داود الفرحان
داود الفرحان


يوميات الأخبار

إن أعادوا لك المقاهى القديمة.. فمن يعيد لك الرفاق؟

الأخبار

الأربعاء، 07 يوليه 2021 - 08:05 م

 

وقد شارك صاحبه فى تشييع جنازة أم كلثوم فى القاهرة وأقام مجلساً للعزاء فى مقهاه العراقية لمدة ثلاثة أيام

 

فى العادة كان الملحنون والمؤلفون العرب يتجمعون عندما يأتى المساء ونجوم الليل تُنْثر، فى مقاهٍ معينة فى كل عاصمة عربية، وفى الغالب تكون المقهى قريبة من دار الإذاعة قبل اختراع التليفزيون. ولاحظتُ فى الستينات فى مقهى الفنانين فى منطقة الصالحية فى بغداد وجود عشرات المغنين والملحنين والشعراء والموسيقيين، يأتون فى مواعيد شبه ثابتة، ويمضون أوقاتهم فى مراجعة كلمات الأغانى والألحان. بل إن المقهى كانت سوقاً رائجة لبيع وشراء الكلمات والألحان بالنقد والتقسيط المريح! 


مقهى حسب الله


وعرفتُ من زملاء مصريين أن مقاهى شارعى عماد الدين ومحمد على كانت «سوبر ماركت» لكلمات الأغانى والألحان الجاهزة أو الألحان التى تم وضعها للأفلام السينمائية خصيصاً لمطرب معين أو مطربة محددة . وشارع عماد الدين مثلاً إقترن باسم فرقة حسب الله للموسيقى الشعبية التى مازال بعض أعضائها حتى اليوم يتخذون من أحد المقاهى وسط محال نجارة الموبيليا مقراً دائماً لها. لكن الفرقة لم تعد هى نفسها صاحبة «الشنة والرنة» فى القرن الماضى، فقد تغير الزمان والإنسان. وشددتُ الرحال فى أحد الأيام إلى شارع عماد الدين، وجلستُ فى مقهى حسب الله ولم أجد أياً من أعضاء الفرقة. احتسيتُ قهوتى وسألت صاحب المقهى عن تاريخ تأسيسها فقال إنها «من زمان أوى!» وعلمتُ فيما بعد أن تاريخ الفرقة التى أسسها الشاويش محمد حسب الله يعود إلى عام 1860 فى زمن الخديو عباس حلمى. 


فى كل العواصم العربية ما يشبه مقهى فرقة حسب الله. وهى فرق للأفراح سواء كانت أعراساً أو طهوراً أو نجاحاً فى المدرسة أو عودة من الديار المقدسة. ولا أريد الإطالة فى موضوع مقاهى القاهرة، لأن أكثرية القراء فى مصر والسياح العرب وحتى الأجانب يعرفونها أو يرتادونها أو قرأوا عنها. فهى أصبحت جزءاً من تاريخ العاصمة أسوة باستوديوهات السينما أو النوادى الرياضية الشهيرة أو المطاعم المعروفة. لذلك أعرض هذه الظاهرة كما تتجسد فى عواصم عربية أخرى، وهى لا تقتصر على مقاهى الأغانى والمقامات والموشحات، وإنما تمتد إلى مقاهى الأدباء والمثقفين والرسامين والسياسيين. 


مقهى المعقدين


تنفرد بغداد بمقهى اسمها «المعقدين» وقد أفتتحت فى الستينات من القرن الماضى وتقع فى شارع السعدون قرب ساحة التحرير وسط بغداد، ويرتادها أدباء وفنانون متمردون على السائد فى المشهد الثقافى ويرددون مصطلحات غريبة مثل المسرح الفقير والمسرح الأسود والعبث والوجودية والعدم والإلتزام والأُطر والسديم والانهزامية. وليس مهماً عندهم أن تفهم مصطلحاتهم أو ترددها بعدهم لتصبح واحداً منهم وتنال لقب «معقد»! وهو واحد من أرفع المستويات فى هذا القطاع المتمرد ثقافياً، وليس بالضرورة أن يكون متمرداً سياسياً. وإذا أخذنا المعيار السياسى فبين هؤلاء «الزملاء» قوميون وشيوعيون وبعثيون ومستقلون. وفى مراحل الانقلابات السياسية والحروب تسرب هؤلاء «المعقدون» واحداً بعد آخر إلى بلدان المهاجر والملاجئ قبل أن يصبح العراق نفسه بعد الاحتلال الأمريكى بلداً «معقداً» سياسياً وطائفياً وحزبياً وانتهازياً.

لقد كان «مقهى المعقدين» نسخة بسيطة من مقاهى الأدباء الفرنسيين فى باريس والأدباء الإنجليز فى لندن. ومن النادر أن يدخل شخص إلى مقهى المعقدين بدون صحيفة أو مجلة ثقافية أو حقيبة أو «ساندويش» فلافل.

وهذا المقهى سباق فى هذه التسمية الفريدة. أما مقاهى المطربين العراقيين فهى مقهى المطرب الريفى ناصر حكيم قرب سينما بغداد فى المنطقة التى يرتادها تجار المزروعات القادمين من جنوبى العراق، ومقهى شعيشع مقابل سينما بغداد ويلتقى فيها قدماء المغنين الريفيين مثل حضيرى أبو عزيز الذى نقل عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مقطعاً موسيقياً فى أغنية «يللى زرعتوا البرتقان»، ومقهى القناديل قرب مبنى الإذاعة حيث يتجمع خليط من شعراء الأناشيد والمغنين والملحنين المستعدين دائماً لتأليف الأغانى وتلحينها وغنائها فى المناسبات الوطنية والمعارك الكبرى ضد إيران فى الثمانينات. وهنا لابد أن نذكر أول مقهى عراقى غنائية تأسست فى القرن التاسع عشر وهى مقهى عزاوى قرب وزارة الدفاع، وكانت متخصصة بغناء المقامات العراقية وسرد قصص البطولات مثل عنترة وعبلة وأبو زيد الهلالى.


مقهى الشهداء


أما الأدباء الكبار ونجوم الشعر والقصة والرواية فلهم مقاهيهم الشهيرة حتى الآن مثل مقهى الزهاوى الذى تأسس فى عام 1917 والشابندر الذى تعرض إلى تفجير إرهابى فى عام 2007 ذهب ضحيته خمسة من أبناء صاحب المقهى، وتم تحويل اسمها إلى مقهى الشهداء. وفى شارع الرشيد تقع مقهى البرازيلية التى أنشأها مواطن لبنانى، وروادها من نجوم الأدب أمثال بدر شاكر السياب وبلند الحيدرى وعبد الوهاب البياتى وغائب طعمة فرمان والفنانون الكبار مثل جواد سليم وفائق حسن، وأساتذة الجامعات. وهى تقدم خدمات أوروبية تشبه مقاهى باريس ولندن وروما ومدريد. وفيها تم تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين. وكذلك مقهى السويسرية وقد تأسست فى الأربعينات، وكانت مميزة فى أناقتها وخدماتها.


مجلس عزاء أم كلثوم


وقبل أن أغادر بغداد المحتلة من الإيرانيين أدخل معكم إلى مقهى أم كلثوم الذى يقع قرب ملهى الهلال الذى غنت فيه الست فى الثلاثينات من القرن الماضى حين زارت بغداد. وهذا المقهى المزينة جدرانه بصور كوكب الشرق لا يذيع إلا أغانيها، وقد شارك صاحبه عبد المعين المصلاوى فى تشييع أم كلثوم فى القاهرة وأقام مجلساً للعزاء فى مقهاه العراقية لمدة ثلاثة أيام.


مقهى الحرافيش


فى بداية التسعينات من القرن الماضى تم تأسيس مقهى الحرافيش فى القاهرة، والاسم مأخوذ من رواية نجيب محفوظ، وهو أكثر أناقة من «مقهى المعقدين» البغدادى الذى يشبه مقاهى محطات القطارات. صاحب هذا المقهى فنان تشكيلى مصرى اسمه فخرى يوسف، وضع تمثالاً لنجيب محفوظ عند مدخل المقهى وتمثالاً لراقصة شرقية لا تشبه سامية جمال ولا تحية كاريوكا ولا غيرهما، تعبيراً عن اهتمام المقهى بالفنانين والفن الشرقى بشكل خاص. وتم تزيين الجدران بلوحات لبيرم التونسى ويوسف إدريس وصور نادرة للراقصة بديعة مصابنى والمطربة منيرة المهدية، وكوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب وسيد درويش وغيرهم.


تونس.. أيا خضرة


ندع المشرق العربى ونذهب إلى تونس، فالذين زاروها يهزون رءوسهم طرباً ولو بعد عقود كلما تذكروا تلك المدينة، فالشعب التونسى الشقيق غارق فى عشق الفن العربى، وخاصة المصرى والسورى واللبنانى. معظم مقاهى تونس العاصمة تقدم فقرات غنائية فى آخر الليل فتزدحم بالسياح العرب، والأوربيين والصينيين الذين يتراقصون من دون أن يفهموا معنى كلمات الأغانى. أما أشهر مقاهى تونس فهى سيدى شعبان، والقهوة العالمية، والصفصاف، والعطارين.


دَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ


تساءل الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش فى إحدى قصائده: «إن أعادوا لك المقاهى القديمة.. فمن يعيد لك الرفاق؟». الحديث عن المقاهى العربية لا يكتمل إلا بمقهى «الهافانا» الذى تأسس فى عام 1945، وهو مقهى دمشقى فى قلب العاصمة السورية. وأنا أقول إن هذا المقهى يتحمل عبء كل الثورات والانقلابات والمؤامرات الناجحة والفاشلة فى المنطقة طوال أكثر من قرن. إذا أردت أن تضرب موعداً مع شخصية سياسية عربية خارج السلطة، أو تدلى بتصريحات لصحيفة عربية أو تفكر بتشكيل حزب سياسى يُضاف إلى باقة الفجل التى لا تُسْمِن ولا تُغنى من جوع، فعليك بالهافانا بشارع بورسعيد فى واحدة من أرقى مناطق دمشق وأعرقها. فهنا تأسس حزب البعث العربى الإشتراكى عام 1947 وهنا تحاور أدباء سوريون وعراقيون ومصريون ولبنانيون، وهنا «سلطن» المطرب محمد عبد المطلب الساكن فى حى السيدة وحبيبته فى الحسين، مع عدد من المطربين السوريين من وزن صباح فخرى والقدود الحلبية.


مقاهى العواصم المضيئة


فى نظرة سريعة على مقاهى العواصم المضيئة، نجد أن نصف توهجها يعود الى نجوم الفن التشكيلى والسينمائى والأدبى. ومن النادر أن نجد سياسيين يتواعدون فى مقاهى باريس أو لندن، فجلسات الفنادق أكثر أماناً وأناقة وخدمة من مقاهى الشوارع حتى لو كانت مطلة على الهايد بارك اللندنى أو برج إيفل الباريسى. لقد ذهبت أيام جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار وجان جاك روسو وفولتير وبول سيزان. وأنقل عن مجلة «ليتراتور» الفرنسية هذا المقطع المترجم: «كانت للسرياليين مائدتهم فى مقهى «دوماجو» ومنها كان باستطاعتهم أن يشتموا كما يشاءون، كل قادم جديد يختلف معهم بالرأى، أو أن يعلنوا بصوت عال عن نيتهم جلد كل صحفى كتب فى إحدى الصحف المضادة للسريالية، لأنه قام بذكر أسمائهم أو أنه لم يذكرها»! كان جيمس جويس وبريخت وكافكا وهمنجواى نجوم هذا النوع من المقاهى. ومثلما كان نجيب محفوظ ويوسف شاهين وأحمد حجازى ورسام الكاريكاتير طوغان والشاعر صلاح جاهين والروائى جمال الغيطانى والناقد يوسف القعيد والشاعر محمد عفيفى مطر والكاتب الساخر المعلم محمود السعدنى يملأون مقاهى القاهرة ضجيجاً وضحكاً، كان الشعراء والروائيون والصحفيون السياب والجواهرى والبياتى وحميد سعيد وسامى مهدى وعبد الأمير معله وموسى كريدى وعبد الجبار البصرى وماجد السامرائى والفنانون التشكيليون جواد سليم وفائق حسن وإسماعيل الشيخلى ونورى الراوى يصدرون بياناتهم الستينية والتجريدية والسريالية فى مقاهيهم.
نسينا نشرب الشاى.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة