د. كرمة سامى
محنة الترجمة
الإثنين، 12 يوليه 2021 - 02:05 م
مازالت صناعة الترجمة فى مصر والبلاد العربية فى حالة تأخر وقصور شديدة، وعاجزة عن نقل الكثير من المعارف، والآداب من وإلى العربية.
فى حوار مهم وكاشف للدكتورة كرمة سامى مدير المركز القومى للترجمة مع جريدة أخبار الأدب تقول اأعرف جيدا أن المترجم عزيز، وأخشى أن نكتشف يوما ما أننا لا نمتلك صفا ثانيا. لو لدى دفعة قوامها مائتى طالب وخرج منهم خمسة مترجمين نكون قد نجحنا. المترجم مشروع يحتاج إلى تفرغ، وإعداده يستغرق وقتا وجهدا كبيرين، لأن الترجمة عمل راق يحتاج صياغة وتفكير ومعرفة وسياق ثقافي.ب
مرة أخرى أعود لافتراض أن هناك من لم يستطع مقاومة عشق الترجمة وكان له حظاً من أسفار علاوة على ثقافة موسوعية وموهبة فطرية أهلته أن يكون مترجما جيدا، وفى الحقيقة دائما ما سيكون هناك أشخاص مؤهلون وموهوبون رغم كل الصعوبات السابقة، ولكن يبرز هنا السؤال الأصعب والأكثر تعقيدا.. ماذا عليه أن يفعل؟.
شجعتنى الصراحة التى اتسم بها حوار الدكتورة كرمة سامى على البحث عن أسباب ندرة المترجمين وأهم المصاعب التى تواجه عملية الترجمة التى أحب أن أسميها صناعة الترجمة، كى نضع أيدينا على مواضع الخلل والقصور حتى إذا أردنا يوما أن ننهض بها كان لدينا إجابة للسؤال الهام وهو من أين نبدأ؟
بداية أحب أن أوضح أننى وإن كنت متقفا تماما مع ما ذهبت إليه الدكتورة كرمة سامى فى ندرة المترجمين إلا أننى لا أحيل ذلك لعدم وجود المترجم الكفء بل لعزوفه عن العمل بالترجمة، ولإيضاح هذه النقطة علينا أن نستعرض سويا رحلة طلبة اللغات وهم عماد عملية الترجمة بعد تخرجهم، بداية من مناهج الدراسة التى لا لايزال بها الكثير من القصور وخاصة تركيزها على نوعية معينة من الترجمات دون غيرها وافتقاد معظم جامعاتنا إلى الوسائط الحديثة لتعلم الترجمة ثم عدم الاهتمام باللغة العربية أثناء عملية التعلم أو تركيز تعلمُها على دراسة آدابها القديمة وإهمال نصوصها الحديثة علاوة على افتراض واضعى مناهجها أن الطلاب قد ألموا بقواعد الإملاء بشكل كامل فى مراحل دراسية سابقة وهذا أمر نظرى بحت، فالواقع أثبت أن الإلمام الجيد بقواعد الإملاء فى اللغة العربية يظل من أكبر تحديات احتراف الترجمة لاحقا.
ومع كل ذلك دعونا نفترض أنه وبمجهود شخصى من بعض الطلاب لن تخلو دفعة دراسية من نسبة افترضت مديرة المركز القومى للترجمة أنها ستدور حول نسبة اثنين إلى ثلاثة فى المائة من كل دفعة، أى أنه من دفعة قوامها ماتئى طالب سيكون لدينا من أربعة إلى خمسة مترجمين سنويا. ورغم أنه يُفهم من حديثها أن هذه نسبة قليلة ولكنى على عكس ذلك أرى أنها نسبة جيدة إذا أخذنا فى الاعتبار العدد الكبير والمتنامى من كليات اللغات التى انتشرت بشكل كبير مؤخرا سواء فى الجامعات الحكومية أو الخاصة. بمعنى أكثر تبسيطا أنه لو افترضنا وجود عشرين كلية لغات على مستوى مصر فقط وحصلنا من كل دفعة على هذه النسبة فسيكون لدينا سنويا مائة مترجم وهى نسبة ممتازة فى رأيى ولكن هل هذا ما يحدث فعلا؟
تستوعب مجالات التدريس والسياحة الجزء الأعظم من خريجى اللغات فى مصر فضلا عن شركات خدمة العملاء أو الكول سنتر مؤخرا. تمتاز هذه الأعمال بعدم اشتراطها وجود خبرة كبيرة فى البداية علاوة على أنها أعمال سريعة الدخل فبمجرد حصول الخريج على إحداها يستطيع أن يحصل على راتب من الشهر الأول وهذا بلا أدنى شك مطلب مشروع لكل الخريجين والسعى إليه أمر محمود بالطبع.
ولكن بالنسبة لمن يريد العمل بالترجمة فعليه مبدئيا التدريب الشاق بشكل شخصى وطلب المساعدة من محترفى الترجمة لأنه لا توجد أى مؤسسة تهتم برعاية المترجمين أو تدريبهم، ثم عليه أن يقبل بالفتات الذى تجود به عليه مكاتب الترجمة التى عادة ما تستغل كونه حديث التخرج ودون خبرة وفى الغالب لا يحصل على مقابل مادى لأولى تجاربه فى الترجمة مقابل التعلم، وحتى بالنسبة لمن يستطيع الصمود عدة سنوات أخرى يكون قد اكتسب فيها قدرا جيدا من الخبرة، يظل العائد المادى من الترجمة زهيداً للغاية ولا يمكن لأحد أن يعتمد عليه كمصدر وحيد للدخل، بل ليس كافيا لإقناع الكثير من الأسر للقبول به زوجا لإحدى بناتهم.
مما سبق يتضح أن عدم وجود مؤسسة ترعى المترجمين عموما أو حتى تقدم تدريبا لمبتدئيهم، علاوة على ضعف المردود المادى بالنسبة لمن يستطيعون الصمود بضعة سنوات أخرى، كلها أسباب تؤدى إلى هجر مهنة الترجمة مبكرا. تجدر الملاحظة أننى فى هذا الجزء أتحدث عمن أرادوا العمل بشكل حر من خلال مكاتب الترجمة المنتشرة والتى لا تخرج المواد التى تتطلب ترجمتها عن شهادات الميلاد والزواج والطلاق ليقدمها أصحابها فى الغالب للسفارات الأجنبية طلبا لـتأشيرات السفر والتى لا تقدم خبرات كبيرة للمترجمين.
لا شك فى أن انتشار وسائل الاتصال والإنترنت حديثا سهل من إمكانية إيجاد عمل للمترجمين خارج حدود أوطانهم حيث تكون الأسعار أكثر عدلا من الداخل ولكن تظل محدودية الفرص هى أكبر العوائق أمام من يريد الاستمرار فى هذه المهنة.
د. جابر عصفور
أما فيما يخص عملية الترجمة كعملية نقل للمعرفة، فالأمر أكثر تعقيدا ومأساوية. وهنا لا بد من أن أعود إلى حوار الدكتورة كرمة خاصة فيما يتعلق بأن الترجمة عمل راق يحتاج صياغة وتفكير ومعرفة وسياق ثقافي، ما يعنى أن الأمر لا يقتصر فقط على إجادة اللغة بل لا بد من معرفة السياق الثقافى للنص المترجم منه والمترجم إليه وهو الأمر الذى يتطلب قراءات متصلة وأسفار كثيرة إذا أمكن وهو أمر لا يستطيعه غالبية المترجمين دون رعاية مؤسسية.
ومرة أخرى أعود لافتراض أن هناك من لم يستطع مقاومة عشق الترجمة وكان له حظاً من أسفار علاوة على ثقافة موسوعية وموهبة فطرية أهلته أن يكون مترجما جيدا، وفى الحقيقة دائما ما سيكون هناك أشخاص مؤهلون وموهوبون رغم كل الصعوبات السابقة، ولكن يبرز هنا السؤال الأصعب والأكثر تعقيدا.. ماذا عليه أن يفعل؟
بعيدا عن وجود المترجم القادر على نقل الثقافة، تبرز معضلة أخرى كبيرة وهى النص الجيد الذى يستحق الترجمة وكيفية الحصول عليه ثم التأكد من أنه لم يترجم من قبل وهى أمور صعبة ومعقدة وتفوق قدرة شباب المترجمين لأنها كما أوضحت مسبقا تحتاج إلى عمل مؤسسي. ومرة أخرى أفترض أن هناك من استطاع بشكل فردى أو بمساعدة ما التغلب على هذه المشكلات ولكنه يفاجأ بمشكلة حقوق المؤلف ودور النشر والتى تعتبر أكبر وأعقد المشكلات التى تواجه المترجمين عموما ولا سبيل أمام المترجم سوى اللجوء إلى دار نشر لتتولى هى الحصول على حقوق الترجمة.
للتغلب على مشكلة الحقوق يلجأ الكثير من المترجمين الجدد لترجمة نصوص قديمة تكون حقوقها قد سقطت بالتقادم وأصبحت ملكية عامة والتى تصل إلى خمسين عاما بعد وفاة كاتبها، علما بأن هذه النسبة قد تزيد فى بعض البلدان مثل إسبانيا التى تصل فيها إلى 80 سنة. هنا تبرز بعض المعضلات منها عدم وجود نص جيد لأن النصوص الجيدة والمشهورة تكون قد تُرجمت فى الغالب. المشكلة الثانية هى كيفية الحصول على العمل فى حال التأكد من عدم ترجمته من قبل وصلاحيته للترجمة، وفى حالة عدم وجود نسخة بصيغة PDF متاحة على الإنترنت أو حتى إمكانية شرائها من بعض المواقع مثل أمازون فلربما توجب على المترجم أن ينسى الموضوع برمته. ثم تأتى مشكلة صعوبة اللغة، فترجمة نص مر عليه ثمانون عاما بالنسبة لمترجم مبتدئ يظل أمر شاقا لما ينطوى عليه الأمر من تقادم استخدام بعض المفردات والصيغ ومع ذلك فهذا الأمر بالنسبة لعاشقى الترجمة يظل أيسر المشاكل.
توجد بمصر الآن الكثير من دور النشر الخاصة التى تعنى بالترجمة ولديها متخصصين يقومون بإنهاء هذه المشكلة ولكن فى المقابل يبخسون المترجم حقه بل فى كثير من الحالات لا يحصل المترجم على أى عائد مادى خاصة أصحاب التجارب الأولى والذين فقط يكتفون بتلك المتعة السحرية التى يشعرون بها عندما يرون أسمائهم كمترجمين مطبوعة على العمل المترجم.
أمام هذا التوجه الذى تمارسه دور النشر الخاصة يهرع المترجمون للمؤسسات الحكومية التى تعنى بالترجمة مثل المركز القومى للترجمة وسلسلة الجوائز التى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب.
أُنشئ المركز القومى للترجمة فى مصر عام 2006 على يد المفكر الكبير الدكتور جابر عصفور أى منذ ما يزيد على خمسة عشر عاما، فكم كتابا ترجم فى هذه المدة؟
بالبحث وجدت أن عدد الكتب التى تُرجمت من خلال المركز وصل إلى 2468 كتاب أى 165 كتاب سنويا وهى نسبة لا بأس بها مطلقا بالنظر لميزانية وزارة الثقافة فى مصر والتى تنفق فى معظمها على الأجور والمرتبات. وفيما يتعلق بسلسلة الجوائز، وجدت أن السلسلة قد أنجزت ترجمة 200 عمل وهى أيضا نسبة جيدة جدا خاصة وأنها أعمال حاصلة على جوائز عالمية ما يعنى أنها أعمال ذات جودة أدبية رفيعة المستوى. ولا يجب أن ننسى فى هذا السياق تقديم الشكر للدكتورة سهير المصادفة التى تُرجمت غالبية هذه الأعمال فى وقت ترأسها للسلسلة.
تكمن الصعوبة فى التعامل مع المؤسسات الحكومية المختصة بالترجمة فى عدة أمور يمكن أن نوجزها فيما يلي:
* صعوبة وصول المترجمين الجدد إليها، فقنوات التواصل محدودة للغاية وإن كنا مؤخرا بدأنا نلمس قدرا من الانفتاح أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي.
*يشعر الكثير من المترجمين الشباب بأن هذه المؤسسات أصبحت نوادى شبه مغلقة على أسماء بعينها سواء من داخل الحقل الجامعى أو خارجه والذين نشعر بعد قراءة أعمالهم أنهم لم يكونوا أفضل الاختيارات.
* اقتصار الترجمات على موضوعات بعينها وعدم التنوع فى الاختيارات وأبرز مثال على ذلك هو كم الكتب التى تُرجمت عن الموريسكيين وطرد المسلمين من إسبانيا عموما.
*الروتين الحكومى الذى يتسبب فى تأخير عمليات الطباعة والنشر.
*ضعف العائد المادى وبالتالى لا يمثل حافزا للمترجم للاستمرار لاحقا.
يتبقى أمران هامان قبل أن أنهى هذا المقال، الأول هو ضرورة إيجاد آلية للربط بين البلاد العربية فيما يخص الترجمة ففى كثير من الأحيان وبعد الكثير من البحث عن عمل يصلح للترجمة يكتشف المترجم أن العمل قد تُرجم فى بعض البلاد العربية الأخرى ويأتى ذلك بالمصادفة البحتة لعدم وجود أرشيف للأعمال المترجمة إلىالعربية، وأرشح جامعة الدول العربية للقيام بهذا الدور.
الأمر الأخير هو ما لفت إليه الأديب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد المجيد فى إحدى مقالاته البديعة فى اأخبار الأدبب عن ضرورة الاهتمام بترجمة الأدب المصرى والعربى عموما إلى اللغات الأخرى، فالعالم يعرف الكثير عن ماضينا وواقعنا السياسى المأزووم فى حين يجهل كم الإبداع الثقافى المتفجر بالعربية والذى رغم وجود بعض الجوائز التى تلتزم بترجمة الأعمال الفائزة إلى اللغات الأخرى إلا أن العدد لايزال قليل جدا.