أطــيــاف هارولـد بـــلوم
أطــيــاف هارولـد بـــلوم


أطــيــاف هارولـد بـــلوم : الإيمان الراسخ بقوة الأدب!

أخبار الأدب

الأحد، 04 يوليه 2021 - 03:00 م

أحمد‭ ‬الزناتى

يرتبط‭  ‬عندى‭ ‬اسم‭ ‬هارولد‭ ‬بلوم‭ ‬بثنائية‭ ‬الصبر‭ ‬والبصيرة،‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬رجلًا‭ ‬كتب‭ ‬آلاف‭ ‬الصفحات‭ ‬فى‭ ‬تحليل‭ ‬المدارس‭ ‬الأدبية‭ ‬والتنقيب‭ ‬فى‭ ‬نصوصها‭ ‬التأسيسية‭ ‬بدأبٍ‭ ‬ومثابرة‭ ‬وحب‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬سبعة‭ ‬عقود،‭ ‬كان‭ ‬ليفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بغرض‭ ‬أكل‭ ‬العيش‭ ‬أو‭ ‬الوجاهة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الظهور‭ ‬فى‭ ‬المحافل‭ ‬الأدبية‭.‬

قبل‭ ‬شهور‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬التكوين‭ ‬وبترجمة‭ ‬الدكتور‭ ‬عابد‭ ‬إسماعيل‭ ‬الترجمة‭ ‬العربية‭ ‬لكتاب‭ ‬الناقد‭ ‬والمؤرخ‭ ‬الأدبى‭ ‬الأميركى‭ ‬الأشهر‭ ‬هارولد‭ ‬بلوم‭ (‬11‭ ‬يوليو‭ ‬1930‭ ‬ذ‭ ‬14‭ ‬أكتوبر‭ ‬2019‭) ‬The Western‭ ‬Canon‭: ‬The Books and School of the Ages‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬زالتقليد‭ ‬الأدبى‭ ‬الغربي‭:  ‬مدرسة‭ ‬العصور‭ ‬وكتبها،‭ ‬وإن‭ ‬كنتُ‭ ‬أتحفّظ‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬العنوان‭ ‬بالتقليد،‭  ‬وأجتهد‭ ‬فأترجم‭ ‬مفردة‭ ‬الـ‭ ‬Canon‭ ‬بـ‭ ‬زالمعتمدس‭ ‬أو‭ ‬زالمرجــعس‭ ‬زأو‭ ‬ربما‭ ‬زالمُـغـنى‭ ‬فى‭ ‬أبواب‭ ‬الأدب‭ ‬الغربيس‭ ‬؛‭ ‬فكلمة‭ ‬Canon‭ ‬لاهوتية‭ ‬الدلالة‭ ‬فى‭ ‬الأصل،‭ ‬ومصطلح‭ ‬Biblical‭ ‬Canon‭ ‬يعنى‭ ‬سلسلة‭ ‬الأسفار‭ ‬القانونية‭ ‬المعتمدة‭ ‬التى‭ ‬أثبتتها‭ ‬المسيحية‭ ‬واليهودية‭  ‬كمكونات‭ ‬للكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬وبالتالى‭ ‬صارت‭ ‬المعيار‭ ‬المعتمد‭  ‬للممارسات‭ ‬الدينية‭. ‬

كان‭ ‬بلوم‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬أستاذ‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزى‭ ‬والدراسات‭ ‬الإنسانية‭ ‬بجامعة‭ ‬زييلس،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬بارز‭ ‬فى‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬الشعر‭ ‬الرومانسى‭ ‬والنظريات‭ ‬الجمالية‭ ‬والنقدية‭ ‬الرومانتيكية‭ ‬ضد‭ ‬التيارات‭ ‬الأخرى‭ ‬التى‭ ‬يُطلق‭ ‬عليها‭ ‬الماركسية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والنسوية‭ ‬والتفكيكية‭ ‬إلخ‭. ‬بدايةً‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1980‭ ‬تحوّل‭ ‬بلوم‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬البحتة‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبة‭ ‬عموم‭ ‬جمهور‭ ‬القُراء‭ ‬عبر‭ ‬تقديم‭ ‬مختارات‭ ‬شعرية‭ ‬وأدبية‭ ‬وتعليقات‭ ‬ثاقبة‭ ‬على‭ ‬عيون‭ ‬الأدب‭ ‬الغربى‭ ‬،‭ ‬أسفَرتْ‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬مهمة‭. ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬بالطبع‭ ‬بمكان‭ ‬مناقشة‭ ‬زسِفر‭ ‬تأسيسيس‭ ‬كهذا‭ ‬العمل‭ ‬فى‭ ‬سطور‭ ‬محدودة،‭ ‬لذلك‭ ‬سأسعى‭ ‬إلى‭ ‬إضاءة‭ ‬الأفكار‭ ‬الجوهرية‭ ‬التى‭ ‬خاطبتنى‭ ‬شخصيًا‭ ‬هنا‭ ‬وفى‭ ‬أفكار‭ ‬هارولد‭ ‬بلوم‭ ‬إجمالاً‭ ‬احتفاءً‭ ‬بذكرى‭ ‬ميلاده‭ ‬التى‭ ‬تحل‭ ‬فى‭ ‬الحادى‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭.  ‬

يدرس‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ستة‭ ‬وعشرين‭ ‬كاتبًا‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬النوستالجيا‭ (‬وهى‭ ‬نقطة‭ ‬مهمة‭ ‬سأعود‭ ‬إليها‭ ‬لاحقاً‭)‬،‭ ‬والغرض‭ ‬الأساسى‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬هـو‭ ‬فرز‭ ‬السمات‭ ‬التى‭ ‬جعلتْ‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤلفين‭ ‬يُصنفون‭ ‬داخل‭ ‬التقليد‭ (‬أو‭ ‬داخل‭ ‬المعتمد‭ ‬الأدبى‭ ‬وفق‭ ‬ترجمتى‭ ‬لعنوان‭ ‬الكتاب‭)‬،‭ ‬يُعدّ‭ ‬الكتاب‭ ‬مسحًا‭ ‬جغرافيًا‭ ‬لأمهات‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬التى‭ ‬ظهرت‭ ‬فى‭ ‬أوروبا‭ ‬وأمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬والجنوبية‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬الميلادى‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬منتقيًا‭ ‬ما‭ ‬يعتقد‭ ‬بلوم‭ ‬أنّه‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬فى‭ ‬تشكيل‭ ‬الوجدان‭ ‬الأدبي‭.  ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬فى‭ ‬المقدمة‭ ‬إلى‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يجرِ‭ ‬انتقاء‭ ‬الكُتاب‭ ‬محل‭ ‬الدراسة‭ ‬انتقاءً‭ ‬تعسفيًا‭ ‬أو‭ ‬اعتباطيًا،‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬مؤسسًا‭ ‬على‭ ‬عامليْن،‭ ‬أولهما‭ ‬سمو‭ ‬شأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكتّاب‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬التأثير‭ ‬الأدبي‭/‬الثقافى‭ ‬فى‭ ‬بلادهم،‭ ‬وثانيهما‭ ‬أنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكتّاب‭ ‬ممثّلون‭ ‬جيّدون‭ ‬لأدب‭ ‬أوطانهم‭ ‬فحاول‭ ‬اختيار‭ ‬ممثّلين‭ ‬حقيقيين‭ ‬لأدب‭ ‬كل‭ ‬ثقافة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬انتقاء‭ ‬شخصيات‭ ‬فاعلة‭ ‬صنعت‭ ‬قفزةً‭ ‬حقيقيةً‭ ‬فى‭ ‬فهم‭ ‬الأدب‭ ‬وممارسته،‭ ‬فشوسير‭ ‬وشكسبير‭ ‬وملتون‭ ‬للإنجليز،‭ ‬ودانتى‭ ‬لإيطاليا،‭ ‬وسرفنتاس‭ ‬لإسبانيا،‭ ‬وتولستوى‭ ‬لروسيا،‭ ‬وموليير‭- ‬مونتين‭ ‬لفرنسا‭ ‬وجوته‭ ‬لألمانيا‭ ‬إلخ‭. ‬يرى‭ ‬بلوم‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬علامات‭ ‬الأصالة‭ ‬أو‭ ‬الجِدّة‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬الكاتب‭ ‬يحوز‭ ‬منزلة‭ ‬عالية‭ ‬هى‭ ‬الغرابة،‭ ‬وإما‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نتمثلها‭ ‬إطلاقًا‭ ‬أو‭ ‬إنها‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬معطى‭ ‬بديهى‭ ‬تغشى‭ ‬أبصارنا‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬خصائها‭ ‬الغرائبية‭. ‬يتسائل‭ ‬بلوم‭ ‬ما‭ ‬الذى‭ ‬يجعل‭ ‬مؤلفًا‭ ‬أو‭ ‬يجعل‭ ‬أعماله‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التقليد‭ ‬المعترف‭ ‬به،‭ ‬وكان‭ ‬الجواب‭ ‬فى‭ ‬أكثر‭ ‬الأحيان‭ ‬هو‭ ‬الغرابة‭ ‬والأصالة‭ ‬الإبداعية‭ ‬التى‭ ‬إما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬تمثلّها‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تتمثلنا‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعود‭ ‬نراها‭ ‬غريبة،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬اللعبة‭ ‬لبيكيت‭. ‬حينما‭ ‬نقرأ‭ ‬عملاً‭ ‬قويًا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬نصطدم‭ ‬بالغرابة‭ ‬أو‭ ‬بدهشة‭ ‬مروّعة،‭ ‬والقاسم‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‭ ‬وفردوس‭ ‬ملتون‭ ‬المفقود‭ ‬وفاوست‭ ‬وحاج‭ ‬مراد‭ ‬وعوليس‭ ‬جيمس‭ ‬جويس‭ ‬والنشيد‭ ‬الشامل‭ ‬لنيرودا‭ ‬هو‭ ‬نزعة‭ ‬الخارق‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬جعلك‭ ‬تشعر‭ ‬بأنك‭ ‬غريب‭ ‬فى‭ ‬بيتك‭. ‬

والحقيقة‭ ‬أننى‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الموسوعية‭  ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬إلا‭ ‬تقديم‭  ‬لمعات‭ ‬من‭ ‬فصوص‭ ‬حِكَـم‭ ‬بلوم‭.  ‬اللمعة‭ ‬الأولى‭ ‬هى‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬عبقرية‭ ‬شكسبير‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬أكثر‭ ‬نقاط‭ ‬شكسبير‭ ‬غرابة‭/ ‬وأصالة‭ ‬هى‭ ‬أنه‭ ‬يسبقك‭ ‬دائماً،‭ ‬حقيقةً‭ ‬ومجازاً،‭ ‬كائناً‭ ‬من‭ ‬كنتَ‭ ‬وحيثما‭ ‬كنت‭ ‬لأن‭ ‬أفكاره‭ ‬تحتويك‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬تصنيفها‭ ‬ولا‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬أسرارها‭ ‬عبر‭ ‬مناهج‭ ‬مادية‭ ‬تاريخية‭ ‬أو‭ ‬بنيوية‭ ‬أو‭ ‬تفكيكية،‭ ‬لأنه‭ ‬سيلتهمها‭ ‬ويهضمها‭. ‬يؤكد‭ ‬بلوم‭ ‬أن‭ ‬أعظم‭ ‬كُتاب‭ ‬الغرب‭ ‬هم‭ ‬الهدّامون‭ ‬لكل‭ ‬القيم‭. ‬والنقاد‭ ‬الذين‭ ‬يحثوننا‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬مصدر‭ ‬منظومتنا‭ ‬الأخلاقية‭ ‬وفكرنا‭ ‬السياسى‭ ‬فى‭ ‬أفلاطون‭ ‬أو‭ ‬النبى‭ ‬أشعيا‭ ‬هم‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬انفصام‭ ‬حاد‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬لأننا‭ ‬إذا‭ ‬قرأنا‭ ‬التقليد‭ ‬الغربى‭ ‬سعيًا‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬قيم‭ ‬اجتماعية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬أخلاقية‭ ‬فإننا‭ ‬سنتحول‭ ‬إلى‭ ‬شياطين‭ ‬للاستغلال‭ ‬والأنانية‭.  ‬عند‭ ‬بلوم‭ ‬زهاملتس‭ ‬يتقدم‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬كله‭ ‬كنموذج‭ ‬للشخصية‭  ‬التى‭ ‬تسترق‭ ‬السمع‭ ‬إلى‭ ‬نفسها،‭ ‬هاملت‭ ‬هـو‭ ‬تجسيد‭ ‬فكرة‭ ‬الأدب،‭ ‬أن‭ ‬نصغى‭ ‬إلى‭ ‬أنفسنا‭ ‬وأن‭ ‬نتصرّف‭ ‬على‭ ‬هدى‭ ‬ما‭ ‬تعلمناه‭.  ‬يؤكد‭ ‬بلوم‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬أفضل‭ ‬الكُتاب‭ ‬مثل‭ ‬دانتى‭ ‬وهوميروس‭ ‬وتولستوى‭ ‬لن‭ ‬تجعل‭ ‬منا‭ ‬مواطنيين‭ ‬أفضل‭ ‬أو‭ ‬أسوء،‭ ‬فالفنّ‭ ‬لا‭ ‬نفع‭ ‬منه‭ ‬البتة‭ ‬وفق‭ ‬تعبير‭ ‬أوسكار‭ ‬وايلد،‭ ‬والجمال‭ ‬هاجس‭ ‬فردى‭ ‬وليس‭ ‬اجتماعيًا‭. ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬التقليد‭ ‬الغربى‭ ‬منحنا‭ ‬إياه‭ ‬وفق‭ ‬كلمات‭ ‬بلوم‭ ‬هو‭ ‬استخدامنا‭ ‬المناسب‭ ‬لعزلتنا،‭ ‬تلك‭ ‬العزلة‭ ‬التى‭ ‬تأخذ‭ ‬صيغتها‭ ‬النهائية‭ ‬فى‭ ‬كيفية‭ ‬مواجهة‭ ‬المرء‭ ‬لفنائـه‭.  ‬يبتكر‭ ‬بلوم‭ ‬معيارًا‭ ‬لطيفًا‭ ‬للعمل‭ ‬المؤهل‭ ‬ضمّه‭ ‬إلى‭ ‬الـConon‭ ‬فيقول‭:‬س‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬إعادة‭ ‬القراءة،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يتأهلس‭.  ‬قراءة‭ ‬الأدب‭ ‬بحسب‭ ‬بلوم‭ ‬ستجعلنا‭ ‬كيف‭ ‬نسترق‭ ‬السمع‭ ‬إلى‭ ‬ذواتنا‭ ‬حين‭ ‬نتحدث‭ ‬مع‭ ‬أنفسنا،‭ ‬وتبعًا‭ ‬لذلك‭ ‬يمكن‭ ‬للأدب‭ ‬العظيم‭ ‬أن‭ ‬يعلمنا‭ ‬كيف‭ ‬نقبل‭ ‬التغيير‭ ‬فى‭ ‬نفوسنا‭ ‬وفى‭ ‬نفوس‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬نقبل‭ ‬الشكل‭ ‬النهائى‭ ‬للتغيير،‭ ‬ربما‭ ‬يقصد‭ ‬تغيير‭ ‬الأحبة‭ ‬والأصدقاء‭ ‬برحيلهم‭ ‬أو‭ ‬تبدّل‭ ‬نفوسهم‭ ‬ومشاعرهم‭ ‬حيالنا،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يتبدّلون‭ ‬فى‭ ‬حياتنا‭.   ‬

يشدد‭ ‬بلوم‭ ‬فى‭ ‬نقطة‭ ‬أخرى‭ ‬استرعت‭ ‬انتباهى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬العظيمة‭ ‬هى‭ ‬دوماً‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬الكتابة‭ ‬والتنقيح‭ ‬وأنها‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬تفسح‭ ‬أفقًا‭ ‬للذات‭ ‬لكى‭ ‬تنوجد،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تعيد‭ ‬فتح‭ ‬أعمال‭ ‬قديمة‭ ‬أمام‭ ‬زأوجاعنا‭ ‬الجديدةس،‭ ‬وأصحاب‭ ‬الأصالة‭ ‬ليسوا‭ ‬أصليين‭ ‬تماماً‭ (‬مثلما‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يُقال‭ ‬عن‭ ‬بورخيس‭ ‬إنه‭ ‬أصيل‭ ‬فى‭ ‬لا‭ ‬أصالته‭ ‬وفى‭ ‬استعارته‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭).    ‬كاتب‭ ‬المقالات‭ ‬الأميركى‭ ‬رالف‭ ‬والدو‭ ‬إمرسون‭ - ‬الذى‭ ‬تعرفتُ‭ ‬عليه‭ ‬مؤخراً‭ ‬عبر‭ ‬بلوم‭ -  ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬فى‭ ‬مقالاته‭ (‬ولها‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬ممتازة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬هنداوي‭) ‬إن‭ ‬الكاتب‭ ‬الخلّاق‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يستعير‭ ‬وإن‭ ‬كل‭ ‬أدب‭ ‬أصيل‭ ‬ينقل‭ ‬عن‭ ‬أسلافه‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬التغيير‭. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬المتأمل‭ ‬للإنتاج‭ ‬الأدبى‭ ‬لجيل‭ ‬الكِبار‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي،‭ ‬لو‭ ‬أخذنا‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬نموذجاً‭ ‬للقياس،‭ ‬سيتأكد‭ ‬من‭ ‬صدق‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭. ‬فما‭ ‬ثلاثية‭ ‬ج‭. ‬م‭. ‬كوتسى‭ ‬الرمزية‭ ‬الأخيرة‭ ‬ذمثلاً‭- (‬طفولة‭ ‬جيسوس‭ ‬ذ‭ ‬أيام‭ ‬جيسوس‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬ذ‭ ‬موت‭ ‬جيسوس‭) ‬أو‭ ‬النوفيلات‭ ‬الأخيرة‭  ‬للألمانى‭ ‬مارتن‭ ‬فالزر‭ ‬أو‭ ‬نوفيلات‭ ‬الفرنسى‭ ‬باتريك‭ ‬موديانو‭ ‬وغيرها‭ ‬سوى‭ ‬تنويعات‭ ‬على‭ ‬ألحان‭ ‬الكيخوته‭ ‬وكارامازف‭ ‬ونصوص‭ ‬كافكا‭ ‬وبيكيت‭ ‬وبروست‭ ‬وبلانشو‭ ‬والكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬واعترافات‭ ‬أوغسطين،‭ ‬وكأن‭ ‬أدباء‭ ‬نوبل‭ ‬الأكابر‭ ‬فهموا‭ ‬زأول‭ ‬الحدوتة‭ ‬وآخرهاس،‭ ‬وأدركوا‭ ‬بتواضعٍ‭ ‬يليق‭ ‬بقدرِهم‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬انتهى‭ ‬وأن‭ ‬إنجازهم‭ ‬بات‭ ‬محصوراً‭ ‬فى‭ ‬صوغ‭ ‬نصوص‭ ‬الـCanon‭ ‬بما‭ ‬ينتاسب‭ ‬مع‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬ومع‭ ‬آلامهم‭ ‬الشخصية‭. ‬لكن‭ ‬قوّتهم‭ ‬فى‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬نهباً‭ ‬للقلق،‭ ‬لأن‭ ‬قلق‭ ‬التأثير‭ = ‬Anxiety of Influence‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬بلوم‭ ‬المبكر‭ ‬يشلّ‭ ‬المواهب‭ ‬الضعيفة‭ ‬وحدها،‭ ‬بينما‭ ‬يحرض‭ ‬المواهب‭ ‬الأصيلة‭ ‬ويلهمها‭. ‬فالرواية‭ ‬القوية‭ ‬مُجبرة‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬التشكّل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬عمل‭ ‬الأسلاف‭. ‬

‭>>>‬

نتعلم‭ ‬من‭ ‬بلوم‭ ‬أن‭ ‬اختيار‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬محل‭ ‬القراءة‭ ‬أمـر‭ ‬انتقائى‭ ‬ومتحيّز‭ ‬بطبعه،‭ ‬لذلك‭ ‬سأعرض‭ ‬بإيجاز‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬بلوم‭ ‬لثلاثة‭ ‬كُتّاب‭ ‬بدأت‭ ‬فى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬نصوصهم‭ ‬مؤخراً‭ ‬لإعادة‭ ‬كتشافها‭: ‬جـوته‭ ‬وكافكا‭ ‬وبيكيت‭.‬

جوته‭ ‬فى‭ ‬نظر‭ ‬بلوم‭ ‬هو‭ ‬النموذج‭ ‬الكامل‭ ‬والأخير‭ ‬للثقافة‭ ‬الأدبية‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬هوميروس‭ ‬عبر‭ ‬فرجيل‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬دانتي،‭ ‬وهو‭ ‬كاتب‭ ‬يمتلك‭ ‬طاقة‭ ‬شيطانية‭ . ‬لم‭ ‬يوضح‭ ‬بلوم‭ ‬مغزى‭ ‬كلمة‭ ‬زشيطانيةس،‭ ‬لكنى‭ ‬عثرتُ‭ ‬على‭ ‬تفسير‭ ‬جوته‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬محاوراته‭ ‬مع‭ ‬إيكرمان‭ ( ‬جزء‭ ‬2،‭ ‬ت‭: ‬إبراهيم‭ ‬جار‭ ‬الله،‭ ‬الرافدين‭ ‬2021‭) ‬بقوله‭:‬س‭ ‬كل‭ ‬فعل‭ ‬شيطانى‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬شرحه‭ ‬بالمنطق‭ ‬أو‭ ‬الإدراكس،‭ ‬وعندما‭ ‬سأله‭ ‬إيكرمان‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬ميفيستوليس‭ ‬سمات‭ ‬شيطانية،‭ ‬فنفى‭ ‬عنه‭ ‬جوته‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭ ‬إنه‭ ‬كائن‭ ‬سلبى‭ ‬والشيطان‭ ‬يظهر‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬الكائنات‭ ‬ذات‭ ‬القوة‭ ‬النشطة‭.  ‬كان‭ ‬الشيطان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يحرّك‭ ‬حياته‭ ‬يونج‭ ‬أيضًا،‭ ‬ففى‭ ‬فى‭ ‬الصفحات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬مذكراته‭ ‬استعمل‭ ‬يونج‭ ‬التعبير‭ ‬نفسه،‭ ‬لعله‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬شيطان‭ ‬الإبداع‭ ‬أو‭ ‬شيطان‭ ‬نفسه‭. ‬لغز‭ ‬جوته‭ ‬كان‭ ‬يكمن‭ ‬فى‭ ‬غموض‭ ‬شخصيته،‭ ‬فى‭ ‬تناقض‭ ‬ما‭ ‬يؤمن‭ ‬به‭ ‬ولكن‭ ‬عبقريته‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬المؤالفة‭ ‬بين‭ ‬الأضداد‭ ‬داخل‭ ‬نفسه‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬يستشعر‭ ‬الرجل‭ ‬معاناة‭ ‬فى‭ ‬اشتماله‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬ونقيضه‭.  ‬فالمؤمن‭ ‬الوحيد‭ ‬بوجود‭ ‬الله‭ ‬فى‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬مسرحية‭ ‬زفاوستس‭ ‬كان‭ ‬ميفيستوليس‭/‬إبليس‭ ‬نفسه،‭ ‬أما‭ ‬فاوست‭ ‬وهو‭ ‬ظلّ‭ ‬الشاعر‭ ‬جـوته‭ ‬فيتنبأ‭ ‬بظهور‭ ‬فكر‭ ‬نيتشه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حثّنا‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬فى‭ ‬الأرض،‭ ‬وليس‭ ‬فى‭ ‬سلطة‭ ‬روحية‭ ‬عليا‭ (‬ص‭ ‬244‭).  ‬جـوته‭ ‬هو‭ ‬الشهوانى‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقوى‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أفخاذ‭ ‬النساء،‭ ‬وهو‭ ‬الصوفى‭ ‬الورِع‭ ‬العاشق‭ ‬لأشعار‭ ‬حافظ‭ ‬الشيرازى‭ ‬والتصوف‭ ‬الإسلامي‭.‬

أما‭ ‬عند‭ ‬كافكا‭ ‬فيطرح‭ ‬بلوم‭ ‬ملاحظة‭ ‬شائقة‭ ‬مؤداها‭ ‬أن‭ ‬كافكا‭ ‬كان‭ ‬حكيماً‭ ‬عظيماً،‭ ‬وليس‭ ‬كاتب‭ ‬قصّة‭ ‬صرفًا،‭ ‬باستثناء‭ ‬بعض‭ ‬الشذرات‭ ‬والقصص‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‭ ‬التى‭ ‬هى‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الأمثولات‭ ‬الرمزية،‭ ‬فروايات‭ ‬كافكا‭ ‬الطويلة‭ (‬المحاكمة‭ ‬ذ‭ ‬القلعة‭ ‬ذ‭ ‬أميركا‭) ‬تبدأ‭ ‬ذكية‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تنتهى‭ ‬كذلك‭. ‬أقوى‭ ‬نصوص‭ ‬كافكا‭ ‬بحسب‭ ‬بلوم‭ ‬كامنة‭ ‬فى‭ ‬الشذرات‭ ‬والحكايات‭ ‬الموجزة‭ ‬مثل‭ ‬طبيب‭ ‬ريفى‭ ‬والصياد‭ ‬جراكوس‭ ‬وسور‭ ‬الصين‭ ‬العظيم‭ ‬وشذراته‭ ‬المبثوثة‭ ‬فى‭ ‬اليوميات‭. ‬كما‭ ‬يلاحظ‭ ‬بلوم‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬المحاولات‭ ‬النقدية‭ ‬الجادة‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل‭ ‬أمام‭ ‬حائط‭ ‬كافكا،‭ ‬فكل‭ ‬رمز‭ ‬يقدمه‭ ‬إلينا‭ ‬كافكا‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬ففى‭ ‬إحدى‭ ‬قصصه‭ ‬الأخيرة‭ ‬بعنوان‭ ‬تحريات‭ ‬كلب‭ ‬يبلغ‭ ‬السرد‭ ‬ذروته‭ ‬الخارقة‭ ‬عندما‭ ‬يكشف‭ ‬كلب‭ ‬صيد‭ ‬جميل‭ ‬نفسه‭ ‬للراوي،‭ ‬وهو‭ ‬كلب‭ ‬مسكين‭ ‬يستلقى‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬مضرجاً‭ ‬فى‭ ‬دمائه‭. ‬يقول‭ ‬بلوم‭ ‬إن‭ ‬أحد‭ ‬النقاد‭ ‬امتلك‭ ‬الجرأة‭ ‬يوماً‭ ‬ليقول‭ ‬إن‭ ‬كلب‭ ‬الصيد‭ ‬الجميل‭ ‬هو‭ ‬رمز‭ ‬لله،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التأويل‭ ‬هو‭ ‬الفخّ‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬ينصبه‭ ‬كافكا‭ ‬بسخرية‭ ‬للجميع،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ورائي‭/‬غيبى‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬كافكا‭ ‬هو‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬ألوان‭ ‬السخرية‭ ‬اللاذعة‭. ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬ورائى‭ ‬عند‭ ‬كافكا،‭ ‬لأنه‭ ‬حول‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬دين‭. ‬أما‭ ‬صمويل‭ ‬بيكيت‭ ‬فهـو‭ ‬آخر‭ ‬المراجع‭ ‬العِظام‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي،‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬بلوم‭ ‬صراحةً‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬انتهى‭ ‬عند‭ ‬بيكيت،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يُدخل‭ ‬أحداً‭ ‬بعده‭ ‬إلى‭ ‬الـ‭ ‬Canon‭. ‬يرصد‭ ‬بلوم‭ ‬تأثّر‭ ‬بيكيت‭ ‬الواضح‭ ‬بصديقه‭ ‬وأستاذه‭ ‬جيمس‭ ‬جويس،‭ ‬كانا‭ ‬يجلسان‭ ‬كتفاً‭ ‬بكتف‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتبادلا‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬كلاهما‭ ‬مفعم‭ ‬بالحزن؛‭ ‬جويس‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬وبيكيت‭ ‬من‭ ‬نفسه‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بيكيت‭ ‬تخلص‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬جويس‭ ‬أسلوبياً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شرع‭ ‬فى‭ ‬ترجمة‭ ‬أعماله‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسية‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬منشغلاً‭ ‬بمارسيل‭ ‬بروست‭. ‬بيكيت‭ ‬إنسان‭ ‬متواضع‭ ‬وطيب‭ ‬ولطيف‭ ‬مثل‭ ‬أى‭ ‬كاتب‭ ‬قوي،‭ ‬لكنه‭ ‬مشغول‭ ‬بذاته،‭ ‬وهو‭ ‬ككاتبٍ‭ ‬عانى‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الجميع،‭  ‬وكلما‭ ‬كانت‭ ‬الكاتب‭ ‬أقوى‭ ‬كانت‭ ‬معاناته‭ ‬أكبر‭ ‬وبيكيت‭ ‬كان‭ ‬كاتباً‭ ‬قوياً،‭ ‬ربما‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬بورخيس‭ ‬وتوماس‭ ‬بينشون‭ ‬وفق‭ ‬كلام‭ ‬بلوم‭ ‬وهو‭ ‬ذ‭ ‬أسلوبياً‭- ‬متكلّف‭ ‬مغرور‭ ‬أدبياً‭ ‬مثل‭ ‬جويس،‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬قارئه‭ ‬يعرف‭ ‬دانتى‭ ‬وشكسبير‭ ‬وفلوبير‭ ‬وييتس‭. ‬عبقريته‭ ‬الأساسية‭ ‬فى‭ ‬مسرحِه،‭ ‬لا‭ ‬يضارعه‭ ‬بريشت‭ ‬ولا‭ ‬بيرانديللو‭ ‬ولا‭ ‬لوركا‭.  ‬مسرحية‭ ‬زنهاية‭ ‬اللعبةس‭ ‬هى‭ ‬أعظم‭ ‬إنتاج‭ ‬مسرحى‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

يقول‭ ‬بلوم‭:‬س‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬بيكيت‭ ‬قد‭ ‬أقسم‭ ‬كذباً‭ ‬أن‭ ‬التفوق‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ممكناً‭ ‬بعد‭ ‬جويس‭ ‬وبروست،‭ ‬لكن‭ ‬مسرحية‭ ‬نهاية‭ ‬اللعبة‭ ‬حققت‭ ‬ذلك‭ ‬التفوقس‭. ‬بينما‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬فقرة‭ ‬فى‭ ‬رواية‭ ‬زمولويس‭ ‬هى‭ ‬أقوى‭ ‬جُملة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬المعاصر؛‭ ‬جملة‭ ‬الصوت‭ ‬الذى‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬السارد‭ ‬كتابة‭ ‬التقرير‭. ‬

‭>>>‬

ستة‭ ‬وعشرون‭ ‬كاتباً‭ ‬أمضى‭ ‬معهم‭  ‬بلوم‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭ ‬تقريباً‭ ‬قارئًا‭ ‬فى‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬ثم‭ ‬مناقشًا‭ ‬ومُعلقًا‭ ‬وشارحاً‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬هى‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الموسوعات‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ضخامتها‭ ‬وشمول‭ ‬مادتها‭. ‬هل‭ ‬ثمـّة‭ ‬سـرّ‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬هذا‭ ‬الشغف؟‭  ‬يحكى‭ ‬بلوم‭ ‬أن‭ ‬الشغف‭ ‬بالقراءة‭ ‬بدأ‭ ‬مبكراً‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬المطبخ‭ ‬تحت‭ ‬قدمى‭ ‬أمـه‭ ‬وهى‭ ‬تطهو‭ ‬طعام‭ ‬السبت‭ ‬ويواصل‭ ‬القراءة‭ ‬وهى‭ ‬تتعثّر‭ ‬فيه‭ ‬أثناء‭ ‬حركتها‭ ‬حافية‭ ‬القدمين‭ ‬فتربّت‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬أحياناً‭ ‬ويشعر‭ ‬بطاقة‭ ‬قوية‭ ‬ودفء‭ ‬غامر،‭ ‬لم‭ ‬ينسَ‭ ‬بلوم‭ ‬كلمة‭ ‬مما‭ ‬قرأه‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬أسفل‭ ‬قدميها،‭ ‬ولما‭ ‬ماتت‭ ‬شعرُ‭ ‬بألم‭ ‬عظيم،‭ ‬ولم‭ ‬تواسِه‭ ‬إلا‭ ‬ذكرى‭ ‬النصوص‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬يقرؤها‭ ‬فى‭ ‬المطبخ‭.‬

وفق‭ ‬نيتشه‭ ‬لا‭ ‬تنبع‭ ‬الأعمال‭ ‬العظيمة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬عظيم‭ ‬ولا‭ ‬تبتغى‭ ‬إلا‭ ‬تسليح‭ ‬الإنسان‭ ‬بأسلحة‭ ‬خفيفة‭ ‬لمواجهة‭ ‬أشباح‭ ‬الموت‭ ‬واليأس‭ ‬واللا‭ ‬جدوى‭ ‬والشيخوخة‭. ‬أسأل‭ ‬نفسى‭ ‬أحيانًا‭ ‬ما‭ ‬الدافع‭ ‬وراء‭ ‬تكرار‭ ‬إشارة‭ ‬بلوم‭ ‬ونقله‭ ‬النوستالجى‭ ‬عن‭ ‬شُعراء‭ ‬وكُتّاب‭ ‬بعينهم‭ ‬والاقتباس‭ ‬عنهم‭ ‬حتى‭ ‬وهـو‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬الموت‭.   ‬فى‭ ‬يوليو‭ ‬سنة‭ ‬2018‭ ‬وقبل‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬وفاته‭ ‬أُجرى‭ ‬مع‭ ‬بلوم‭ ‬حوار‭ ‬قصير،‭ ‬متاح‭ ‬على‭ ‬قناة‭ ‬يوتيوب‭ ‬بعنوان‭  ‬Saving Literature with Harold Bloom،‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬وقتها‭ ‬فى‭ ‬أواخر‭ ‬أيامه،‭ ‬وكان‭ ‬يتحدّث‭ ‬برأس‭ ‬مُنكسّةٍ‭ ‬وبكلمات‭ ‬تخرج‭ ‬بشقّ‭ ‬الأنفس‭. ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬بدا‭ ‬صوته‭ ‬متعبًا‭ ‬متهدجًا،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬الأميركى‭ ‬والاس‭ ‬ستيفنس‭ ‬حتى‭ ‬تلبسّت‭ ‬الرجل‭ ‬روح‭ ‬الشعر‭ ‬وارتفع‭ ‬صوته‭ ‬قويًا‭ ‬صادحًا‭ ‬منتشيًا‭ ‬بتلاوة‭ ‬ما‭ ‬تيسّر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬ستيفنس‭ (‬شاى‭ ‬فى‭ ‬الساحة‭ ‬العامة‭ ‬لـ‭ ‬هوون‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬مغمض‭ ‬العينينذ‭ ‬وكأنه‭ ‬ينادى‭ ‬ربّه‭ ‬نداءً‭ ‬خفيًا‭-:‬‭ (‬كنتُ‭ ‬أنا‭ ‬العالم‭ ‬حيثما‭ ‬مشيت،‭ ‬وما‭ ‬رأيتُه‭ ‬وسمعته‭ ‬وأحسسته،لم‭ ‬ينبثق‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬ذاتي‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬علّق‭ ‬على‭ ‬الشطر‭ ‬الأخير‭ ‬المتصل‭ ‬بوالت‭ ‬ويتمان‭ (‬لحيته‭ ‬شواظ‭ ‬من‭ ‬نار‭ ‬وعصاه‭ ‬شعلة‭ ‬قافزة‭) ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬هيئة‭ ‬ويتمان‭ ‬فى‭ ‬القصيدة‭ ‬هى‭ ‬أشبه‭ ‬بهيئة‭ ‬النبى‭ ‬موسى‭ ‬وشقيقه‭ ‬النبى‭ ‬هارون‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬

فى‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬يوميات‭ ‬فيتولد‭ ‬جومبروفيتش‭ ‬عبارة‭ ‬لم‭ ‬أنسَها‭ ‬يوماً‭: ‬زالإيمان‭ ‬بقوة‭ ‬الإيمان‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬ز‭ ‬هذا‭ ‬هـو‭ ‬بيت‭ ‬القصيد،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬رتق‭ ‬ثقوب‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشيخ‭ ‬بلوم‭ ‬وهو‭ ‬يدنو‭ ‬من‭ ‬التسعين،‭ ‬أقصد‭ ‬إيمانه‭ ‬الراسخ‭ ‬بقوة‭ ‬الأدب،‭ ‬وهذا‭ ‬أيضًا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬حفظ‭ ‬له‭ ‬توازنه‭ ‬وأنار‭ ‬له‭ ‬بصيرته‭ ‬وهو‭ ‬يتنقلّ‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬ذ‭ ‬وفق‭ ‬كلامه‭- ‬بين‭ ‬المراكز‭ ‬الطبية‭ ‬ومراكز‭ ‬التأهيل‭ ‬لعلاج‭ ‬ابنه‭ ‬المُعاق‭ ‬بسبب‭ ‬إصابته‭ ‬بالشيزوفرينيا‭. ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬سابق‭ ‬قال‭ ‬بلوم‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يجد‭ ‬السلوان‭ ‬من‭ ‬آلامه‭ ‬النفسية‭ ‬بسبب‭ ‬حالة‭ ‬ابنه‭ ‬فى‭ ‬قصائد‭ ‬هارت‭ ‬كرين‭ ‬ووالت‭ ‬ويتمان‭ ‬ووالاس‭ ‬ستيفنس‭. ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬الكـتب‭ ‬كثيرة‭ ‬وأن‭ ‬كـمّ‭ ‬الروايات‭ ‬الصادرة‭ ‬صباحًا‭ ‬يفوق‭ ‬كمّ‭ ‬ما‭ ‬يُـقذف‭ ‬فى‭ ‬الأرحام‭ ‬ليلًا،‭ ‬المهم‭ ‬الجُملة‭ ‬الحلوة‭.                                   ‬

‭>>>‬

لـ‭ ‬زبلومس‭ ‬كتاب‭ ‬مهم‭ ‬اسمه‭  ‬Where Wisdom Shall Be Found‭? ‬والعنوان‭ ‬مُقتبس‭ ‬من‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ (‬سِـفر‭ ‬أيوب‭ ‬28:12‭) ‬تقول‭: ‬زأما‭ ‬الحكمة‭ ‬فأين‭ ‬توجد؟س‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يتوفّر‭ ‬الوقت‭ ‬لعرضه‭  ‬وترجمة‭ ‬فقرات‭ ‬منه‭ ‬يوماً،‭ ‬يقدم‭ ‬فيه‭ ‬بلوم‭ ‬مختارات‭ ‬من‭ ‬أدب‭ ‬الحكمة‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬إيمرسون‭ ‬وكيركجارد،‭ ‬أودّ‭ ‬أن‭ ‬أنقل‭ ‬منه‭ ‬الفقرة‭ ‬التالية‭:‬

‭(..‬وأما‭ ‬كتابى‭ ‬زأما‭ ‬الحكمة‭ ‬فأين‭ ‬توجد؟‭ ‬ز‭ ‬فينطلق‭ ‬من‭ ‬احتياج‭ ‬شخصى‭ ‬كما‭ ‬يعكس‭ ‬التوق‭ ‬إلى‭ ‬استلهام‭ ‬الاستنارة‭ ‬التى‭ ‬تواسى‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬همومه‭ ‬وإجلاء‭ ‬بصيرته‭ ‬عند‭ ‬مواجهة‭ ‬أزمات‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬الشيخوخة،‭ ‬وعونه‭ ‬على‭ ‬التعافى‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬وتربّت‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭ ‬لتخطّى‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬من‭ ‬مغبة‭ ‬فقدان‭ ‬الأحبة‭ ‬والأصدقاء‭. ‬ربما‭ ‬تشوّش‭ ‬طغيان‭ ‬الضغوط‭ ‬المجتمعية‭ ‬والتقاليع‭ ‬الصحفية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الوقت،‭ ‬لكن‭ ‬الأدب‭ ‬العابر‭ ‬المؤقت‭ ‬لا‭ ‬يدوم‭ ‬أبد‭ ‬الدهر‭. ‬فالعقل‭ ‬ما‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬حاجته‭ ‬الماسّة‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ ‬وإلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬وإلى‭ ‬البصيرة‭. ‬فالمسيحيون‭ ‬الذين‭ ‬قبلوا‭ ‬يسوع،‭ ‬والمسلمون‭ ‬الذين‭ ‬أسلموا‭ ‬وجوههم‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬واليهود‭ ‬الواثقون‭ ‬بوعد‭ ‬الله‭ ‬لديهم‭ ‬معاييرهم‭ ‬الخاصة‭ ‬بمفهوم‭ ‬الحكمة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬كل‭ ‬عقيدة‭ ‬عليهم‭ ‬إدراك‭ ‬مبادئهم‭ ‬بطريقة‭ ‬فردية‭ ‬لو‭ ‬أرادوا‭ ‬لكلمات‭ ‬الله‭ ‬حقًا‭ ‬أن‭ ‬تنير‭ ‬بصيرتهم‭ ‬وأن‭ ‬تشرح‭ ‬صدورهم‭).‬

 

نـُدرة‭ ‬هم‭ ‬المفكّرون‭ ‬الذين‭ ‬يستمدّون‭ ‬قوتهم‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬تنوع‭ ‬اطلاعهم‭ ‬وسِعة‭ ‬معرفتهم،‭ ‬لكن‭ ‬قوتهم‭ ‬الحقيقة‭ ‬فى‭ ‬تقديرى‭ ‬تزداد‭ ‬حضورًا‭ ‬وبريقًا‭ ‬بعد‭ ‬رحيلهم،‭ ‬فى‭ ‬اللحظة‭ ‬التى‭ ‬تتحوّل‭ ‬أفكارهم‭ ‬فيهاس‭ ‬إلى‭ ‬أطياف‭ ‬مشُرقة‭ ‬تنير‭ ‬طريق‭ ‬قارئها‭ ‬كما‭ ‬أنارت‭ ‬طريق‭ ‬كاتبها‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة