صلاح جاهين
صلاح جاهين


العبقرى جاهين.. أول رئيس تحرير يكتب الافتتاحية مرسومةً 

أحمد عبدالنعيم

الجمعة، 02 يوليه 2021 - 09:57 م

فرمان هيكل: كل من يترك الأهرام لا يعود إليها أبدًا.. إلا أبوصلاح 

أنا كنت اتنين فى بعض وفقدت أبودم خفيف وفضل الكئيب

أخفى موهبته عن الجميع حتى أعاد أحمد بهاء الدين اكتشافه 

شعر جاهين بأنه واحد من صُنَّاع الهزيمة فأصابه الاكتئاب 

أمنية والده المستشار.. إلحاق ابنه بكلية الحقوق لاستكمال مسيرته فى سلك القضاء

يتألم المبدع الحقيقى عندما تعجز موهبته أمام التعبير عن تقسيمات حزنه وتقف حائرة أمام فيض مشاعره، فيلجأ إلى حيلة السرد اللفظى، ولكنه يظل حائرًا فى إيجاد وسيلة مختصرة أكثر تعبيرًا.. وعندما يتحول المبدع إلى كوكتيل مواهب، فأنت أمام حالة غريبة تصل إلى حد المعجزة الإنسانية، ويرتدى المبدع توب التصوف الإنسانى ويصبح درويش الحكاوى يرسم ويكتب وينبض ويشعر ويحس وننبهر ليس لأنه صانع موهبة، ولكن الأجمل أنه رائد فى كل حالة. 

جاهين كائن مختلف، حالة إنسانية بجد، رائد فى مدرسة الكاريكاتير وفى الشعر والأغانى، وكاتب سيناريو خاص ومبدع أغانى، وناسج ضمير وطن كامل، ونديم ثورته، صانع للطفل أجمل ما كتب له، إننا أمام إنسان خاص، كتلة مشاعر بمقدار حجم الوطن، يحزن ويرسم الضحكة مكتئبًا وبيملى العالم أغانى. 
أنا قلبى مزيكة بمافتيح
من لمسه.. يغنى لك تفاريح 
مع إنى ما فطرتش وجعان 
ومعذب ومتيم وجريح.. عجبى 
ولد جاهين فى ديسمبر 1930 لأسرة ميسورة الحال، والده المستشار بهجت أحمد حلمى، رئيس محكمة استئناف المنصورة، والأخوات بهيجة ووجدان وسامية، كانت أمنية والده المستشار، إلحاق ابنه الصغير بعد الانتهاء من دراسته الثانوية بكلية الحقوق؛ لاستكمال مسيرة فى سلك القضاء..
أنا كان لى أب.. وكان رئيس محكـــمة 
ستين سنة.. فى قضية واحدة اترمى 
ستين سنة وطلع براءة وخــــــــرج 
يشكي الحياة والموت لرب السمـــــا
ولكن الابن رغبته تغيَّرت مع مدرس الرسم محمد، خريج كلية الفنون الجميلة، فالطالب جاهين كان أخيب طالب فى مادة الرسم التقليدية، متمرد على رسوم المناسبات والأعياد والاكليشيهات التقليدية التى يتوقف فيها خيال الطالب أمام تقليدية الأستاذ فى رسم الوحدة الوطنية والهلال مع الصليب أو حديقة الحيوان، كلها رسوم يكرها جاهين، يحتاج إلى زغزغة وجدانه برسوم تخرج طاقة إبداعية داخلية، الفنان داخل رافض متمرد، لذلك هو خايب لا يدرى وهو الذى يعشق الفن، وعندما جاء مدرس الرسام الشاب أخرج مارده برسم موضوع (غابة تهب عليها الريح)، وكأن القدر والفرصة جاءت لتخرج طاقة وحلم الفرصة الحقيقية ويختزل الفنان داخله الفرصة التى لا يندم عليها أبدًا، ويبدع فى رسم الغابة ليتحول أخيب طالب فى الرسم إلى أهم طالب فى جماعة الرسم، وتشارك المدرسة برسومه فى أغلب المسابقات وتحصد الجوائز وعمره 14، وتحتفظ وزارة المعارف بلوحاته وترسلها إلى مسابقة عالمية، ويتفوق ابن النيل على فنانى العالم، وتلعب الصدفة دورًا مهمًا فى تحول مصيره من الحقوق إلى عالم الفن. 
ياما صادفت صحاب وما صاحبتهمش 
وكاسات خمور وشراب وما شربتهمش 
أندم على الفرص اللى أنا سبتهم 
وللا علي الفرص اللي ما سبتهمش 
وتبقى رغبة الأسرة فى الالتحاق بكلية الحقوق، ولأنه يحب والده إلى درجة التقديس، يلتحق بكلية الحقوق سنتين، لا يشعر فيها بنفسه، يتوه فى جنبات الكلية، لا يستمع إلى الشرح، يسرح كثيرًا، يرى طلاب الفنون، تحتضن الطلاب ريشات وأقلام الرسم والورق، ورسوم تصرخ بألم، تنده على جاهين، أُريد أناملك يا فنان، يستجيب الفنان داخله لنداء رسوم لا يعرفها ويشعر بها، يجرى ويترك رغبة الأسرة، ويلتحق بالفنون الجميلة، ويدرس على يد معلم الأجيال الفنان بيكار، ويصاحب التلميذ الأستاذ، ويقرر إعلان خوفه لبيكار.. 
أنا شاب لكن عمرى ألف عام 
وحيد لكن بين ضلوعي زحام 
خايف ولكن خوفي مني أنا 
أخرس ولكن قلبي مليان كلام 
يحكى لبيكار كيف ترك الحقوق ورغبة الأسرة وهو لا يريد أن يُغضب والده الذى يحبة.. يبتسم الأستاذ ويطالبة بإحضار الوالد إلى الكلية، لعله يقنعه بموهبة ابنه، ولكن الوالد يصر على الحقوق، وأمام رغبته يعود جاهين إلى الحقوق التى لا يستمر فيها إلى معشوقته الصحافة، ويلتحق سكرتير تحرير بمؤسسة روزاليوسف مع صانع النجوم حسن فؤاد، يرسم الماكيت، ويخفى موهبة الرسم فى أوراق صغيرة على مكتبه، يترك الورق ويذهب إلى قسم التنفيذ، وفى صدفة غريبة يشاهد قصاقيص الرسوم أحمد بهاء الدين، ويطالبه بصفحتي كاريكاتير أسبوعياً.. 
يا باب يا مقفول.. امتى الدخول 
صبرت ياما واللي يصبر ينول 
دقيت سنين.. والرد يرجع لي: مين؟ 
لو كنت عارف مين أنا
ينطلق مارد الكاريكاتير ويعلن عن كسر القمقم وعدم العودة إلى شرنقة النسيان، قد سبق خروجه ليرسم فى الأسبوع مع طوغان أو الغد أو مجلة التحرير، ولكنه يعلن تمرده على قمقمه فى روزاليوسف.. هناك لا يحتاج إلى من يدعك الفانوس ليخرج، تخلص وخرج ليبدع على صفحات المجلة حتى ميلاد صباح الخير فى يناير 1956، كان الكاريكاتير يعانى من بعض الأمراض التى حولته إلى قسمين سياسى مباشر، وخطابى النزعة, معتمد على البورترية والتناحر اللفظى، والنصف الآخر اجتماعى ساذج، رسومه وفكره منها مصور الزوج والزوجة، الحماه المفترية، والريشات متأثرة إلى حد التقليد أو محاولة البحث عن شكل مختلف بعض الشىء، وجاءت ريشة المغامر بهجورى فى أحداث ثورة حقيقية فى شكل الكاريكاتير، والتخلص من خطوطه السميكة وأكاديمية الأداء التى قد تفقده حيويته، وريشة جاهين لتحويل الفكرة الاجتماعية إلى سياسية فى قالب اجتماعى يدخل بنا إلى دواوين الحكومة، ويشرح العلاقة الإنسانية للرجل فى عنتر وعبلة ونستمع معه إلى قيس المودرن وليلى.. خطوط خاصة تأصل لمدرسة مصرية يصنع من الكاريكاتير شيئًا خاصًا به وبنا. 
أنا كنت شىء وأصبحت شىء ثم شــىء 
شوف ربنا.. قادرعلي كل شـــــــىء 
هز الشجر شواشية ووشوشني قال: 
لابد ما يموت شىء عشان يحيا شىء 
يعرى واقعنا ويخلصنا من ورقة التوت ويقدم نادى العراة، يجعلنا ننظر إلى أنفسنا إلى البداية يخلصك من ذاتك لتسرح معه فى واقع حالك، رسوم تنبض لا تشعر معه بالعرى فقط، ولكن تشعر بأنك تُولد على صفحاتها.. ولأنه ابن الثورة مؤمن بأهدافها يبدع للثورة، الكاريكاتير والأغنية والشهرة ويصبح نديم يوليو، نشاهد ونسمع ونستمتع بإبداعه، نثق به، وأنه ضميرنا الحى، نقف مكتوفى الأيدى؛ لنرى إبداعه، نشاهد كاريكاتيره، وننتظر منه الأغنية، ونستمتع بها وننتظر الرباعية، وتلك مشكلته مع المتلقى وسبب اكتئابه الدائم، الناس تنتظر منه الكثير، يشعر أمامهم بالعجز، جاهين يعلن اكتئابه (منذ عام 1967 وأنا أعانى من حالة اكتئاب عالية، والاكتئاب عندى ليس فترة، ولكنه حالة كاملة تنتابنى وتهاجمنى فى وقت معين، وحين تتملكنى وأتوقف تمامًا عن كل شىء).
إيه اللى خدته من مرور السنــــــين 
يا قلبي إلا دمعتك والأنيــــــــــــــين 
بتئن وترجع وبتفرح وترجع تحــن 
مع إن مش كل البشـــــــــــر فرحانين 
وتبقى الهزيمة الجرح الحقيقى فى حياة جاهين، يشعر أنه واحد من أسبابها بأغانيه وأشعاره، ولكنه قلب أبيض، صدق كل ما حوله، ولم يدرك الزيف والخداع السياسى، هو ابن الوطنية الصادقة، وليس العهر السياسى، جاهين ضميرنا النابض الحقيقى الذى يشعرنا بالوجود.. كان يمكنه استيعاب الحياة، وهو الفنان ذائع الصيت انتقل إلى الأهرام فى سابقة الأولى 1962، وخاض أهم المعارك مع الإمام الغزالى، عندما حاول نقد الخطاب البعيد عن نبض الشارع والبحث فى أمور أخرى (رسم جاهين الإمام الغزالى ومجموعة أطفال مشردين يطالبون منه أن يكون خطابه لهم للحالة التى وصلوا إليها، وهنا ثار الجميع وقامت المظاهرات وضربت الأهرام بالطوب، ولكن هيكل أصر على استكمال المعركة وطلب من جاهين نص صفحة كاريكاتير فى سابقة هى الأولى فى تاريخ جريدة الأهرام، واستمرت المعركة حتى اعتذر الإمام الغزالى وصافح جاهين)، والنائب العام وغيَّر الأهرام فى قوانينه من أجل عيون جاهين عندما ترك الأهرام ليرأس تحرير مجلة صباح الخير (أول رئيس تحرير رسام كاريكاتير لمجلة شبابية، وليست متخصصة، هنا كان جاهين أيضاً مختلف، كتب افتتاحية العدد بالرسم فى سابقة هى الأولى، واستمر فى تجاربه الإنسانية والفنية.. كان هناك فرمان من الأستاذ هيكل لكل من يترك الأهرام لا يعود إليها أبدًا.. ولكن عند جاهين توقف عجلة الزمن وتلغى القوانين هو استثناء من القاعدة، لأنه كائن استثنائى خاص، يفقد نصف وزنه فى رحلة علاجه بموسكو، ويدخل دائرة الحزن والاكتئاب مرة أخرى، وكنت تسأل جاهين بعد أن وصل إلى سبعين كيلو: لماذا أنت مكتئب ياعم صلاح؟.. كان دائمًا يقول إن كنت اتنين فى بعض واضح إنى فقط أبودم خفيف وفضل الكئيب.. ولكنه المقاوم الصلب يكتب حكايات وأشعارًا ويرسم فى الصفحة التاسعة من الأهرام، وتصبح أيقونة القراء اليومية رسومه فى الأهرام، تمثل حكاياتنا اليومية، ويخرج من دائرة العمل الإدارى، خطأ من يتصور أنه فشل كرئيس تحرير لصباح الخير أبدًا، هو رافض للعمل الذى يأخذه من فنه، هو راقص الباليه الدائم، يسير على أطراف أصابعه ليكتب الأوبريت للطفل فى الليلة الكبيرة، يسير يوميًا مع سيد مكاوى على موالد الحسين والسيدة، يلتقط الصورة والمشهد وينسى أبدًا حسه الضاحك عندما يلاحظ المعلم حنتيرة، جلوس البعض دون مشاريب، وهو المشهد الحقيقى لجاهين وسيد مكاوى.. ملحمة الليلة الكبيرة جزء من تراث إنسانى يعيش، ودائم الكتابة للطفل فى تجارب جاهين.. عندما جرب الرسم وفلح.. والسيناريو وفلح، والأغنية والرباعية، فنان شامل والأغرب أنه ظل الرائد فى كل التجارب، أمسك قصص سناء البيسى (هو وهى)، يكتب ويتحول الورق إلى نبضات ومشاهد ويقنع أحمد ذكى وسعاد حسنى، يصنع ثنائى على الشاشة (يقلق الكاتبة سناء البيسى من نومها بجرس تليفون طويل الثالثة صباحًا ويسألها: لو زوجك أغضبك ماذا تطلبين منه؟.. معقولة يا صلاح.. اطلب شيوكولاتة.. طب لو ساحت.. طب راحت ما طرح ما راحت.. شكرًا يا سناء نامى بقى)، ليكتب أغنية.. هكذا جاهين العبقرى شديد البراءة، واحد من جيل صنع حدوتة وطن تمناه وعاش من أجل تحقيق الحلم..  ويسير ليسمع أحلى أغانيه الوطنية والخفيفة، رسومه كانت تحمل شخصيته، خطوطًا بسيطة رائعة خرجت من عباءة خاصة مرت ببساطة على حيز التقليد، وسرعان ما تخلصت منه سريعًا، تحمل بصمته وتصبح مدرسته الخاصة، الخطوط البسيطة والفكرة السريعة التى تصل إلى الوجدان، حتى وهو رافض يعلن رفضه بسخرية، يرسم الرافض للكامب ديفيد (كل واحد ينام على الكامب اللى يريحه)، ابن السخرية المصرية الضاربة فى الجذور، رسم المصرى القديم على ورق البردى، ورسم جاهين على أحلام عمرنا, وفى إبريل 1986 قرر الرحيل بعد عجز قلبه الرقيق عن تحمل الكثير، اختار الرحيل 56 عامًا فقط عمره، ولكنه إحساس إنسانى دائم.. رحم الله العبقرى صلاح جاهين.
نظرت فى الملكوت كتير وانشغلت 
وبكل كلمةْ (ليه؟) و(عشانيه) سألت 
اسأَل سؤال.. الرد يرجع سؤال 
واخرج وحيرتي أشد مما دخلت 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة