موعد مع الأب
موعد مع الأب


رفعت الجلسة | ولنا لقاء

جودت عيد

الخميس، 08 يوليه 2021 - 08:32 م

كان يتراقص معها كالطفل البرئ، يدللها، يمسح بيديه ملابسها المتسخة من اللهو، ثم فجأة يحتضنها بقوة، بعدها يحمل جسدها إلى الأعلى بكلتا يديه، وكأنه يريد أن يصعد بها إلى السماء ليجتمعا معا طوال العمر.


ساعة كاملة ، لم تتوقف صرخات فرحه، ولم لا .. فقد أصبحت محبوبته الغائبة عنه عاما كاملا أمام عينيه، ليتحول فجأة من طبيب ذي وقار إلى طفل يلهو مع لعبته، دون أن يعطي للدنيا بالا.
 

كان ذلك الأب مضطربا جدا، فقد اصطحب زميله معه الى المكان المعد للرؤية فى أحد الأندية الاجتماعية بالهرم، حاملا كاميرا فيديو صغيرة، ومعطيا كافة التعليمات لصديقه .


لقد أخبره صراحة وبتوسل «رجاء، ياسر لا تترك لحظة فرح مع ابنتى، إلا وقد التقطت لها صورة، فاليوم هو أفضل أيامى، وغدا سأحمل حقيبتي للسفر الى الخارج.. ولن أعود الا بعد عامين».


كان المشهد صراحة أمام عينى، لم يكتف ذلك الأب بلهفة انتظار موعد رؤية ابنته، بل لقد أحضر «تورتة» ودون اسم محبوبته الصغيرة عليها، حتى اننى بصعوبة استطعت أن التقطه، إنها سما وعمرها 4 أعوام، هذا واضحا من عدد الشموع الموزعة على جنبات «التورتة».


مرت ثلاثون دقيقة على الموعد المخصص للرؤية ، لم تحضر سما ، زاد توتر الأب ، تحرك بسرعة الى باب النادى ، التقط ببصره امتداد الشارع المؤدى الى بوابة الدخول ، لم يجد أحدا ، عاد أدراجه الى صديقه وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ، فما كان من صاحبه إلا أن هدأه ، واخبره انها ستأتى ، قد يكون سبب التأخير الزحام الذي يشهده الشارع المؤدي الى النادى .


جلس الأب ومازال التوتر يصاحبه ، ظل يتفحص التورتة الصغيرة التى احضرها لمحبوبته ، أخذ يسأل صديقه هل نسيت شيئا؟ ، أحضرت «الولاعة «؟ المشروبات كافية ، هل ستكون سعيدة بهذه المفاجأة ، تعلم اننى لم أنس يوما عيد ميلادها او كل فرحة كانت تجمعنى معها بعد ان انفصلت منذ عام عن والدتها .
أخذه الحديث عن صغيرته ، تناسى انه ينتظرها ، فالكلام عنها كما يقول هو الغذاء والهواء الذى يتنفسه ، لم يدرك انها قد حضرت ، وجلست فى مكان قريب منه ، والاغرب انها تركت مقعدها ،وظلت تبحث عن ابيها ، كانت تنادى عليه بصوت عال ، ابى ، ابى ، حتى التقطتها عيناه ، قفز فجأة من على المقعد ،تناسى وقاره المعهود كطبيب جراحة ، توجه مسرعا اليها ، احتضنها بشدة ، وألقى بجسدها النحيف بين ذراعيه ، ثم استراحا قليلا ..

وكأنه دخل فى نوم عميق على كتفها .


لقد أخذ المشهد انتباه صديقه ، بل الجالسون على مقاعد الرؤية ، تأثر الجميع بهذه المشاعر ، حتى انتبه الاب، فأومأ لصديقه بسرعة ان ينفذ ما اتفقا عليه ، ناداه بصوت مرتفع ، ياسر هيا ، لا تترك لحظة مع محبوبتى الا وسجلتها ، فكل صورة معها ستكون صديقتى فى الغربة .


كان الأب يتراقص معها بين جنبات المقاعد ، يلهو خلفها فى الملاعب المنتشرة حولهم ، كل دقيقة يحملها بيديه الى الاعلى ، ثم يصرخ سما ، هل تحبينني ، انا احبك واتمنى ان اكمل معك كل حياتى . .فتبادله الصغيرة بصوت عال احبك يا أبي أريد ان أكون معك مدى الحياة .


كان على الجانب الاخر صديقه يمشى بخطوات ثابتة أمامهم ، لايستطيع ان يترك لحظة واحدة بين الأب وابنته دون ان يلتقطها ، ورغم حالة الانتباه التى فرضت عليه بسبب حرص صديقه الأب على اكمال مهمته ، الا انه كان سعيدا ، نعم بالفعل ارتسمت السعادة على وجهه ، فصديق العمر والغربة الذى طالما كان حزينا فى الأيام الماضية أصبح مبتسما اليوم .


استمرت سعادة الاب مع ابنته ساعة كاملة ، حتى جاء موعد النهاية ، إنها لحظة فارقة ، تشعر من تعبيرات وجه وهدوء الأب انه كان يخطط لها جيدا ، فقد رسم فى عقله ، كيف يقضي ساعات الرؤية الأخيرة مع صغيرته ، لذلك اختار مشهد الوداع بعناية فائقة ، نادى على صديقه ، طلب منه ان يكون قريبا من الطاولة التي سيكون عليها الاحتفال بعيد مولد محبوبته .


اشعل الأب الشموع ، غنى مع صغيرته اغانى أعياد الميلاد ، كان يلقى باسمها بين كلمات كل أغنية ، وكأنه يعاقب لسانه على تجاهل ذكرها الأيام الماضية ، اطفأت الصغيرة الشموع ، ، ثم أخذ يطعمها من التورتة.


وسط سعادته التي يعيشها مع صغيرته، كان يغلق أذنيه أمام نداء موظف النادى الذي أعلن انتهاء موعد الرؤية ، وطلب من الآباء المغادرة.


كان هذا النداء يزعجه كثيرا ، أراد ان يشوش عليه ، أخذ يبتسم ، ويرفع صوته عندما يداعب صغيرته ، لاحظ صديقه توتره ، هدأ من روعه ، وأخذ يدلل الصغيرة معه ، إلا أن توتر الاب زاد ، خاصة عندما حضر شقيق طليقته ليأخذ الصغيرة ، امسك الأب الطفلة بيده بقوة ، احتضنها.


تدارك صديقه للمرة الثالثة توتره ، اخبره ان ما يفعله يؤثر على الطفل ، ليعود الأب ويبتسم ، وبعدها يضع التورتة فى المكان المخصص لها ، ويعطيها لصغيرته ، بعدها قام باحتضانها للمرة الأخيرة ، ثم سلمها بيده الى شقيق طليقته وكأنه يقول له ، هذه أمانة ، حافظ عليها حتى أعود لآخذها منك .


لم تترك عين الأب فتاته المدللة ، تسير بمفردها بعيدا ، بل كان يراقبها عند مغادرتها مع خالها ، ترك حقيبته وهاتفه على الطاولة ، تناسى صديقه الذي كان يجلس بجواره ، واسرع الى البوابة ليخبر ابنته كلمة أخيرة ..قال لها أحبك ، لتبادله الصغيرة بابتسامة، فكم كانت بينهما يوما ضحكات ولهو وأبوه ..لكن غدا سيصبح بينهما آلاف الأميال .

 

موعد مع الأب

لم يترك الأب مقعده بعد مغادرة ابنته النادي ، ظل صامتا قليلا، بعدها شاهدته هادئا، يتبادل الابتسامات مع صديقه.. عرفته بنفسي.. استجاب لأسئلتي.. وقررأن يخبرني أسباب هذه المشاعر العظيمة مع ابنته.


قال الأب الدكتور محمد. م.. هذه ابنتي، رزقي من الله، كانت بالنسبه لي صديقتي ومحبوبتي، وفجأة أصبح يفصلني عنها آلاف الأميال .. أضاف، كنت مسافرا للعمل في وزارة الصحة بإحدى الدول العربية، تركت زوجتي، واحضرت امي للعيش معها في منزلي.، مر شهران، وأخبرني احد الجيران أن زوجتي تهين والدتي، وقامت بالاعتداء عليها أكثر من مرة.


لم تخبرني أمي عندما واجهتها، قالت لا أريد أن أثقل عليك، دعك مني وركز في حياتك.. وعندما واجهت زوجتي وجدتها تكيل الاتهامات لوالدتي، وتطلب مني مغادرتها البيت..وخيرتني بينها وبين أمي.


لم اتحمل صراحة كلام زوجتي، فأنا وحيد والدتي بعد وفاة أبي وشقيقي في حادث، طلبت من زوجتي أن تحفظ كرامة أمي، لكنها كررت جرمها، واعتدت على والدتي أمام الجيران.


عدت إلى مصر بسرعة، لم اتحمل الإصابات التي كانت على جسد والدتي.. قمت بتطليق زوجتي .. وبعدها حصلت على حكم برؤية ابنتي.. وأخذت والدتي للعيش معي في الخارج.ز ويضيف هذه أول مره أرى ابنتي منذ عام.. بعدها سأسافر للخارج.. كل الصور والفيديوهات التقطتها من أجلي ومن أجل والدتي.. فالغربة بدون ابنتي موت بطيء لايعيشه الا من ذاق مرارته.


رسالتي لزوجتي «لاتتعجلي.. سيأتي من رحمك من يهينك ويعتدي عليك . وقتها لن تجدي من يقف بجوارك، كما وقفت أنا بجوار والدتي».

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة