الدولة من حسن الطالع قد حرصت أن تأتي صورتنا الخارجية في تناسق مع القواعد ومتطلبات الصنعة ووظيفية الدور

في السياسة كما في الفن، لاغني للصورة عن الإطار، ولاقيمة للإطار غالباً دون الصورة، والصورة هنا هي ملامح ورتوش سياستنا الخارجية مع عبد الفتاح السيسي، والإطار هو محاور الحركة وأبعاد التوجه وحدود الدور وطرائق الممارسة ومنطلقات الأداء. ولئن جاءت صورة سياساتنا الداخلية في معظم الأحيان كما الفن السريالي المتحرر من كل القواعد والأطر فتلتبس علي الناس الرؤية ويحارون في فهمها والتجاوب معها، إلا أن الدولة من حسن الطالع قد حرصت أن تأتي صورتنا الخارجية في تناسق مع القواعد ومتطلبات الصنعة ووظيفية الدور. من هنا جاء ترحيبنا بتوجه جاد نحو استعادة دورنا القومي في محيطنا العربي وقارتنا الإفريقية بما يتجاوب مع رؤيتنا لعلاقات دولية متوازنة بين الشرق والغرب، واستعادة عبق تاريخ طويل في مسيرتنا الإفريقية التي كانت ركيزة أساسية تنطلق منها مصر في صناعة دورها وتأثيرها الدولي كما حددها عبدالناصر في «فلسفة الثورة»ضمن الدوائر الثلاث العربية والأفريقية، ودائرة العالم الإسلامي.ولقد مرت علاقاتنا مع قارتنا الإفريقية بمراحل ثلاث، مثلت الأولي قوة التماهي والتوهج مع جمال عبد الناصر، ومثلت الثانية مرحلة الفتور والركود مع أنور السادات بعد كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل في 1979، وجاءت بعدها مرحلة التباعد والانقطاع مع حسني مبارك بعد محاولة اغتياله في أديس أبابا 1995.
مثلت مصر عبدالناصر و23 يوليو الحاضنة الكبري لحركات التحرر الأفريقي بل والعالمي، فلم تظهر حركة تحرر أفريقية إلا واحتضنتها القاهرة، ووفرت لها الدعم والتدريب والتسليح والاستضافة والتمويل ونظمت المخابرات المصرية نقل الأسلحة وتوصيلها إلي مناطق المقاومة وتأمين وصول الفرق الثورية بعد تدريبها في معسكرات الصاعقة المصرية وثكنات الكلية الحربية إلي بلادهم، ووقفت تدافع عن قضيتهم في المحافل الدولية وتحشد العالم حول حق المقاومة المسلحة وسعيها نحو الاستقلال والحرية. عندما قامت ثورة يوليو كانت أربع دول أفريقية فقط في طريقها للاستقلال وبفضل جهود ناصر والثورة تحررت ثلاثون دولة أفريقية في عام 1963 وكانت نواة كون منها منظمة الوحدة الإفريقية التي اختار لها عبدالناصر بنفسه أديس أبابا مقراً لها، لتوالي العمل من أجل تحرير باقي دول القارة.
في فيلا أنيقة من دورين محاطة بحديقة صغيرة في شارع أحمد حشمت بالزمالك استضافت مصر 38 حركة تحرر وطني أفريقي، كان يملكها أستاذ مصري بجامعة القاهرة هو محمد عبدالعزيز إسحاق، حيث تأسست فيها الجمعية الأفريقية رأسها السفير محمد نصر الدين، وكلفهما عبدالناصر برعاية الطلاب الأفارقة والثوار وتأمين إقامتهم ووصول أصواتهم لبلادهم عبر إذاعة صوت العرب، وكان يشرف عليهم السفير محمد فايق ممثل عبدالناصر للمنظمة الأفريقية وضابط المخابرات المصرية محمد فتحي الديب رجل عبدالناصر القوي ومعهم فتحي رضوان ويوسف السباعي وأحمد حمروش ومرسي سعد الدين والسفراء فيما بعد أحمد حجاج وأحمد أبوزيد وقد سمعت منهما تفاصيل القصة كاملة كما رواها أيضاً السيد أمين هويدي رئيس المخابرات العامة الأسبق حين دعوته لاحتفال بـ 23 يوليو في الجمعية الوطنية بالإسكندرية.
تحولت الجمعية الإفريقية بعد نضال كبير إلي منظمة الوحدة الأفريقية، وتحول عبدالناصر بعدها إلي محرر إفريقيا كما سيمون بوليفار الأب المؤسس لتحرر امريكا اللاتينية. لم يتوقف عبد الناصر عند هذا الحد بل قام ورجاله الوطنيون ومعهم السيد محمد غانم بطل المخابرات المصرية بتأسيس شركة النصر للتصدير والاستيراد في أبيدجان بساحل العاج ثم تنزانيا ووصلت فروعها 25 في إفريقيا حيث حاصرت التدخل الإسرائيلي والمد الاستعماري في القارة. لم تنفطع علاقات ناصر بالقارة بعد تحررها بل ساهمت مصر في تنمية القارة وتحديثها، حتي أن غالبية الدول الإفريقية قاطعت إسرائيل بعد 1967. واحتفظت مصر بعلاقات قوية بهؤلاء الرجال الذين أصبحوا قادة تاريخيين للقارة، ونظروا دائماً لمصر باعتبارها القائد ولناصر باعتباره الزعيم والمحرر. ولم ينفرط العقد إلا بعد توجه السادات لأمريكا وإسرائيل وأدار مبارك ظهره لإفريقيا.
كلف عبدالناصر الدكتور بطرس غالي بتأسيس الصندوق الفني لدعم إفريقيا الذي أرسل أساتذة الجامعات والأطباء والمعلمين والمهندسين والكوادر العلمية لدول القارة. وأسس مدينة البعوث الإسلامية لإستضافة أبنائهم الدارسين في الأزهر والجامعات المصرية في منح دراسية. لقد أعطت مصر عبدالناصر للقارة فبادلتها العطاء، وعندما تنكرت لها عاشت إفريقيا منسلخة عن مصر الحاضر، محتفظة في ذاكرتها المؤسسية ببطولة الزعيم ومواقفه ونضاله.
كانت هذه هي الصورة عن علاقاتنا الإفريقية، التي نحاول اليوم استعادة بريقها وترميمها لتكون رصيداً لدور مصري إقليمي ودولي منشود، ولعلها تكون ركيزة في سياسات فاعلة وربما ضاغطة علي بعض من يحاولون الإضرار بالمصالح الحيوية الاستراتيجية لمصر، أو استغلال قضية سد النهضة للنيل من بلادنا، فإلي جانب خيارات مصرية أخري من المؤكد أن مصر تعد لها، يأتي التقارب المصري الإفريقي داعماً لها. فمنذ شارك الرئيس السيسي في قمة الإتحاد الفريقي في «مالابو» بغينيا الاستوائية بعد أيام من توليه الرئاسة في يونيو 2014، وقد نجح في استقطاب الدول الإفريقية نحو توجهات نظامه وثورة الشعب في 30 يونيو، وبدا أن في الأفق مستقبلا واعدا، فقد تعددت زياراته للأشقاء وتعاونه بل وتمثيله للقارة الأفريقية في مؤتمر المناخ بباريس، وتحدث بصوت إفريقيا، وأعلن عن تأسيس «وكالة التنمية الأفريقية» وصولاً إلي افتتاحه السبت الماضي لـ «منتدي أفريقيا 2016» بشرم الشيخ تحت مظلة الاتحاد الفريقي بالتعاون مع منظمة «الكوميسا» وهي السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا حيث 19 دولة أفريقية من ليبيا إلي زيمبابوي. وقد سبقه في يونيو من العام الماضي في شرم الشيخ أيضاً توقيع اتفاقية التجارة الحرة للتكتلات الاقتصادية: الكوميسا والسادك «تجمع تنمية الجنوب الإفريقي» ومجموعة دول شرق أفريقيا، توطئة لتأسيس منطقة التجارة الحرة للاندماج الإقليمي.
هكذا تكون المبادرات، فالدول مصالح، والذكي من يحتمي بمحيط إقليمي داعم ومتضامن ومشارك، وقائم علي دعائم قوية ومستمرة. وعلينا أن نوثق هذا التعاون وتلك الشراكة ببرامج تبادل ثقافي بين دول القارة التي لاتكاد أجيالنا الجديدة تعرفها، فأفريقيا دول حضارات قديمة، ظلمتها الظروف بالاستعمار ونظلمها إن لم نقم معها وفيها مراكز تبادل ثقافي تحمل اسم ناصر الذي لايزالون يرفعون صوره في كل أزمة، ولتقم حركة ترجمة نشطة للأدب الأفريقي والفنون والمسرح والموسيقي والسينما، ولانترك أفريقيا للتجار المغامرين الذين يستوردون من العالم بأكثر من ستين مليار دولار بينما حجم التجارة البينية مع أفريقيا لايجاوز الأربعة مليارات. ولتفتح الجامعات المصرية آفاقاً جديدة للتعاون مع مثيلاتها الإفريقية، ولتكن لدينا منح وبعثات مجانية من الجامعات الخاصة في إطار رؤية مشتركة مع الدولة، ونتمني أن نري صفحة أسبوعية في كل جريدة مصرية عن أفريقيا وأن يصحو التليفزيون المصري ليقدم برنامجاً ولو أسبوعياً عن شركاء الجوار في التاريخ والحضارة والمستقبل.
هكذا هي الصورة، وهكذا يكون الإطار.