الرواية الصوفية
الرواية الصوفية


الغيطانى قدم أول رواية متكاملة فى الأدب العربــــى مـن هذا النوع

«الرواية الصوفية» تزدهر فى عصــر المــاديــة

آخر ساعة

الأحد، 18 يوليه 2021 - 01:24 م

حسن حافظ

فى عصر طغيان المادة وشيوع الإيقاع السريع الذى يهمش العلاقات الإنسانية، ظهرت الرواية الصوفية وازدهرت فى مصر والعالم العربي، وباتت إحدى علامات المشهد الروائى البارزة، تركز على الروحى وما يتعلق بصلة الإنسان بالكون الرحب والإله المتعالي، وبين الواقع بتعقيداته، تطرح الكثير من الأسئلة الصعبة التى تدور حول حيرة الإنسان الأبدية وبحثه المحموم عن إجابات لكل أسئلته.

تستند الرواية الصوفية على تراث عريق ينهل من تجارب الحلاج وابن عربى والنفرى ورابعة العدوية وغيرهم الكثير. وبدأت تدخل العالم الروائى العربى من بوابة نجيب محفوظ واكتملت فنيا على يد جمال الغيطاني، وتشهد حاليا ازدهارا فى مصر والعالم العربى يبشر بالمزيد من الأعمال الناضجة على مستوى المتخيل والتجريب، خصوصا أن نجاح رواية «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركية أليف شافاق التى ألفتها عام 2010، وترجمت إلى العربية ساعدت فى انتشار الرواية الصوفية ورواج سوقها.

ازدهرت كتابة الرواية الصوفية عربيا منذ ثمانينيات القرن العشرين، بداية من مصر مع اشتداد الحرب على الإرهاب ومواجهة خطاب العنف والتشدد، فجاء الالتجاء الروائى للعالم الصوفى بما يمثله من احترام للتنوع والقبول بالاختلاف والانشغال بالذات على التدخل فى أمور الآخرين، والتركيز على الحب الإلهى ومحبة البشر باعتبارهم مخلوقات الله، والبعد عن الكراهية وتكريس قيم التسامح والانفتاح على الآخر، فضلا عن مواجهة دعوات التغريب فى الأدب العربى بالعودة إلى التراث للنهل منه، كما شكل النجاح العالمى لرواية «قواعد العشق الأربعون» فى زيادة الاهتمام بالنصوص الصوفية والروايات التى تخرج من رحم التفاعل مع النص الصوفى، ما أدى إلى رواج الكتابة الروائية عن الصوفية خصوصا بعد فوز رواية «موت صغير» الصوفية لمحمد حسن علوان بجائزة بوكر العربية عام 2017.

وضع عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بذور الرواية الصوفية فى أعماله فحقق ريادة تتصل بتجريبه مختلف أشكال الرواية وأنماطها، فالدرويش والصوفى حاضر فى معظم أعماله، مثل «الثلاثية» و«اللص والكلاب»، كما قدم فى قصته القصيرة البديعة «الزعبلاوي» نفسا صوفيا، إذ لا يجد من يبحث عنه إلا فى حالة من السكر الشديد فى مماثلة لحالة النشوة التى يصل إليها الصوفى، كما قدم رؤية صوفية تعكس معالجته للكثير من القضايا الفلسفية تتمحور حول الوجود الإنسانى فى أعمال «قلب الليل» و«رحلة ابن فطومة»، فضلا عن عمله الرئيس «أولاد حارتنا».

ريادة محفوظ فى إبداع الرواية الصوفية، ترسخت عبر كل من تأثر به من الكتاب المصريين والعرب، فإدوار الخراط الذى انقلب على ميراث الأستاذ ومدرسة الواقعية، واعتمد على الذاتية فى بناء أعماله الروائية قدّم تجربة صوفية شديدة الخصوصية فى رواية «رامة والتنين» 1980، ثم فى الجزء الثالث منها «يقين العطش» 1996، ويقدم الخراط نماذج صوفية مستوحاة من ذى النون المصرى وابن الفارض والحلاج، فقدم خطوة إلى الأمام فى استيعاب النص الصوفى فى بنية الرواية المصرية، خاصة أنه سبق أن صرح بأن «الصوفية من الحالات الإنسانية الفذة التى لها سحرها ومصداقيتها الأساسية».

ووصلت الرواية الصوفية فى المشهد المصرى إلى ذروة اكتمالها على يد ابن الجمالية جمال الغيطاني، الذى نستطيع القول إنه أول من كتب الرواية الصوفية المكتملة، عبر عمله الاستثنائى فى بنيته ولغته «التجليات» 1983، إذ استعار الغيطانى أدوات الكتابة الصوفية، وكشف عن اطلاع عميق على اصطلاحات الصوفية، فجاءت رواية «التجليات» بأسلوب جديد غير مألوف فى العربية، فجاء النص مشبعاً بالروح الغرائبية التى تميز العالم الصوفى، بل إن القسم الثانى من الرواية بنى على استعارة فكرة المواقف من كتاب «المواقف والمخاطبات» للنفري، فضلاً عن الاستشهاد بنصوص صوفية من مختلف الفترات التاريخية، وقد أبدع الغيطانى فى هذا المجال وكشف عن ولع بالرواية الصوفية فقدمها مجددا فى روايات «رسالة فى الصبابة والوجد» و«متون الأهرام» و«دنا فتدلى».

واستمر العطاء المصرى فى فن الرواية الصوفية، فقدم بهاء طاهر رواية «نقطة نور»، وأحمد شمس الدين الحجاجى رواية «سيرة الشيخ نورالدين»، وعبدالكريم قاسم رواية «أيام الإنسان السبعة»، وعمار على حسن رواية «شجرة العابد»، وأحمد عبدالمجيد رواية «عشق»، وهدى نور رواية «درويش»، و«صوفى»، بينما قدم الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور مسرحية «مأساة الحلاج». أما على المستوى العربى فقدم السودانى حمور زيادة رواية «شوق الدرويش»، والسعودى محمد حسن علوان رواية «موت صغير»، والإماراتى عادل خازم رواية «الظل الأبيض»، والأردنى يحيى القيسى رواية «الفردوس المحرم».

وفى المغرب ظهر الصوت الروائى الصوفى قوياً، منذ تسعينيات القرن العشرين، فكتب بنسالم حميش رواية «مجنون الحكم»، وكذلك روايته «هذا الأندلسي» عن المتصوف الأندلسى ابن سبعين، كما كتب مصطفى لغتيرى «الأطلسى التائه»، وكتب موليم العروسى رواية «مدارج الليلة الموعودة»، وكتب سليم مطر كامل رواية «التوأم المفقود»، وكتب سلام أحمد إدريسو رواية «شجرة المريد: بئر السيد». أما عبد الإله بن عرفة فقدم سلسلة من الروايات التى تدور فى فلك الصوفية، منها «جبل قاف» والتى تدور حول حياة الصوفى الكبير ابن عربي، ورواية «الجنيد.. ألم المعرفة»، و«طواسين الغزالي»، عن معاناة الغزالى ووصوله إلى العرفان عبر تجربة صوفية، ضمن سلسلة يطلق عليها الموسوعة الروائية التاريخية العرفانية.

من جهته، حلل الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، ظاهرة الرواية الصوفية قائلا لـ«آخرساعة»: «حضور التجربة الصوفية، فى الرواية المصرية والعربية، وفى غيرها أيضاً، أصبح يمثل الآن تياراً واضحاً، كما نلاحظ جميعاً. كان هذا الحضور، على مستوى من المستويات، قائماً فى فترات سابقة، فى روايات متفرقة كتبها بعض الكتاب، لكنه الآن اتخذ أبعاداً جديدة، حيث أصبح تقريباً يمثل سمة مهيمنة على نتاج عدد من الكتاب والكاتبات، وارتبط كذلك بوجود ما يشبه (التنظيرات) النقدية له، ولعل من أوضح هذه التنظيرات ما قدمه الكاتب والناقد المغربى عبدالإله بن عرفة، صاحب عدد من الروايات تنتمى إلى ما يسميه (الرواية العرفانية)، وهى تسميته المختارة للروايات التى تنحو منحى صوفياً، وقد كتب أيضا تنظيرات نقدية مهمة حول جماليات الرواية العرفانية عموماً».

وأشار إلى أن «الكُتاب والكاتبات الذين ساروا وسرن فى هذه الوجهة، استكشفوا عوالم متنوعة للتناول، ومساحات جديدة للتعبير، كلها مقترنة بما تتيحه عوالم التصوف من إمكانات رحبة، تصل من جهة بين انشغالات العالم الواقعي، الملموس والمتعين، والمرتبط بسياقات بعينها فى أزمنة وأماكن ووقائع بعينها، وتحليقات الروح وتأملات العلاقة بين الإنسان والكون من جهة أخرى. وقد أفاد هؤلاء الكتاب والكاتبات مما تستدعيه تجارب (التجلي) و(الإشراق) و(التأمل) والتحليق الخيالي، داخل الذات وخارجها، من إمكانات واسعة للحركة وللتعبير فى إبداعاتهم، وهى إمكانات تقارب حدود العجائبية والفانتازيا وتتجاوز هذه الحدود أيضا. قد سمح لهذه الإمكانات بالحضور فى فن الرواية، بوجه خاص، ما يتسم به هذه الفن من مرونة واتساع».

وتابع: «الشكل الروائى شكل قيد التشكل وإعادة التشكل باستمرار، وهو مشروع يعتمد دائما على المغامرات التى تختبر حدود النوع، وتضيف إلى المعروف والمتعارف منه ما ليس معروفًا ولا متعارفًا. وبهذا المعنى، يمكن تفسير حضور تجربة الصوفية فى روايات كثيرة الآن، بما يشبه تياراً أو (خط إنتاج) روائي. فالصوفية بها إمكانات جمالية وروحية رحبة ومتنوعة ومفتوحة على استكشافات واستبصارات لا حد لها، والشكل الروائى مرن وقادر على التجدد».. بدوره أرجع حسن الجوخ، القاص والناقد الأدبى، لجوء الأدباء والشعراء للنهل من كتب الصوفية إلى أن «التجارب الصوفية تعبر عن استبطان وجدانى دينى فيه مصداقية فى المشاعر، وأن كتب الصوفية وآراءهم قريبة متجذرة من قلوب ووجدان القارئ العربى والعالمي، فضلا عن أن كتب الصوفية بها العديد من الصور البلاغية الجميلة، كما أن لغة الصوفية مكثفة جدا وشفافة، لذا تضفير الاتجاه الصوفى فى تضاعيف الرواية الحديثة يمنحها عمقا فكريا ورقيا وجدانيا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة