الشباب ياسادة يشعر باغتراب عن وطنه وأنه مستبعد ومهمش وغير مرحب به، وسواء كان لدي البعض منهم حق فيما يدعونه أو يرونه أو حتي يتوهمونه إلا أنه ما أصعب شعور الغربة داخل وطن تحبه وتتماهي معه وتضحي من أجله

في كتابه «المقابسات» ذكر أبو حيان التوحيدي تحت عنوان «حكاية الفيل والعميان» أن نفراً من العميان انطلقوا إلي فيل، وأخذ كل واحد منهم يتحسسه بيده، فأخبر الذي مس القدم أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والربوة المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط عريض يمكن طيه ونشره. ذلك أن كل واحد منهم قد وصف بعض ما أدرك، وتمسك كل منهم برأيه وراحوا يتجادلون، ويقسم كل منهم أن ماصوره هو الحقيقة وماعداه كذب واجتراح.

فإذا أعملنا الفكر فيما صدر عن هؤلاء النفر، فلن تجد أحداً منهم محقاً تماماً ولامخطئاً بالكلية.إذ الحقيقة أن كلا منهم كان محقاً فيما وصف غير كاذب، وهو أيضاً غير محيط بالحقيقة إلا فيما لمسه وأدركه منها. إنها إشكاليات الإدراك والصورة الذهنية المسبقة عن الحقيقة وتهيؤاتها لا واقعها وماهيتها، وأحسب أنها كانت مشكلتنا في تاريخ الثقافة والفكر والعلم والأدب والسياسة، ولاتزال هي نفسها مشكلتنا حتي يومنا هذا.المقابسات واحد من ذخائر الفكر في مكتبتنا العربية، أنتجه واحد من أبرز أعلام الفكر العربي، أبو حيان التوحيدي، كما أنتج من أمهات الكتب: «الإمتاع والمؤانسة» في العصر العباسي بما اعتراه من اضطرابات سياسية واجتماعية كادت تعصف بالوجود العربي في دولة الخلافة.

قصة «الفيل والعميان»قصة موحية، ولها مدلولها إذا ما أسقطناها علي الأحاديث المتواترة في محيطنا السياسي العام وإعلامنا بجهله ونزقه وقصور رؤياه، فمنذ أن تداخل رئيس الجمهورية مع برنامج عمرو أديب بشأن مشكلة الألتراس وتعليقه الجرئ الشجاع عن عدم قدرة الدولة علي فهم الشباب والحوار معهم، وتحول الأمر إلي سامر منصوب يضرب فيه المتخصصون والمؤهلون بسهامهم التي تصيب مرة وتخيب مرات خصوصاً عندما تداخل في الأمر كثيرون ممن يتصدرون الواجهات وربما كانت حاجتهم أكبر ليستكملوا تعليمهم قبل التصدي لمثل هذه الأمور الحساسة، ولأنهم كانوا في معظم ما يطرحونه علي الرأي العام كما الدبة التي قتلت صاحبها من حيث أرادت حمايته والذود عنه. وبعيداً عن موقف القانون ومحاذيره والمواءمة السياسية ومقتضياتها في طرح الرئيس، الذي أحسب انه جاء مضطراً إليه لضعف أداء أجهزته ووزرائه، وعدم كفاءة كثيرين ممن حوله، فإن شجاعة الرئيس وواقعية طرحه قد أعطت إنطباعاً لدي العامة قبل الخاصة بأن جهاز الدولة المترهل وإعلامها المتعجل وكثيرين من المتنطعين في محيطنا العام هم أشبه ما يكونون بالعميان في قصة صاحبنا، إذ جاءت معالجاتهم للأمر مبتسرة قاصرة غير قادرة علي الإلمام بحدود الحقائق في أزمة الشباب مع الدولة، ولا كيف ينبغي الحوار معهم وتجسير الفجوة بين أفكارهم وأشواقهم وطموحاتهم ورؤية الدولة والتزاماتها التي تحاصرها مشكلات الداخل والخارج وكأنها في حرب وجود لا حرب ضد الإرهاب والتخلف والظلام وحدهم. فراح كل منهم يصف الأمر جزئياً كما لمسه سواء من قدم الفيل أو ظهره أوأذنه وانبساط خلقته، وتناسوا أن للشباب خصوصية لايعي أبعادها إلا من تعامل طويلاً معهم، ومن عاش وسطهم وتقلب في نفس مراحلهم، أو كان طرفاً في حوار وتفاعل وأخذ ورد مع الدولة حينما كان في مثل أعمارهم وطموحاتهم، وفي نفس خندق المعارضة لتوجهات الدولة في مراحل عمرية مماثلة. إذ لا يعرف الشوق إلا من يكابده.

الشباب ياسادة يشعر باغتراب عن وطنه وأنه مستبعد ومهمش وغير مرحب به، وسواء كان لدي البعض منهم حق فيما يدعونه أو يرونه أو حتي يتوهمونه إلا أنه ما أصعب شعور الغربة داخل وطن تحبه وتتماهي معه وتضحي من أجله، وكما قال صاحبنا أبوحيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»: «أغرب الغرباء من صارغريباً في وطنه»، فكيف أوصلنا الشباب إلي أن تكون وجوههم نحو الحائط؟ ببساطة لأن الدولة أوكلت أمورهم لمن هم ليسوا منهم أو علي شاكلتهم أو لمن لايتفهمون مشاعرهم وأفكارهم ومنطلقاتهم.

الشباب يرفض الوصاية والسلطة الأبوية، والدولة تعاملهم ليل نهار بارتياب وعدم ثقة، وتضعهم تحت الوصاية ولا يجدون من يسمعهم ويتفاعل معهم، وإذا وجدوا من هو مؤهل لذلك يكون من خارج إطار الدولة وله أجندته التي يوظفها لاستغلال الشباب والإنحراف بآمالهم وطموحهم وربما دفعهم للإصطدام مع الدولة. وعندما يقترح الرئيس بمسئولية ووطنية إجراء حوار معهم، تصيغه النخبة المتنفذة حول الرئيس علي أنه لابد من احتواء الشباب، أي ببساطة يفرغون مبادرة الرئيس من محتواها، وعندما يغضب الشباب تعاملهم الدولة بعناد ينزع للقهر والسجن والاستبعاد. ذلك أن بعض المسئولين لايستطيع التفرقة بين غضب الشباب الوطني المنتمي وإحباطه وبين قلة من عديمي الأدب والإنتماء من مزدوجي الولاءات أو المغيبين والعدميين الذين لا أمل فيهم ولا رجاء.

نعم الشباب فيل تضخمت قضيته كما ترهل حجمه وتراكمت مشاكله، وهو يحتاج لمن يفك شفرة خلقته ويعرف خصائصه ويسبر حقيقته ويتكلم نفس مفردات لغته، ومن ثم يستطيع التعامل معه وكسبه لصالح مستقبل وطنه، لا أن يدفعه للبطش والإغتراب والتهور والإنكفاء، وهذا عين ما يفعله كثير من مسئولينا ووزرائنا.

أذكر أن جيلي كان أكثر نزقاً وثورية وعنادا، ولم تقابلنا الدولة بالتجاهل أو القهر، بل دخلت معنا في حوار موضوعي وعقلاني، جاء سيد مرعي رئيس مجلس الشعب إلي الإسكندرية، كان ينزل في «البوريفاج» أوفده الرئيس السادات للحوار مع قيادات طلاب جامعة الإسكندرية، مهد لها قبله الوزير محمد حامد محمود وأمين الاتحاد الاشتراكي الوزير عيسي شاهين في لقاءات متعددة في مجموعات صغيرة في فندق سان استيفانو القديم، ثم التقانا الرئيس السادات، واستجاب لكثير من مطالبنا، وسمح لنا نحن المشاغبين كما كانت تصنفنا أمن الدولة وقتها لحضور دورات معهد ناصر الاشتراكي، وحاورنا عن قرب وباستمرار الوزراء مفيد شهاب وكمال رفعت وعبدالمحسن أبوالنور وحسين كامل بهاء الدين وعبدالأحد جمال الدين والدكتور أحمد مرسي أمين مساعد الشباب باللجنة المركزية، وكانوا من الثقافة والدربة السياسية ما استطاعوا معه احتواء غضبنا وتقليل الفجوة بيننا وبين الدولة. إن كثيرين من قيادات هذه المرحلة مازالوا موجودين كقيادات جامعية أو كتاب ومثقفين وسياسيين، وتعرف أجهزة الدولة التي تصر علي استبعادهم من المشهد العام أنهم القادرون علي الحوار مع الشباب والوصول بهم إلي رؤية تجمعهم مع الدولة وقضاياها وأن تحولهم بهذا الحوار المفقود من قنبلة موقوتة إلي قوة دفع حول رئيس طموح ودولة تسعي للنهوض والتقدم. هذا وإلا سنظل في ثنائية الشباب والدولة: الفيل والعميان كما وصفها أبوحيان التوحيدي.