د.مصطفى عبد المعطى
د.مصطفى عبد المعطى


بعد حصوله على جائزة النيل للفنون

د.مصطفى عبد المعطى: الدولة لا تنسى مبدعيها

أخبار الأدب

الأحد، 04 يوليه 2021 - 02:22 م

 

حوار‭: ‬منى‭ ‬عبد‭ ‬الكريم

فى‭ ‬رحلة‭ ‬ممتدة‭ ‬كرحلة‭ ‬النهر‭ ‬عبر‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬كانت‭ ‬رحلته‭ ‬الفنية‭ ‬التى‭ ‬بدأها‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬حيث‭ ‬نشأ‭ ‬ودرس‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬ضمن‭ ‬أول‭ ‬دفعة‭ ‬تستقبلها‭ ‬الكلية‭ ‬بالإسكندرية،‭ ‬ليسافر‭ ‬بعدها‭ ‬لدراسة‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬ثم‭ ‬شمال‭ ‬الدلتا‭ ‬بمنحتى‭ ‬تفرغ‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬المصرية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تأخذه‭ ‬الرحلة‭  ‬لأوروبا‭ ‬حيث‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الأستاذية‭ ‬فى‭ ‬الفنون‭ ‬من‭ ‬أكاديمية‭ ‬سان‭ ‬فرناندو‭ ‬بجامعة‭ ‬مدريد‭ ‬بإسبانيا‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬كما‭ ‬حصل‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬دبلوم‭ ‬التصوير‭ ‬الجدارى‭ ‬ودبلوم‭ ‬الترميم‭ ‬فى‭ ‬التصوير‭ ‬الزيتى‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬عاما‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عطاؤه‭ ‬إبداعيا‭ ‬وإنسانيا‭.. ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬الفنى‭ ‬المستمر‭ ‬مارس‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭ ‬التشكيلية‭.. ‬التصوير‭ ‬والرسم‭ ‬والخزف‭ ‬والجرافيك‭ ‬والنحت،‭ ‬وتقلد‭ ‬عشرات‭ ‬المناصب‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬توليه‭ ‬منصب‭ ‬رئيس‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المصرية‭ ‬للفنون‭ ‬بروما‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬وحتى‭ ‬عام‭ ‬1996،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬بينالى‭ ‬القاهرة‭ ‬الدولى‭ ‬الذى‭ ‬ترأسه‭ ‬فى‭ ‬دورتيه‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬كما‭ ‬اختير‭ ‬قوميسير‭ ‬عام‭ ‬الجناح‭ ‬المصرى‭ ‬فى‭ ‬بينالى‭ ‬فينيسيا‭ ‬الدولى‭ ‬فى‭ ‬2003،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬التى‭ ‬يصعب‭ ‬حصرها،‭ ‬ليأتى‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭  ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬النيل‭ ‬فى‭ ‬الفنون‭ ‬تتويجا‭ ‬لتلك‭ ‬الرحلة‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬خبر‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬فوز‭ ‬د‭. ‬مصطفى‭ ‬عبد‭ ‬المعطى‭ ‬بجائزة‭ ‬النيل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أبداً‭ ‬مفاجأة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬منجز‭ ‬متفرد،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬الفوز‭ ‬جاء‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المحبة‭ ‬العميقة‭ ‬التى‭ ‬يكنها‭ ‬له‭ ‬طلابه‭ ‬وتلامذته‭ ‬الذين‭ ‬شعروا‭ ‬أن‭ ‬الجائزة‭ ‬لهم‭ ‬جميعا،‭ ‬إذ‭ ‬عرفت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬علاقته‭ ‬بطلابه‭ ‬تجاوزت‭ ‬الأستاذية‭ ‬إلى‭ ‬الأبوة‭ ‬حيث‭ ‬فتح‭ ‬لهم‭ ‬أبواب‭ ‬مرسمه‭ ‬وبيته،‭ ‬وجمع‭ ‬لهم‭ ‬كتب‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬وترك‭ ‬لهم‭ ‬أبواب‭ ‬قلبه‭ ‬ومكتبته‭ ‬مفتوحة‭ ‬دائما‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الفنى‭ ‬فتأتى‭ ‬فرادة‭ ‬تجربة‭ ‬الفنان‭ ‬مصطفى‭ ‬عبد‭ ‬المعطى‭ ‬لأسباب‭ ‬متنوعة‭ ‬أهمها‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬تراث‭ ‬المصرى‭ ‬القديم‭ ‬وفلسفته،‭ ‬وبين‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية،‭ ‬ليختار‭ ‬لنفسه‭ ‬أسلوبا‭ ‬متفردا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬الأشكال‭ ‬الهندسية‭ ‬فاتحا‭ ‬بها‭ ‬آفاق‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬الماضى‭ ‬والحاضر‭ ‬وبين‭ ‬رحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وخروجه‭ ‬للفضاء‭ ‬الخارجى‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬متصل‭ ‬مع‭ ‬الكون‭ ‬كله‭.‬

والمتتبع‭ ‬لإنتاج‭ ‬عبد‭ ‬المعطى‭ ‬الفنى‭ ‬منذ‭ ‬بدايته‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬الفنان‭ ‬د‭.‬حمدى‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬يدرك‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أنه‭ ‬مهموم‭ ‬بقضايا‭ ‬التشكيل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بصيرة‭ ‬نافذة‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬جديته‭ ‬ومثابرته‭ ‬فى‭ ‬الرحلة‭ ‬للكشف‭ ‬عما‭ ‬وراء‭ ‬العناصر‭ ‬والأشكال‭ ‬البيئية‭ ‬التى‭ ‬تتضمنها‭ ‬أعماله‭ ‬والتى‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬ومؤثراً‭ ‬فى‭ ‬إضفاء‭ ‬صفة‭ ‬البلاغة‭ ‬على‭ ‬أسلوبه‭ ‬الفنى‭ ‬المدعم‭ ‬بالبعد‭ ‬الثقافى‭ ‬فتكويناته‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬التناغمية‭ ‬بين‭ ‬الأشكال‭ ‬فى‭ ‬بنائيات‭ ‬تزيينية‭ ‬تعبيرية‭ ‬بلا‭ ‬افتعال‭ ‬متخطياً‭ ‬بذلك‭ ‬مناطق‭ ‬كثيرة‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الفنانين،‭ ‬فالفنان‭ ‬د‭.‬مصطفى‭ ‬عبد‭ ‬المعطى‭ ‬يجيد‭ ‬بحرفية‭ ‬بالغة‭ ‬مهارة‭ ‬تقديم‭ ‬منظومات‭ ‬بصرية‭ ‬مصوغة‭ ‬بمنطق‭ ‬معاصر‭ ‬تثير‭ ‬فى‭ ‬المشاهد‭ ‬رؤية‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬المحلية‭ ‬ذات‭ ‬المناظر‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الحضارى‭ ‬طويل‭ ‬الأمد‭.. ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬يحلق‭ ‬بنا‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬الفضائيات‭ ‬اللانهائى‭ ‬والاتصالات‭ ‬الكونية‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬جائزة‭ ‬النيل‭ ‬هى‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬تأتى‭ ‬تقديرا‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬لمنجزه‭ ‬الفني،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬ضمن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬الأخرى‭.. ‬التقينا‭ ‬بالفنان‭ ‬مصطفى‭ ‬عبد‭ ‬المعطى‭ ‬وكان‭ ‬لنا‭ ‬معه‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭.‬

دائما‭ ‬يرى‭ ‬المبدع‭ ‬أن‭ ‬جائزته‭ ‬الأهم‭ ‬هى‭ ‬منتجه‭ ‬الإبداعي،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬عشرات‭ ‬الجوائز‭ ‬والتكريمات،‭ ‬كيف‭ ‬جاء‭ ‬تلقيك‭ ‬لخبر‭ ‬فوزك‭ ‬بجائزة‭ ‬االنيلب؟

بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬لا‭ ‬أتوقف‭ ‬عند‭ ‬الجوائز‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬لكن‭ ‬جائزة‭ ‬النيل‭ ‬أمر‭ ‬مختلف‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬قيمتها‭  ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تكريم‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬فهى‭ ‬جائزة‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬ولذا‭ ‬أعتبر‭ ‬أنها‭  ‬توازى‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬فى‭ ‬الخارج،‭ ‬هذا‭ ‬التقييم‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬له‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة،‭ ‬لأن‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬الجائزة‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬مبدعيها،‭ ‬وجائزة‭ ‬النيل‭ ‬تتويج‭ ‬للتجربة‭ ‬الفنية‭ ‬التى‭ ‬امتدت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬عاما،‭ ‬ولكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬كذلك‭ ‬إن‭ ‬الجائزة‭ ‬لا‭ ‬تعنى‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬الذى‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭  ‬متفرد‭ ‬دون‭ ‬غيره،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬مصر‭ ‬ولادة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭. ‬

خرجت‭ ‬جوائز‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬وفيها‭ ‬احتفاء‭ ‬كبير‭ ‬بالتشكيليين،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬ظل‭ ‬فيها‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلى‭ ‬مظلوما‭ ‬ضمن‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬الأخرى‭ ‬خاصة‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬كالسينما‭ ‬والمسرح،‭  ‬فهل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يعنى‭ ‬تغيراً‭ ‬فى‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلى‭ ‬ومكانته‭ ‬بشكل‭ ‬عام؟

بالطبع‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬وعيا‭ ‬متزايداً‭ ‬بالفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬لأنه‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬التحكيم‭ ‬هناك‭ ‬أساتذة‭ ‬ومبدعون‭ ‬ومفكرون‭ ‬ومثقفون‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬التشكيليين،‭ ‬وعندما‭ ‬يحصل‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬التشكيليين‭ ‬على‭ ‬جوائز‭ ‬فهذا‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬النظرة‭ ‬اختلفت‭ ‬إلى‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬للسعادة‭ ‬بالطبع‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التكريم‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬حصلت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬فبخلاف‭ ‬جائزة‭ ‬النيل‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية،‭ ‬بل‭ ‬سبقها‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬حصولك‭ ‬على‭ ‬منحتى‭ ‬تفرغ‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬المصرية‭  ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬مشوارك‭ ‬الفني،‭ ‬واحدة‭ ‬لدراسة‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬وأخرى‭ ‬لدراسة‭ ‬شمالها؟‭ ‬فكيف‭ ‬كان‭ ‬أثر‭ ‬هاتين‭ ‬التجربتين‭ ‬على‭ ‬رحلتك‭ ‬الفنية؟

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬رحلتى‭ ‬الأولى‭ ‬لصعيد‭ ‬مصر‭ ‬كانت‭ ‬أثناء‭ ‬دراستى‭ ‬فى‭ ‬إعدادى‭ ‬فنون،‭ ‬وقد‭ ‬تأثرت‭ ‬جدا‭ ‬بهذه‭ ‬التجربة‭ ‬باللقاء‭ ‬المباشر‭ ‬بمفردات‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية،‭ ‬واكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الأقصر‭ ‬تعتبر‭ ‬هى‭ ‬عاصمة‭ ‬العالم‭ ‬تراثيا،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬مدينة‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬الآثار،‭ ‬لذا‭ ‬أعتبرها‭ ‬أيقونة‭ ‬التراث‭ ‬فى‭ ‬العالم‭.‬

لكن‭ ‬بعد‭ ‬تخرجنا‭ ‬حصلت‭ ‬أنا‭ ‬وسعيد‭ ‬العدوى‭ ‬ومحمود‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬باعتبارنا‭ ‬أعضاء‭ ‬جماعة‭ ‬التجريبيين‭ ‬التى‭ ‬قمنا‭ ‬بتأسيسها‭ ‬ونحن‭ ‬طلبة‭ ‬بكلية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬تفرغ‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬لزيارة‭ ‬السد‭ ‬العالي،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬هى‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬وربما‭ ‬الأخيرة‭ ‬التى‭ ‬تحصل‭ ‬فيها‭ ‬جماعة‭ ‬فنية‭ ‬بالكامل‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬تفرغ،‭ ‬وقتها‭ ‬كان‭ ‬السد‭ ‬العالى‭ ‬حدثا‭ ‬قوميا،‭ ‬فبعد‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬مصر‭ ‬وتأميم‭ ‬القناة‭ ‬لاستكمال‭ ‬بناء‭ ‬السد،‭ ‬تحول‭ ‬السد‭ ‬لأيقونة،‭ ‬وأصبح‭ ‬إنسان‭ ‬الشارع‭ ‬العادى‭ ‬يتحدث‭ ‬عنه‭ ‬كبطل‭ ‬قومي،‭ ‬ولذا‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬ترغب‭ ‬فى‭ ‬دفع‭ ‬شباب‭ ‬الفنانين‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬إحساسهم‭ ‬بالسد‭ ‬العالي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬توجيهنا‭ ‬بشأن‭ ‬منتجنا‭ ‬الفني،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬كان‭ ‬لدينا‭ ‬مطلق‭ ‬الحرية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا،‭ ‬وقتها‭ ‬تأثر‭ ‬سعيد‭ ‬العدوى‭ ‬بالموتيفات‭ ‬على‭ ‬منازل‭ ‬النوبة،‭ ‬أما‭ ‬محمود‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬فكان‭ ‬المثير‭ ‬لديه‭ ‬هو‭ ‬قطع‭ ‬الجرانيت‭ ‬وملمسها،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فكان‭ ‬السد‭ ‬يمثل‭ ‬لى‭ ‬الطاقة‭ ‬الجديدة‭ ‬التى‭ ‬ستبث‭ ‬فى‭ ‬شرايين‭ ‬مصر‭ ‬االكهرباءب‭..  ‬تلك‭ ‬الطاقة‭ ‬التى‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬التقدم‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بفترة‭ ‬ومع‭ ‬وقوع‭ ‬النكسة‭ ‬حدثت‭ ‬هزة‭ ‬كبيرة،‭ ‬شرخ‭ ‬ترك‭ ‬آلاما‭ ‬عميقة‭ ‬فى‭ ‬نفوسنا‭ ‬جميعا،‭ ‬وقتها‭ ‬فكرنا‭ -‬وأعنى‭ ‬بذلك‭ ‬أعضاء‭ ‬جماعة‭ ‬التجريبيين‭- ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬سبيل‭ ‬للنهوض،‭ ‬وكان‭ ‬سبيلنا‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬العودة‭ ‬للطبيعة،‭ ‬وحين‭ ‬اقترح‭ ‬محافظ‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ‭ ‬أن‭ ‬نسافر‭ ‬لاستكشاف‭ ‬المحافظة‭ ‬وقراها،‭ ‬ذهبنا‭ ‬بدافع‭ ‬استكشاف‭ ‬جمال‭ ‬طبيعة‭ ‬مصر،‭ ‬وقمنا‭ ‬بجولة‭ ‬بين‭ ‬قراها‭ ‬مثل‭ ‬الشخلوبة‭ ‬وهى‭ ‬قرى‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬خاص،‭ ‬وكانت‭ ‬كل‭ ‬مشكلتى‭ ‬وقتها‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬وأستسلم‭ ‬تماما‭ ‬للطبيعة‭ ‬لتملى‭ ‬على‭ ‬كيف‭ ‬أقدمها‭ ‬كما‭ ‬هى‭ ‬دون‭ ‬فلسفتها‭ ‬لونيا‭ ‬أو‭ ‬بصريا‭ ‬بطريقتي،‭ ‬أردت‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬أسجل‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬الطبيعة،‭ ‬لأرسم‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولى‭ ‬بلونها‭ ‬وبملمسها،‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬المنبع‭ ‬والاستناد‭ ‬إليه‭ ‬للنهوض‭ ‬مجددا‭.‬

مع‭ ‬تعدد‭ ‬أسفارك‭ ‬وتنوع‭ ‬الأماكن‭ ‬التى‭ ‬سافرت‭ ‬إليها‭ ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬للمكان‭ ‬أثر‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬فى‭ ‬أعمالك‭ ‬الفنية‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬مع‭ ‬نشأتك‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية؟

بلا‭ ‬شك،‭ ‬فعندما‭ ‬ننظر‭ ‬لتاريخ‭ ‬الفن‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عامل‭ ‬مهم‭ ‬لبناء‭ ‬العمل‭ ‬وتميزه‭ ‬واختلافاته،‭ ‬هذا‭ ‬العنصر‭ ‬يتمثل‭ ‬فى‭ ‬التراث‭ ‬البيئي،‭ ‬أى‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬اللذان‭ ‬وجد‭ ‬بهما‭ ‬الفنان،‭ ‬ولذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬اتخذت‭ ‬رموزاً‭ ‬لمعبوداتها‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬المحيطة،‭ ‬فالفنون‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬مخزون‭ ‬الوجدان‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬مادى‭.‬

بالنسبة‭ ‬للإسكندرية‭ ‬فلها‭ ‬حضور‭ ‬طاغي،‭ ‬ولها‭ ‬خصوصية،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬عبثا‭ ‬أن‭ ‬اختار‭ ‬الإسكندر‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭ ‬الفريدة‭ ‬لإنشاء‭ ‬مدينة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬التى‭ ‬اختارها‭ ‬عاصمة‭ ‬لإمبراطورتيه،‭ ‬وقد‭ ‬منحتنا‭ ‬الإسكندرية‭ ‬فرصة‭ ‬لرؤية‭ ‬خط‭ ‬الأفق‭ ‬باستمرار،‭ ‬أن‭ ‬تسبح‭ ‬أعيننا‭ ‬فى‭ ‬مساحة‭ ‬الهواء‭ ‬الموجودة‭ ‬بين‭ ‬البحر‭ ‬والسماء،‭  ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الخط‭ ‬الأفقى‭ ‬والخط‭ ‬الرأسي،‭ ‬التى‭ ‬طالما‭ ‬شغلت‭ ‬المصرى‭ ‬القديم‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬مفهوم‭ ‬وأسس‭ ‬التصميم‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭.. ‬هذان‭ ‬الخطان‭ ‬يمثلان‭ ‬علاقة‭ ‬الأرض‭ ‬بالسماء،‭ ‬فالأفقى‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬القيمة‭ ‬الحياتية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والرأسى‭ ‬يمثل‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالسماء،‭ ‬أى‭ ‬علاقته‭ ‬الروحية‭ ‬والوجدانية‭ ‬بالخالق‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬السكندرى‭ ‬ملون‭ ‬بامتياز،‭ ‬لأنه‭ ‬يرى‭ ‬كل‭ ‬الألوان‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭  ‬إضافة‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭  ‬اللون‭ ‬الأزرق‭ ‬موجود‭ ‬بكثافة‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬السكندريين‭ ‬لأن‭ ‬لون‭ ‬البحر‭ ‬يسكنهم‭.‬

أما‭ ‬السفر‭ ‬لأوروبا‭ ‬فقد‭ ‬منحنى‭ ‬فرصة‭ ‬عظيمة‭ ‬لرؤية‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬بواقعها،‭ ‬وألوانها‭ ‬وملمسها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زيارات‭ ‬لمتاحف‭ ‬الفن‭ ‬العالمي،‭ ‬كنت‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬صورها‭ ‬فى‭ ‬الكتب،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يختلف‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭.. ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬تجربة‭ ‬ملهمة‭ ‬ومؤثرة‭.‬

فى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬كذلك‭ ‬كنت‭ ‬أحد‭ ‬مؤسسى‭ ‬جماعة‭ ‬التجريبيين‭ ‬فى‭ ‬الستينات،‭ ‬التى‭ ‬تعتبر‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المحطات،‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬وأثرها‭ ‬فى‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية؟

الجماعات‭ ‬الفنية‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬مهمة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن،‭ ‬وجودها‭ ‬فى‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬يعنى‭ ‬حدوث‭ ‬نقلة‭ ‬إيجابية،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬كانت‭ ‬الجماعة‭ ‬مساحة‭ ‬لعمل‭ ‬تجارب‭ ‬فنية‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬الإطار‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وكان‭ ‬المناخ‭ ‬العام‭ ‬آنذاك‭ ‬بحاجة‭ ‬فعلا‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التجريب،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النمطية‭  ‬الكلاسيكية‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وقتها‭ ‬حصلنا‭ ‬على‭ ‬مراسم‭ ‬فى‭ ‬أتيليه‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وكنا‭ ‬أول‭ ‬مصريين‭ ‬ندخل‭ ‬أتيليه‭ ‬الإسكندرية‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الأتيليه‭ ‬مخصصا‭ ‬قبلها‭ ‬للفنانين‭ ‬الأجانب‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬ونحن‭ ‬نفكر‭ ‬فى‭ ‬توجهنا‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬مكاننا‭ ‬على‭ ‬الخريطة،‭ ‬كان‭ ‬البحر‭ ‬أمامنا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬من‭ ‬الشمال‭ ‬حيث‭ ‬الثقافة،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬فصعيد‭ ‬مصر‭ ‬وأفريقيا،‭ ‬حيث‭ ‬انتمائنا‭ ‬الجغرافى‭ ‬لأفريقيا،‭ ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬هذين‭ ‬العنصرين،‭ ‬التراث‭ ‬من‭ ‬ورائنا‭ ‬والثقافة‭ ‬والمستجدات‭ ‬فى‭ ‬الغرب،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬دائما‭ ‬نصب‭ ‬أعيننا،‭ ‬وفى‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬المحيط‭ ‬نشأت‭ ‬جماعة‭ ‬التجريبيين،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬معرض‭  ‬لنا‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬وقد‭ ‬لقى‭ ‬إقبالا‭ ‬كبيرا،‭ ‬واحتفى‭ ‬به‭ ‬الإعلام‭  ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أمال‭ ‬فهمى‭ ‬قدمت‭ ‬حلقة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬المعرض،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬كبار‭ ‬النقاد‭ ‬والمثقفين،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬الشديد‭ ‬فى‭  ‬أكتوبر‭ ‬1973،‭ ‬توفى‭ ‬سعيد‭ ‬العدوى‭ ‬دون‭ ‬مقدمات،‭ ‬وكانت‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬لنا‭ ‬جميعا‭ ‬،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬سافر‭ ‬محمود‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بعثة‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬بعثة‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لتلك‭ ‬الظروف‭ ‬تفككت‭ ‬الجماعة‭. ‬

إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬للزمان‭ ‬ففى‭ ‬الستينات‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬حدث‭ ‬جلل‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيرك‭ ‬ذ‭ ‬بهبوط‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬القمر‭ ‬رافعا‭ ‬راية‭ ‬العلم‭ ‬فى‭ ‬إنجاز‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وقد‭ ‬شكل‭ ‬هذا‭ ‬نقطة‭ ‬فارقة‭- ‬كما‭ ‬ذكرت‭ - ‬فى‭ ‬انشغالك‭ ‬الفكرى‭ ‬والوجدانى‭ ‬لتبدأ‭ ‬مرحلة‭ ‬الفضائيات؟‭ ‬تبدو‭ ‬متأثرا‭ ‬جدا‭ ‬بالعلم‭ ‬ومستجداته‭ ‬ليبدو‭ ‬محركا‭ ‬للخيال‭ ‬فى‭ ‬أعمالك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اعتقاد‭ ‬الناس‭ ‬الشائع‭ ‬بانفصال‭ ‬العلم‭ ‬بحقائقه‭ ‬الجافة‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬بمساحة‭ ‬الخيال‭ ‬الرحبة‭ ‬التى‭ ‬يخاطبها‭..‬

العلم‭ ‬لم‭ ‬ينفصل‭ ‬أبدا‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬فعندما‭ ‬رسم‭ ‬الإنسان‭ ‬البدائى‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬تدخل‭ ‬العلم‭ ‬فى‭ ‬الخامة‭ ‬التى‭ ‬يرسم‭ ‬بها،‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الخامات‭ ‬وأساليب‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المسطح‭ ‬الفنى‭ ‬وصولا‭ ‬للتحريك‭ ‬هى‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬علمية،‭ ‬فالعلم‭ ‬ملاصق‭ ‬للفن،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬مستترا‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭  ‬وبالنظر‭ ‬للأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الخالدة‭ ‬لكبار‭ ‬الفنانين‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭  ‬قائمة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬العلم،‭ ‬فلو‭ ‬حللنا‭ ‬مثلا‭ ‬بورتريه‭ ‬الجيوكندا‭ ‬لـ‭ ‬الِيوناردو‭ ‬دا‭ ‬فينشىب‭ ‬نجده‭ ‬قائماً‭ ‬على‭ ‬النسبة‭ ‬الذهبية‭ ‬وهى‭ ‬نظرية‭ ‬رياضية‭ ‬تقيس‭ ‬التناسب‭ ‬بين‭ ‬عنصرين‭ ‬داخل‭ ‬التصميم‭.. ‬وهكذا‭ .. ‬ولطالما‭ ‬كانت‭ ‬الفنون‭ ‬والحركات‭ ‬الفنية‭ ‬انعكاساً‭ ‬لمستجدات‭ ‬العلم‭ ‬ونظرياته،‭ ‬الاختلاف‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬يستطيع‭ ‬الحلم،‭ ‬والعلم‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الحلم،‭ ‬وإنما‭ ‬يحاول‭ ‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬الحلم،‭ ‬وكل‭ ‬المنجزات‭ ‬العلمية‭ ‬بدأت‭ ‬بالحلم‭ .‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لرحلة‭ ‬أبولو‭ ‬وتأثرى‭ ‬بها،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬يخرج‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬جاذبية‭ ‬أخرى،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرته‭ ‬ميلاد‭ ‬جديد‭ ‬للإنسان‭ ‬وللبشرية،‭ ‬وهنا‭ ‬بدأ‭ ‬الإنسان‭ ‬يتحول‭ ‬أمامى‭ ‬إلى‭ ‬معادلة‭ ‬رياضية،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬أعمالى‭ ‬الفنية‭ ‬هى‭ ‬ترجمة‭ ‬بصرية‭ ‬لرؤيتى‭ ‬لإنسان‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الذى‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المعادلة‭ ‬الرياضية‭. ‬

ولكن‭ ‬كيف‭ ‬استطعت‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬صرامة‭ ‬الأشكال‭ ‬الهندسية‭ ‬إلى‭ ‬رحابة‭ ‬الفن‭ ‬بتنويعاته‭ ‬وتجلياته‭ ‬؟

حين‭ ‬أبدع‭ ‬المصرى‭  ‬القديم‭ ‬فنونه‭ ‬كان‭ ‬مشغولا‭ ‬بموضوع‭ ‬واحد‭ ‬وهو‭ ‬العقيدة،‭ ‬وترك‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬وتنويعاتها،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬قدم‭ ‬شيئا‭ ‬مثل‭ ‬الآخر،‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬المسألة‭ ‬متصلة‭ ‬بالروحانيات‭ ‬يستطيع‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬وقت‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مساحة‭ ‬تجسيد‭ ‬لعالم‭ ‬روحى‭ ‬ومقدس،‭ ‬وأنا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬أعيش‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬فكرية‭ ‬وروحية‭ ‬متأصلة‭ ‬داخلي،‭ ‬وهى‭ ‬التى‭ ‬تقود‭ ‬العمل‭ ‬الفنى‭. ‬

وبالحديث‭ ‬عن‭ ‬الأشكال‭ ‬الهندسية‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬الدائرة‭ ‬حينما‭ ‬تتجسم‭ ‬تصبح‭ ‬كرة،‭ ‬والمثلث‭ ‬يصبح‭ ‬هرما،‭ ‬والمربع‭ ‬مكعبا‭ ‬وهكذا‭ .. ‬والدائرة‭ ‬أو‭ ‬الكرة‭ ‬الواحدة‭ ‬شكلا‭ ‬ومساحة‭ ‬ولونا‭ ‬إنما‭ ‬تعطى‭ ‬فروضا‭ ‬جمالية‭ ‬لانهائية،‭ ‬باختلاف‭ ‬موقعها‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بعناصر‭ ‬مختلفة‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬متنوعة‭.. ‬وهكذا‭ ‬المثلث‭ ‬والهرم‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الأشكال‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬سن‭ ‬مدبب‭ ‬وهو‭ ‬الهرم،‭ ‬لأنى‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الهرم‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬العلم‭ ‬والحضارة‭ ‬التى‭ ‬علمت‭ ‬العالم،‭ ‬هذا‭ ‬الوقوف‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬إنسان‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬هذا‭ ‬الهرم‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬التوازن،‭ ‬طارحا‭ ‬سؤال‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬سيقسط‭ ‬أو‭ ‬سيستمر‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ ‬المعطيات‭ ‬الحياتية‭ ‬التى‭ ‬يمر‭ ‬بها‭. ‬

حين‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬علم‭ ‬ترميم‭ ‬اللوحات‭ ‬الذى‭ ‬درسته‭ ‬بإسبانيا‭ ‬وصفت‭ ‬علاقة‭ ‬المرمم‭ ‬باللوحة‭ ‬وكأنها‭ ‬تشبه‭ ‬علاقة‭ ‬الطبيب‭ ‬بمريضه،‭ ‬إذا‭ ‬تركنا‭ ‬العنان‭ ‬للخيال‭ ‬وأردنا‭ ‬أن‭ ‬نضع‭  ‬توصيفا‭ ‬شبيها‭ ‬لعلاقتك‭ ‬الفنية‭  ‬باللوحة‭..‬

أثناء‭ ‬العمل‭ ‬بأى‭ ‬لوحة‭ ‬تصبح‭ ‬هى‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬حتى‭ ‬تكتمل،‭ ‬وأى‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬يكون‭ ‬ثانوي،‭ ‬حتى‭ ‬أثناء‭ ‬النوم،‭ ‬تؤرقنى‭ ‬الصورة‭ ‬ومشاكلها،‭ ‬وهناك‭ ‬مرات‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬النوم،‭  ‬ومرات‭ ‬أترك‭ ‬اللوحة‭ ‬وأذهب‭ ‬على‭ ‬أنى‭ ‬سأستكملها‭ ‬لاحقا‭ ‬وحين‭ ‬أعود‭ ‬إليها‭ ‬أجد‭ ‬أنها‭ ‬أعلنت‭ ‬اكتمالها‭ ‬،‭ ‬فقط‭ ‬تحتاج‭ ‬لإمضاء،‭ ‬فهى‭ ‬التى‭ ‬تقرر‭ ‬متى‭ ‬سأتوقف‭. ‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الباع‭ ‬الطويل‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬التصوير،‭ ‬جاءت‭ ‬تجربة‭ ‬النحت‭ ‬التى‭ ‬قدمتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معرضين‭ ‬فى‭ ‬2013‭ ‬و2015‭ ‬مكثفة‭ ‬وناضجة،‭ ‬لماذا‭ ‬تأخر‭ ‬ظهور‭ ‬النحت‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الفترة؟

لقد‭ ‬كان‭ ‬التشكيل‭ ‬المجسم‭ ‬ذو‭ ‬الثلاثة‭ ‬أبعاد‭ ‬ملحا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬منذ‭ ‬الستينات،‭ ‬كان‭ ‬بعضها‭ ‬صغير‭ ‬الحجم،‭ ‬وبعضها‭ ‬كبير‭ ‬الحجم‭.. ‬وقد‭ ‬نفذتها‭ ‬بخامة‭ ‬الجبس‭ ‬وهى‭ ‬الخامة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬متاحة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬لكن‭ ‬الأحجام‭ ‬الكبيرة‭ ‬تحطمت‭ ‬فى‭ ‬حركتها‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬بطبيعة‭ ‬الخامة‭ ‬التى‭ ‬صيغت‭ ‬فيها‭.. ‬ولأن‭ ‬بعض‭ ‬أعمال‭ ‬النحت‭ ‬الصغيرة‭ ‬التى‭ ‬نجت‭ ‬من‭ ‬التدمير‭ ‬فى‭ ‬رحلتها‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬أمام‭ ‬عينى‭ ‬فى‭ ‬مرسمى‭ ‬فكنت‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬أعود‭ ‬لأتأملها‭.. ‬ومع‭ ‬إنشاء‭ ‬مسبك‭ ‬مجهز‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬أصبح‭ ‬متاحا‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بسبك‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬بخامة‭ ‬البرونز،‭ ‬وقد‭ ‬ولدت‭ ‬الخامة‭ ‬طاقة‭ ‬كبيرة‭ ‬بداخلى‭ ‬لاستكمال‭ ‬التجربة‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬سنوات‭ ‬الانتظار‭ ‬أضافت‭ ‬تكامل‭ ‬التجربة‭ ‬وخبرتها‭ ‬إلى‭ ‬الأعمال‭ ‬النحتية‭.‬

فى‭ ‬معرضك‭ ‬السابق‭ ‬كانت‭ ‬الخامة‭ ‬بطلاً‭ ‬أساسياً‭ ‬باستخدام‭ ‬الكولاج،‭ ‬حدثنا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬وعما‭ ‬سيكشف‭ ‬عنه‭ ‬معرضك‭ ‬القادم؟

منذ‭ ‬أن‭ ‬كنت‭ ‬طالبا‭ ‬أحب‭ ‬الخامة،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬إرهاصات‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬منذ‭ ‬بواكير‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حيث‭ ‬اكتشاف‭ ‬الفروض‭ ‬الجمالية‭ ‬التى‭ ‬تطرحها‭ ‬مختلف‭ ‬عناصر‭ ‬بناء‭ ‬العمل‭ ‬التصويرى‭ ‬وعلاقتها‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الخامة‭ ‬فمنذ‭ ‬البداية‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬تحضير‭ ‬السطح‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة‭ ‬تضفى‭ ‬إليه‭ ‬ملامسا،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬مثلا‭ ‬استخدام‭ ‬البورى‭ ‬فى‭ ‬حرق‭ ‬السطح‭ ‬بما‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬لدائن‭ ‬وألوان‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬مضافة‭ ‬للسطح،‭ ‬ثم‭ ‬ورق‭ ‬الجرائد‭ ‬والمجلات‭ ‬ثم‭ ‬خامة‭ ‬نسيج‭ ‬الخيش،‭ ‬وإضافة‭ ‬أسطح‭ ‬مكتملة‭ ‬تشكيليا‭ ‬إلى‭ ‬الصورة‭.. ‬ثم‭ ‬الحديد‭ ‬والخشب‭ ‬والأسلاك‭ ‬والمسامير‭ ‬واستخدام‭ ‬أدوات‭ ‬حفر‭ ‬الخشب‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بمصاحبة‭ ‬اللون‭.. ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬المعرض‭ ‬السابق‭ ‬احتفاء‭ ‬بالخامة‭ ‬وبتوظيف‭ ‬الكولاج،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بتوظيف‭ ‬الخامات‭ ‬سابقة‭ ‬التجهيز‭ ‬من‭ ‬الأقمشة‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتنوعة‭ ‬ملمسا‭ ‬وتشكيلا‭ ‬ولونا‭.. ‬والورق‭ ‬بتنويعاته‭ ‬وألوانه‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للتجربة‭ ‬الجديدة،‭ ‬فيلعب‭ ‬فيها‭ ‬اللونان‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود‭ ‬دورا‭ ‬واضحا‭ ‬فى‭ ‬التلوين،‭ ‬كما‭ ‬تميل‭ ‬الأعمال‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬للتلخيص‭ ‬والإيجاز‭.‬

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة