أطــيــاف هارولـد بـــلوم
أطــيــاف هارولـد بـــلوم : الإيمان الراسخ بقوة الأدب!
الأحد، 04 يوليه 2021 - 03:00 م
أحمد الزناتى
يرتبط عندى اسم هارولد بلوم بثنائية الصبر والبصيرة، لا أظن أن رجلًا كتب آلاف الصفحات فى تحليل المدارس الأدبية والتنقيب فى نصوصها التأسيسية بدأبٍ ومثابرة وحب على مدار سبعة عقود، كان ليفعل ذلك بغرض أكل العيش أو الوجاهة الأكاديمية أو حتى الظهور فى المحافل الأدبية.
قبل شهور صدرت عن دار التكوين وبترجمة الدكتور عابد إسماعيل الترجمة العربية لكتاب الناقد والمؤرخ الأدبى الأميركى الأشهر هارولد بلوم (11 يوليو 1930 ذ 14 أكتوبر 2019) The Western Canon: The Books and School of the Ages تحت عنوان زالتقليد الأدبى الغربي: مدرسة العصور وكتبها، وإن كنتُ أتحفّظ على ترجمة العنوان بالتقليد، وأجتهد فأترجم مفردة الـ Canon بـ زالمعتمدس أو زالمرجــعس زأو ربما زالمُـغـنى فى أبواب الأدب الغربيس ؛ فكلمة Canon لاهوتية الدلالة فى الأصل، ومصطلح Biblical Canon يعنى سلسلة الأسفار القانونية المعتمدة التى أثبتتها المسيحية واليهودية كمكونات للكتاب المقدس، وبالتالى صارت المعيار المعتمد للممارسات الدينية.
كان بلوم يشغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزى والدراسات الإنسانية بجامعة زييلس، وكان له دور بارز فى الدفاع عن حركة الشعر الرومانسى والنظريات الجمالية والنقدية الرومانتيكية ضد التيارات الأخرى التى يُطلق عليها الماركسية والتاريخية والنسوية والتفكيكية إلخ. بدايةً من سنة 1980 تحوّل بلوم من الكتابة الأكاديمية البحتة إلى مخاطبة عموم جمهور القُراء عبر تقديم مختارات شعرية وأدبية وتعليقات ثاقبة على عيون الأدب الغربى ، أسفَرتْ عن أعمال مهمة. من الصعوبة بالطبع بمكان مناقشة زسِفر تأسيسيس كهذا العمل فى سطور محدودة، لذلك سأسعى إلى إضاءة الأفكار الجوهرية التى خاطبتنى شخصيًا هنا وفى أفكار هارولد بلوم إجمالاً احتفاءً بذكرى ميلاده التى تحل فى الحادى عشر من شهر يوليو.
يدرس هذا الكتاب ستة وعشرين كاتبًا من منظور لا يخلو من النوستالجيا (وهى نقطة مهمة سأعود إليها لاحقاً)، والغرض الأساسى من العمل هـو فرز السمات التى جعلتْ هؤلاء المؤلفين يُصنفون داخل التقليد (أو داخل المعتمد الأدبى وفق ترجمتى لعنوان الكتاب)، يُعدّ الكتاب مسحًا جغرافيًا لأمهات الأعمال الأدبية التى ظهرت فى أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية منذ القرن الرابع عشر الميلادى حتى القرن العشرين، منتقيًا ما يعتقد بلوم أنّه علامة فارقة فى تشكيل الوجدان الأدبي. كما يشير فى المقدمة إلى أنّه لم يجرِ انتقاء الكُتاب محل الدراسة انتقاءً تعسفيًا أو اعتباطيًا، بل جاء مؤسسًا على عامليْن، أولهما سمو شأن هؤلاء الكتّاب من ناحية التأثير الأدبي/الثقافى فى بلادهم، وثانيهما أنّ هؤلاء الكتّاب ممثّلون جيّدون لأدب أوطانهم فحاول اختيار ممثّلين حقيقيين لأدب كل ثقافة من خلال انتقاء شخصيات فاعلة صنعت قفزةً حقيقيةً فى فهم الأدب وممارسته، فشوسير وشكسبير وملتون للإنجليز، ودانتى لإيطاليا، وسرفنتاس لإسبانيا، وتولستوى لروسيا، وموليير- مونتين لفرنسا وجوته لألمانيا إلخ. يرى بلوم أن إحدى علامات الأصالة أو الجِدّة التى تجعل الكاتب يحوز منزلة عالية هى الغرابة، وإما أننا لا نتمثلها إطلاقًا أو إنها تتحول إلى معطى بديهى تغشى أبصارنا عن رؤية خصائها الغرائبية. يتسائل بلوم ما الذى يجعل مؤلفًا أو يجعل أعماله جزءًا من التقليد المعترف به، وكان الجواب فى أكثر الأحيان هو الغرابة والأصالة الإبداعية التى إما أنها لا يُمكن تمثلّها أو أنها تتمثلنا لدرجة أننا لا نعود نراها غريبة، بداية من الكوميديا الإلهية وصولًا إلى نهاية اللعبة لبيكيت. حينما نقرأ عملاً قويًا للمرة الأولى نصطدم بالغرابة أو بدهشة مروّعة، والقاسم المشترك بين الكوميديا الإلهية وفردوس ملتون المفقود وفاوست وحاج مراد وعوليس جيمس جويس والنشيد الشامل لنيرودا هو نزعة الخارق والقدرة على جعلك تشعر بأنك غريب فى بيتك.
والحقيقة أننى أمام هذا النوع من الكتب الموسوعية لا أملك إلا تقديم لمعات من فصوص حِكَـم بلوم. اللمعة الأولى هى حديثه عن عبقرية شكسبير فيقول إن أكثر نقاط شكسبير غرابة/ وأصالة هى أنه يسبقك دائماً، حقيقةً ومجازاً، كائناً من كنتَ وحيثما كنت لأن أفكاره تحتويك ولا تستطيع تصنيفها ولا الكشف عن أسرارها عبر مناهج مادية تاريخية أو بنيوية أو تفكيكية، لأنه سيلتهمها ويهضمها. يؤكد بلوم أن أعظم كُتاب الغرب هم الهدّامون لكل القيم. والنقاد الذين يحثوننا على إيجاد مصدر منظومتنا الأخلاقية وفكرنا السياسى فى أفلاطون أو النبى أشعيا هم فى حالة انفصام حاد عن الواقع، لأننا إذا قرأنا التقليد الغربى سعيًا إلى تشكيل قيم اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية فإننا سنتحول إلى شياطين للاستغلال والأنانية. عند بلوم زهاملتس يتقدم الشخصيات الروائية فى الأدب كله كنموذج للشخصية التى تسترق السمع إلى نفسها، هاملت هـو تجسيد فكرة الأدب، أن نصغى إلى أنفسنا وأن نتصرّف على هدى ما تعلمناه. يؤكد بلوم على قراءة أفضل الكُتاب مثل دانتى وهوميروس وتولستوى لن تجعل منا مواطنيين أفضل أو أسوء، فالفنّ لا نفع منه البتة وفق تعبير أوسكار وايلد، والجمال هاجس فردى وليس اجتماعيًا. وكل ما يستطيع التقليد الغربى منحنا إياه وفق كلمات بلوم هو استخدامنا المناسب لعزلتنا، تلك العزلة التى تأخذ صيغتها النهائية فى كيفية مواجهة المرء لفنائـه. يبتكر بلوم معيارًا لطيفًا للعمل المؤهل ضمّه إلى الـConon فيقول:س إذا كان العمل لا يحتمل إعادة القراءة، فإنه لا يستحق أن يتأهلس. قراءة الأدب بحسب بلوم ستجعلنا كيف نسترق السمع إلى ذواتنا حين نتحدث مع أنفسنا، وتبعًا لذلك يمكن للأدب العظيم أن يعلمنا كيف نقبل التغيير فى نفوسنا وفى نفوس الآخرين، بل نقبل الشكل النهائى للتغيير، ربما يقصد تغيير الأحبة والأصدقاء برحيلهم أو تبدّل نفوسهم ومشاعرهم حيالنا، وما أكثر من يتبدّلون فى حياتنا.
يشدد بلوم فى نقطة أخرى استرعت انتباهى على أن الكتابة العظيمة هى دوماً نوع من إعادة الكتابة والتنقيح وأنها تستند إلى قراءة تفسح أفقًا للذات لكى تنوجد، أو أنها تعيد فتح أعمال قديمة أمام زأوجاعنا الجديدةس، وأصحاب الأصالة ليسوا أصليين تماماً (مثلما كما كان يُقال عن بورخيس إنه أصيل فى لا أصالته وفى استعارته من الآخرين). كاتب المقالات الأميركى رالف والدو إمرسون - الذى تعرفتُ عليه مؤخراً عبر بلوم - كان يقول فى مقالاته (ولها ترجمة عربية ممتازة عن دار هنداوي) إن الكاتب الخلّاق يعرف كيف يستعير وإن كل أدب أصيل ينقل عن أسلافه مع بعض التغيير. وأظن أن المتأمل للإنتاج الأدبى لجيل الكِبار فى الأدب الغربي، لو أخذنا السنوات العشر الأخيرة نموذجاً للقياس، سيتأكد من صدق هذه المقولة. فما ثلاثية ج. م. كوتسى الرمزية الأخيرة ذمثلاً- (طفولة جيسوس ذ أيام جيسوس فى المدرسة ذ موت جيسوس) أو النوفيلات الأخيرة للألمانى مارتن فالزر أو نوفيلات الفرنسى باتريك موديانو وغيرها سوى تنويعات على ألحان الكيخوته وكارامازف ونصوص كافكا وبيكيت وبروست وبلانشو والكتاب المقدس واعترافات أوغسطين، وكأن أدباء نوبل الأكابر فهموا زأول الحدوتة وآخرهاس، وأدركوا بتواضعٍ يليق بقدرِهم أن الأدب انتهى وأن إنجازهم بات محصوراً فى صوغ نصوص الـCanon بما ينتاسب مع روح العصر ومع آلامهم الشخصية. لكن قوّتهم فى أنهم لم يتركوا أنفسهم نهباً للقلق، لأن قلق التأثير = Anxiety of Influence وهو عنوان كتاب بلوم المبكر يشلّ المواهب الضعيفة وحدها، بينما يحرض المواهب الأصيلة ويلهمها. فالرواية القوية مُجبرة بالضرورة على التشكّل عن طريق عمل الأسلاف.
>>>
نتعلم من بلوم أن اختيار النصوص الأدبية محل القراءة أمـر انتقائى ومتحيّز بطبعه، لذلك سأعرض بإيجاز إلى رؤية بلوم لثلاثة كُتّاب بدأت فى العودة إلى نصوصهم مؤخراً لإعادة كتشافها: جـوته وكافكا وبيكيت.
جوته فى نظر بلوم هو النموذج الكامل والأخير للثقافة الأدبية الممتدة من هوميروس عبر فرجيل وصولًا إلى دانتي، وهو كاتب يمتلك طاقة شيطانية . لم يوضح بلوم مغزى كلمة زشيطانيةس، لكنى عثرتُ على تفسير جوته نفسه فى محاوراته مع إيكرمان ( جزء 2، ت: إبراهيم جار الله، الرافدين 2021) بقوله:س كل فعل شيطانى هو ما لا يمكن شرحه بالمنطق أو الإدراكس، وعندما سأله إيكرمان ألم يكن ميفيستوليس سمات شيطانية، فنفى عنه جوته ذلك بقوله إنه كائن سلبى والشيطان يظهر نفسه فى الكائنات ذات القوة النشطة. كان الشيطان هو من يحرّك حياته يونج أيضًا، ففى فى الصفحات الأخيرة من مذكراته استعمل يونج التعبير نفسه، لعله كان يقصد شيطان الإبداع أو شيطان نفسه. لغز جوته كان يكمن فى غموض شخصيته، فى تناقض ما يؤمن به ولكن عبقريته كانت فى المؤالفة بين الأضداد داخل نفسه بحيث لم يستشعر الرجل معاناة فى اشتماله على الشيء ونقيضه. فالمؤمن الوحيد بوجود الله فى الجزء الثانى من مسرحية زفاوستس كان ميفيستوليس/إبليس نفسه، أما فاوست وهو ظلّ الشاعر جـوته فيتنبأ بظهور فكر نيتشه من خلال حثّنا على التفكير فى الأرض، وليس فى سلطة روحية عليا (ص 244). جـوته هو الشهوانى الذى لم يكن يقوى على العيش لحظة من دون أفخاذ النساء، وهو الصوفى الورِع العاشق لأشعار حافظ الشيرازى والتصوف الإسلامي.
أما عند كافكا فيطرح بلوم ملاحظة شائقة مؤداها أن كافكا كان حكيماً عظيماً، وليس كاتب قصّة صرفًا، باستثناء بعض الشذرات والقصص القصيرة جداً التى هى أقرب إلى الأمثولات الرمزية، فروايات كافكا الطويلة (المحاكمة ذ القلعة ذ أميركا) تبدأ ذكية لكنها لا تنتهى كذلك. أقوى نصوص كافكا بحسب بلوم كامنة فى الشذرات والحكايات الموجزة مثل طبيب ريفى والصياد جراكوس وسور الصين العظيم وشذراته المبثوثة فى اليوميات. كما يلاحظ بلوم أن جميع المحاولات النقدية الجادة باءت بالفشل أمام حائط كافكا، فكل رمز يقدمه إلينا كافكا يدلّ على شيء ولا يدلّ على أى شيء فى آن واحد. ففى إحدى قصصه الأخيرة بعنوان تحريات كلب يبلغ السرد ذروته الخارقة عندما يكشف كلب صيد جميل نفسه للراوي، وهو كلب مسكين يستلقى على الأرض مضرجاً فى دمائه. يقول بلوم إن أحد النقاد امتلك الجرأة يوماً ليقول إن كلب الصيد الجميل هو رمز لله، لكن هذا التأويل هو الفخّ الذى كان ينصبه كافكا بسخرية للجميع، لأن كل ما هو ورائي/غيبى فى عالم كافكا هو لون من ألوان السخرية اللاذعة. لا يوجد ما ورائى عند كافكا، لأنه حول فعل الكتابة إلى دين. أما صمويل بيكيت فهـو آخر المراجع العِظام فى الأدب العالمي، لم يقل بلوم صراحةً أن الأدب انتهى عند بيكيت، لكنه لم يُدخل أحداً بعده إلى الـ Canon. يرصد بلوم تأثّر بيكيت الواضح بصديقه وأستاذه جيمس جويس، كانا يجلسان كتفاً بكتف ساعات طويلة دون أن يتبادلا كلمة واحدة، كلاهما مفعم بالحزن؛ جويس من العالم وبيكيت من نفسه. إلا أن بيكيت تخلص من تأثير جويس أسلوبياً بعد أن شرع فى ترجمة أعماله بنفسه إلى الفرنسية ولم يعد منشغلاً بمارسيل بروست. بيكيت إنسان متواضع وطيب ولطيف مثل أى كاتب قوي، لكنه مشغول بذاته، وهو ككاتبٍ عانى على غرار الجميع، وكلما كانت الكاتب أقوى كانت معاناته أكبر وبيكيت كان كاتباً قوياً، ربما أقوى من بورخيس وتوماس بينشون وفق كلام بلوم وهو ذ أسلوبياً- متكلّف مغرور أدبياً مثل جويس، يفترض أن قارئه يعرف دانتى وشكسبير وفلوبير وييتس. عبقريته الأساسية فى مسرحِه، لا يضارعه بريشت ولا بيرانديللو ولا لوركا. مسرحية زنهاية اللعبةس هى أعظم إنتاج مسرحى فى القرن العشرين.
يقول بلوم:س قد يكون بيكيت قد أقسم كذباً أن التفوق لم يعد ممكناً بعد جويس وبروست، لكن مسرحية نهاية اللعبة حققت ذلك التفوقس. بينما أرى أن آخر فقرة فى رواية زمولويس هى أقوى جُملة فى تاريخ الأدب المعاصر؛ جملة الصوت الذى طلب من السارد كتابة التقرير.
>>>
ستة وعشرون كاتباً أمضى معهم بلوم حياته كلها تقريباً قارئًا فى المقام الأول ثم مناقشًا ومُعلقًا وشارحاً فى أعمال هى أقرب إلى الموسوعات الأدبية من حيث ضخامتها وشمول مادتها. هل ثمـّة سـرّ ما وراء ذلك هذا الشغف؟ يحكى بلوم أن الشغف بالقراءة بدأ مبكراً حينما كان يجلس على أرض المطبخ تحت قدمى أمـه وهى تطهو طعام السبت ويواصل القراءة وهى تتعثّر فيه أثناء حركتها حافية القدمين فتربّت على رأسه أحياناً ويشعر بطاقة قوية ودفء غامر، لم ينسَ بلوم كلمة مما قرأه وهو جالس أسفل قدميها، ولما ماتت شعرُ بألم عظيم، ولم تواسِه إلا ذكرى النصوص التى كان يقرؤها فى المطبخ.
وفق نيتشه لا تنبع الأعمال العظيمة إلا من ألم عظيم ولا تبتغى إلا تسليح الإنسان بأسلحة خفيفة لمواجهة أشباح الموت واليأس واللا جدوى والشيخوخة. أسأل نفسى أحيانًا ما الدافع وراء تكرار إشارة بلوم ونقله النوستالجى عن شُعراء وكُتّاب بعينهم والاقتباس عنهم حتى وهـو على أعتاب الموت. فى يوليو سنة 2018 وقبل سنة من وفاته أُجرى مع بلوم حوار قصير، متاح على قناة يوتيوب بعنوان Saving Literature with Harold Bloom، كان الرجل وقتها فى أواخر أيامه، وكان يتحدّث برأس مُنكسّةٍ وبكلمات تخرج بشقّ الأنفس. فى البداية بدا صوته متعبًا متهدجًا، ولكن ما أن وصل الحديث إلى الشاعر الأميركى والاس ستيفنس حتى تلبسّت الرجل روح الشعر وارتفع صوته قويًا صادحًا منتشيًا بتلاوة ما تيسّر له من قصيدة ستيفنس (شاى فى الساحة العامة لـ هوون)، وهو مغمض العينينذ وكأنه ينادى ربّه نداءً خفيًا-: (كنتُ أنا العالم حيثما مشيت، وما رأيتُه وسمعته وأحسسته،لم ينبثق إلاّ من ذاتي)، ثم علّق على الشطر الأخير المتصل بوالت ويتمان (لحيته شواظ من نار وعصاه شعلة قافزة) وقال إن هيئة ويتمان فى القصيدة هى أشبه بهيئة النبى موسى وشقيقه النبى هارون فى آن واحد.
فى الجزء الأول من يوميات فيتولد جومبروفيتش عبارة لم أنسَها يوماً: زالإيمان بقوة الإيمان أهم من الإيمان ز هذا هـو بيت القصيد، وهذا هو الذى رتق ثقوب ذاكرة الشيخ بلوم وهو يدنو من التسعين، أقصد إيمانه الراسخ بقوة الأدب، وهذا أيضًا هو ما حفظ له توازنه وأنار له بصيرته وهو يتنقلّ مع زوجته ذ وفق كلامه- بين المراكز الطبية ومراكز التأهيل لعلاج ابنه المُعاق بسبب إصابته بالشيزوفرينيا. فى حوار سابق قال بلوم إنه كان يجد السلوان من آلامه النفسية بسبب حالة ابنه فى قصائد هارت كرين ووالت ويتمان ووالاس ستيفنس. لا يدرك الناس أن الكـتب كثيرة وأن كـمّ الروايات الصادرة صباحًا يفوق كمّ ما يُـقذف فى الأرحام ليلًا، المهم الجُملة الحلوة.
>>>
لـ زبلومس كتاب مهم اسمه Where Wisdom Shall Be Found? والعنوان مُقتبس من آية من العهد القديم (سِـفر أيوب 28:12) تقول: زأما الحكمة فأين توجد؟س أتمنى أن يتوفّر الوقت لعرضه وترجمة فقرات منه يوماً، يقدم فيه بلوم مختارات من أدب الحكمة بداية من العهد القديم وصولاً إلى إيمرسون وكيركجارد، أودّ أن أنقل منه الفقرة التالية:
(..وأما كتابى زأما الحكمة فأين توجد؟ ز فينطلق من احتياج شخصى كما يعكس التوق إلى استلهام الاستنارة التى تواسى المرء على تجاوز همومه وإجلاء بصيرته عند مواجهة أزمات الاقتراب من الشيخوخة، وعونه على التعافى من الأمراض وتربّت على كتفيه لتخطّى مشاعر الحزن من مغبة فقدان الأحبة والأصدقاء. ربما تشوّش طغيان الضغوط المجتمعية والتقاليع الصحفية على هذه المعايير لفترة من الوقت، لكن الأدب العابر المؤقت لا يدوم أبد الدهر. فالعقل ما يلبث أن يرجع إلى حاجته الماسّة إلى الجمال وإلى الحقيقة وإلى البصيرة. فالمسيحيون الذين قبلوا يسوع، والمسلمون الذين أسلموا وجوههم إلى الله، واليهود الواثقون بوعد الله لديهم معاييرهم الخاصة بمفهوم الحكمة، إلا أن أصحاب كل عقيدة عليهم إدراك مبادئهم بطريقة فردية لو أرادوا لكلمات الله حقًا أن تنير بصيرتهم وأن تشرح صدورهم).
نـُدرة هم المفكّرون الذين يستمدّون قوتهم على مواجهة الحياة من تنوع اطلاعهم وسِعة معرفتهم، لكن قوتهم الحقيقة فى تقديرى تزداد حضورًا وبريقًا بعد رحيلهم، فى اللحظة التى تتحوّل أفكارهم فيهاس إلى أطياف مشُرقة تنير طريق قارئها كما أنارت طريق كاتبها.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة