبينا من يعارضن تقسيم الأدب إلى ذكورى وأنثوى حيث يجب أن يكون المعيار الوحيد للتقسيم من وجهة نظرهن هو الأدب الجيد والأدب السيئ؛ وأخيرا انتشار الكتابة غير الخيالية أو ما يعرف باسم non-fictionأو الأدب الوثائقى الذى يستند إلى توثيق المؤلف للأحداث الواقعية التى يمر بها نفسه أو غيره ويعتمد فيها على الوثائق والإدلاء والتصريحات التى يدلى بها الناس من حوله أو شهود الحدث محل التصوير. ويعتبر هذا النوع من الأدب هو تطور لبعض الأنواع الوثائقية التقليدية مثل المذكرات واليوميات وأدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية. 
     كما أنه لا يجب غض الطرف عن أدباء مثل فودولازكين وإيفانوف وجلوكوفسكى وآخرين، حيث يعالج كل واحد منهم بطريقة أو بأخرى المواضيع الأبدية التقليدية، الحياة والموت، الخير والشر، الحب والوحدة، إلخ.
يبحث الأدب الروسى فى الوقت الحالى عن أشكال واتجاهات وأنواع جديدة، تنعكس حقائق السيرة الذاتية فى كثير من الأعمال، ويعبر المؤلفون عن أنفسهم والأفكار التى تقلقهم على الرغم من العبء الثقافى الهائل وخبرة أسلافهم والتى على ما يبدو تتداخل بين الحين والآخر.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة