وسيظل النيل يجرى
وسيظل النيل يجرى


وسيظل النيل يجرى

آخر ساعة

الأحد، 18 يوليه 2021 - 11:20 ص

 

حسن حافظ

إذا بحثت فى كتب التاريخ وفتشت فى مجلدات الجغرافيا، لن تجد مثل العلاقة التى ربطت بين المصريين ونيلهم، فعلى مدار آلاف السنين ظل النيل حامل النعم للمصريين، الذين قدسوه حتى العبادة، واحترموه حتى القداسة، حوّل أرضا صحراء إلى واحة خضراء قامت عليها حضارات كانت منارات للعالم، شارك المصريين صناعة حضارتهم، كانت مصر هبة المصريين للعالم، وكانت مصر هبة النيل كما قال هيرودوت فى قول يردده التاريخ والحاضر والمستقبل، فالنيل سيظل يجرى يحمل الخير لمصر والمصريين، شاء من شاء وأبى من أبى.

عاش الفلاح المصرى قصة عشق من نوع خاص مع النهر الخالد، ينظم دورة حياته منذ آلاف السنين على إيقاع النيل، عندما تأتى المياه التى أراد الله لها أن تخرج من وسط أفريقيا بلا مانع يحجزها ولا بشر يوقفها، إلى صحراء مصر فتشقها إلى نصفين حاملة الطمى والمياه فتجعل حياة الفلاح سهلة يزرع ثلاثة أشهر فى العام ويحصد فى مثلها، ليتفرغ لبناء حضارة كانت فخر أفريقيا وهديتها الأعظم للعالم كله.

كانت ولاتزال أعجوبة مصر فى هذه الكيمياء الخاصة بين النهر المعطاء والشعب صانع الحضارات، فالنهر يمر بالكثير من الأقاليم والبلدان، لكنه لا يترك علامة إلا على أرض مصر، وكثير من الشعوب يمر بها الأنهار الأكثر ضخامة من نهر النيل، لكن لا حضارة بعظمة ما صنع المصرى فى مختلف الحقب والتواريخ، هنا معادلة سحرية مصنوعة برعاية إلهية، أطلق عليه المصريون لفظ «أترو عا» أى النهر العظيم، وهى كلمة لاتزال حية فى الريف المصرى باسم «ترعة». 

شكل النيل هوية المصريين فى إطار تفاعل حر بينهم وبينه، جلس الفلاح المصرى على ضفاف النهر، يتعلم منه الصبر فى انتظار لحظة الفيضان الضرورية لزراعة أرض لا تعرف إلا مياه النهر، يتعلم المصرى فنون النحت وتشكيل الطمى ليصنع لبنات الحضارة وهو ينتظر ما يجود به النهر، لكنه تعلم من النهر درسا آخر، وهو أن الصبر لا يعنى الخنوع، بل إن الصبر مقدمة لمن يفهم قبل انفجار المصري، الذى لا يقبل الظلم فينفجر كفيضان النهر فى عنفوانه فيزيح الجميع من طريقه، هكذا كانت شخصية المصرى على مختلف الأزمان فى الماضى والحاضر والمستقبل، ولا يظنن أحد أنه يستطيع أن يحرم المصرى من حقه.

لم يكن غريبا أن يجعل المصريون القدماء من النيل معبودا لهم وأطلقوا عليه اسم «حابي»، كان إلها للخير والسعادة، فالخير يحمله النهر للمصريين سنويا فى صورة الماء والطمي، والسعادة تتلخص فى بهجة مزارع يرى ثمرة زرعه وقد أينعت وحان وقت قطافها، لذا كان النهر فى كل حين وعصر محل تقدير المصريين الذين ألفوا حوله الكثير والكثير من الكتب والأغانى والأناشيد التى تتحدث بنعمه وفضله.

اللُحمة بين المصريين ونهر النيل، أول ما لاحظه العرب بعد فتح مصر، لذا لم يكن غريبا أن يأتى وصف عمرو بن العاص لمصر فى رسالة بعثها إلى الخليفة عمر بن الخطاب، محوريًا فى فهم العلاقة الخاصة بين النيل ومصر، فقد طلب أمير المؤمنين أن يصف له واليه على مصر أحوالها ونيلها وأوضاعها، كأنه حاضرها ويعيش بين أهلها.

جاء وصف عمرو بن العاص بليغا، إذ كتب وهو يجلس فى فسطاطه والنيل غير بعيد عن ناظريه: «أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنها تربة غبراء، وحشيشة خضراء، بين جبلين... ورزقها ما بين أسوان إلى منشأ من البر. يخط وسطها نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، يجرى بالزيادة والنقصان، كمجارى الشمس والقمر».

ثم يتحدث والى مصر عن فيضان النيل الذى يحوله إلى بحر عريض فـ «لم يبق الخلاص إلى القرى بعضها إلى بعض، إلا فى خفاف القوارب، أو صغار المراكب، التى كأنها فى الجبائل ورق الأبابيل. ثم أعاد بعد انتهاء أجله نكص على عقبه، كأول ما بدأ فى دربه، وطما فى سربه».

يتابع عمرو بن العاص شرح الطبيعة الخاصة للعلاقة الأزلية بين الفلاح المصرى والنيل، فيصف حال المصريين بعد انتهاء الفيضان وحلول أوان الزرع: «ثم انتشرت بعد ذلك أمة مخفورة، وذمة مغفورة، لغيرهم ما سعوا به من كدهم، وما ينالون بجهدهم، شعثوا بطون الأرض وروابيها، ورموا فيها من الحبّ ما يرجعون به من التمام من الرب، حتى إذا أحدق فاستبق وأسبل قنواته، سقى الله من فوقه الندى، ورواه من تحت بالثرى».

بل نرى الصحابى الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص، يسميه «سيد الأنهار»، فهذه الروح القائمة على الاحترام الكامل لنهر النيل، استمرت مع استقرار العرب فى مصر وتعربها، فجاءت كتابات المؤرخين والجغرافيين المسلمين من سكان مصر وغيرها من الأقاليم على قلب رجل واحد، يتحدثون عن «سيد الأنهار» وأشرفها، النهر الذى ينبع من الجنة لجلالة قدره وعظم فوائده، واقع أقرته شهادات الجغرافيين الكبار أمثال ابن حوقل والبكرى والإدريسي، وهو ما لخصه لنا ياقوت الحموى فى كتابه الشهير «معجم البلدان».

يرى ياقوت الحموى أن نهر النيل هو سيد الأنهار لعظم ما يسقيه من الديار المصرية، وعليها اعتماد المصريين فى حياتهم، ويلخص عظمة هذا النهر قائلا: «أجمع أهل العلم أنه ليس فى الدنيا نهر أطول من النيل؛ لأن مسيرته شهر فى بلاد الإسلام، وشهران فى بلاد النوبة، وأربعة أشهر فى الخراب حيث لا عمارة فيها، إلى أن يخرج فى بلاد القمر خلف خط الاستواء... ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة ومذاقا واتساع قطر وعظم منفعة، والمدن والقرى بضفتيه منتظمة، ليس فى المعمور مثلها، ولا يُعلم نهر يزدرع عليه ما يزدرع على النيل».

علاقة المصريين بالنيل تجلت فى الأدب والشعر فى كل زمان، ربما يكون للعصر الحديث نصيب الأسد من هذا الاحتفاء بالنهر العظيم، سواء فى صورة دراسات أكاديمية مثلما هو حال الدراسة الرائدة لمحمد عوض محمد بعنوان «نهر النيل»، مرورا بكتاب «نهر النيل.. نشأته واستخدامه ومياهه فى الماضى والمستقبل» لرشدى سعيد، وكتاب «النيل فى خطر» لكامل زهيري، وليس انتهاء بكتاب أحمد السيد النجار «نهر النيل.. الأساطير.. الحقوق والصراع المصرى الإثيوبي».

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة