بدأت علاقتي بالاستاذ هيكل قبل أن أتم العاشرة.
العام ١٩٦٨ كان تدشينا لاهتمام استمر حتي اليوم.
كان أبي رحمه الله قارئا نهماً، لاحظت حرصه الدائم قبل صلاة الجمعة علي قراءة مقال طويل، يبدأ في الصفحة الأولي للإهرام، ثم يتابع بقيته علي صفحة كاملة داخل العدد ، سألته عما يقرأ، رد باقتضاب:
- هيكل.
منذ تلك اللحظة لم أكتف بمداومة الاطلاع علي مقال «بصراحة» بعد أن يفرغ الوالد من قراءته، لكني تذكرت ان اسم محمد حسنين هيكل يتصدر غلاف أكثر من كتاب في المكتبة التي كان أبي حريصا علي تغذيتها بكتب يري وجودها مهما لابنه المغرم بالقراءة، إن لم يكن اليوم فغداً.
في هذه السن المبكرة ألفت اسلوب هيكل بعد قليل من «التعتعة» وصعوبة الفهم أحيانا، ومن «بصراحة» الاسبوعية، إلي ما توافر من كتب في مكتبة الوالد، أصبحت قراءة هيكل طقساً اعتيادياً.
«إيران فوق بركان» أول ما قرأته من كتب، وشغفني اسلوبه، وحينما أقدمت علي قراءة «أزمة المثقفين» واجهت قدرا من الصعوبة، فأعدت قراءته علي مهل، وما لبثت حتي اعتدت مفرداته، وتركيبات جمله، وجمالياته، حتي اسهابه ومرادفاته سامحته عليها، اذ كان يجذبني أكثر الكتابة، البعيدة عن ذلك، إلا أن كتابات هيكل كانت الاستثناء الذي اغفره لصاحبه.
علي هذا المنوال استمرت العلاقة بين قاريء نهم، وكاتب مختلف وفقا لتقييم صبي يتطلع للصحافة، دراسة ومهنة ومستقبلا، ساهم في رسم ملامحه إعجاب شديد بما يكتبه الصحفي الأول في مصر.
وعلي مدي نحو ثلاثة اعوام هكذا كان هيكل بالنسبة لي، كما الملايين من قرائه، علي امتداد الفضاء العربي، حتي كانت المفاجأة التي حملها عام ١٩٧٠
> > >
هيكل وزيرا.. هكذا جاء في الخبر، لكنه سوف يواصل مهمته في الاهرام، رئيسا للتحرير، وكاتبا لـ «بصراحة»
ثم وقع خبر وفاة عبدالناصر، بعدها بقليل، وقع الصاعقة، فأعتذر هيكل عن الوزارة، وتفرغ تماما للأهرام.
إلا أن الرجل الذي اقترب من عبدالناصر، لم يبتعد عن السادات منذ ساهم في حسم خلافته لناصر، ومع احتدام الصراع مع المجموعة التي تم وصفها بـ«مراكز القوي» انحاز هيكل للسادات -مرة أخري- ليحسم الاخير الصراع لصالحه، ويواصل هيكل تأثيره علي مسارات السياسة المصرية إلي جانب السادات، فتكون إحدي قدميه في الصحافة والأخري في السياسة.
لكن لا السياسة، ولا الصحافة، لم تثن احداهما أو كلتاهما هيكل عن الكتابة الطويلة، فألف «عبدالناصر والعالم» ثم جمع أحاديثه مع قادة آسيا بين دفتي كتابه «موعد مع الشمس» الذي كانت حواراته دروساً بليغة في فن الحوار الصحفي، وكانت حصاد رحلة استغرقت شهراً جاب خلاله هيكل كلا من الصين، اليابان، بنجلاديش، الهند، وباكستان.
ثم كتب هيكل التوجيه الاستراتيچي لحرب أكتوبر، ثم صاغ أول خطاب للسادات أمام البرلمان بعد الحرب في ١٦ أكتوبر، ليعلن فيه الرئيس خطته لمرحلة ما بعد الحرب.
جاءت نهاية ١٩٧٣ لتشهد خمائر الافتراق بين السادات وهيكل، حتي كان صباح ٢ فبراير ١٩٧٤ عندما نشرت الصحف القرار الرئاسي بإنهاء عمل هيكل في الاهرام، وتعيينه مستشاراً لرئيس الجمهورية.
اعتذر هيكل، وبدأت مرحلة أخري متباينة نوعياً مع كل ما سبق في حياة الجورنالجي العتيد.
> > >
علي مدي أكثر من ثلاثة عقود تقلب هيكل بين أنواع الملكية الصحفية من «الايچبشيان جازيت» المملوكة لـ«ايسترن كومباني» إلي آخر ساعة المعبرة عن الوفد إلي «أخبار اليوم» و «الأخبار» لصاحبيها علي ومصطفي أمين انتهاء إلي الإهرام.
حتي المحطة الأخيرة كان هيكل صحفيا بالمعني الشامل للكلمة، سواء أكان محرراً أم رئيساً للتحرير، لكن حقبة الأهرام أتاحت لـ«هيكل» مالم تتحه ما سبقها من محطات.
في «الاهرام» استطاع هيكل أن يعيد بناء الدار العريقة وفق مفهوم المؤسسة، فلم يكن للمتأمل في تجربة «هيكل» أن يغفل عن عمده أن يكون إلي جانب حرصه علي تأسيس مدرسة صحفية مغايرة لـ«روز اليوسف» و«أخبار اليوم» أن يدير «الاهرام» وفق قواعد تترجم مفهوم المؤسسة الحديثة في كافة المجالات، التحرير، الادارة،الاعلانات، التوزيع ، المطابع.
في «الاهرام» أيضا- وكما هو الحال في كبريات المؤسسات الصحفية في العالم أطلق «هيكل» بدعم من عبدالناصر مركز الدراسات الاستراتيچية الذي واكب انتقال «الاهرام» إلي مبناه الجديد، وقبل أن يغادر الدار التي حولها الي مؤسسة اطلق «هيكل» عدة مراكز متخصصة، للدراسات الصحفية وتوثيق تاريخ مصر المعاصر.
هكذا، بلور هيكل- عمليا- المؤسسة فكراً وتطبيقاً.
> > >
كان التحدي الاعظم في حياة هيكل- كما يبدو لمن يتأملها- ألا يكون خروجه من «الاهرام» نهايته، ولم يتجاوز حينذاك الخمسين من عمره.
قبل «هيكل» التحدي، ومن المؤسسة التي صاغها في الاهرام أخذ علي عاتقه أن يتحول بذاته إلي مؤسسة.
هكذا كرس «هيكل» أكثر من أربعة عقود تالية ليصبح «الصحفي - المؤسسة» وليتحول إلي ما يشبه الاسطورة في تاريخ الصحافة العربية، بل والعالمية.
انطلق «هيكل» إلي مرحلة الانتاج الغزير للكتب كما وكيفا، عشرات الكتب التي تم ترجمة معظمها إلي العديد من اللغات، بل انه كتب بعضها بالانجليزية، لتترجم إلي العربية وغيرها من اللغات بلغ احيانا نحو ٣٠ لغة.
«هيكل - المؤسسة» لجأ إلي شاشة التليفزيون ليواصل مسيرته، بعد أن كتب آلاف المقالات والتقارير، وألف عشرات الكتب، وكأنه يؤكد حيوية فكرة المؤسسة لديه، وقابليتها للتعامل مع الجديد دائما، من ثم فإنه عدل عن «استئذانه في الانصراف» عام ٢٠٠٣ بعد أن أتم عامه الثمانين، ليواصل «حضوره» حتي قبل مرضه الاخير بأسابيع قليلة، وربما كان لسان حاله أن المؤسسة الحقيقية قد تصعد أو تهبط، أو تدور حول نفسها، لكن وجودها لا ينقطع.
> > >
عاش «هيكل» رقماً صعباً بين الصحافة والسياسة، بين الفكر والتاريخ، أصاب وأخطأ حين اجتهد في تفسير التاريخ، واذا كان قد اقترب في عيون محبيه من مرتبة الاسطورة، إلا أنه يظل ظاهرة وصاحب تجربة فريدة تحتاج إلي مزيد من التقييم، الذي يفيد «هيكل» تماما، كما يرفد المهنة التي نذر لها عمره بدروس وعبر لأجيال تابعت «هيكل» مرة وقد رفعه المتحمسون للتجربة إلي مرتبة التقديس، بينما لم يسلم من هجمات من رموه بالسهام، من ثم فإن تجربة «الصحفي - المؤسسة» مازالت بحاجة إلي ماهو أكثر وأدق من مجرد التأملات.