عبد الحليم قنديل
عبد الحليم قنديل


عبد الحليم قنديل يكتب .. عبدالناصر الذى أمامنا

بوابة أخبار اليوم

الجمعة، 23 يوليه 2021 - 11:38 م

 

بقلم: عبد الحليم قنديل 
عبدالناصر أمامنا وليس خلفنا، نعرف ويعرف الكل ، أن جمال عبدالناصر رحل إلى جوار ربه قبل أكثر من خمسين سنة ، لكن مشروع عبد الناصر القومى العربى ، ومشروعه للنهوض المصرى العربى ، وقيمه وأفكاره ومعارك ثورته التأسيسية الكبرى ، كلها تظل تعيش بيننا طويلا طويلا ، نافذة بإلهامها الذى لا ينفد إلى أعماق الروح والضمائر الحية ، فى لحظة حيرة عربية شاملة ، تشهد مصارع كل أفكار وتجارب المعادين لعبد الناصر فى حياته وبعد مماته ، بينما "يعيش جمال عبد الناصر حتى فى موته" ، على حد نص المقطع الموحى لشاعر العامية المصرية العبقرى عبد الرحمن الأبنودى.

يعيش جمال عبد الناصر فى ضمائر المصريين اليوم ، وفى دعواتهم المباركة وأشواقهم الحارة ، وهم يرون صورته ناطقة بملامح مصر ، وتكاد تطابق جغرافيا البلد وتدفق الحياة فيها ، والوقاية من غوائل العطش والجوع ، والثقة والطمأنينة بقوة بلدهم المحمية المحروسة بإشارات السماء ، وهى تجئ بفيضان النيل غامرا فى العام تلو العام ، ففى عام 2019 ، كان فيضان النيل هو الأعلى على مدى خمسين سنة قبلها ، وفى عام 2020 ، كان الفيضان هو الأعظم على مدى مئة سنة سبقت ، ويجئ فيضان النيل هذا العام مرتفعا ، ويعبر حواجز السد الأثيوبى مع اخفاقات الملء الثانى الكاريكاتيرى ، ويصل إلى ذروته فى مصر كما كل سنة فى شهر سبتمبر ، الذى شهدت أواخره رحيل عبد الناصر ، وصد سده العالى لكل خطر من الفيضان ، وحجز أعلى مخزون مائى خلف السد فى "بحيرة ناصر" ، وهى أكبر بحيرة صنعها الإنسان فى الدنيا كلها ، يبلغ طولها 500 كيلومترا ، وأقصى عرضها 35 كيلومترا ، ومساحتها  6216 كيلو مترا مربعا ، وبارتفاع 180 مترا ، وبطاقة تخزين واصلة إلى 180 مليار متر مكعب من المياه ، أى ما يزيد على ثلاثة أمثال نصيب مصر التاريخى المقرر من مياه النيل ، والمقدر بنحو55.5 مليار متر مكعب سنويا ، فوق طاقات تخزين إضافية فى مفيض "توشكى" وغيره ، ترفع إمكانيات التخزين المصرى بحوالى مئة مليار متر مكعب إضافية ، توفر "بوليصة تأمين" شاملة للحياة المصرية ، حتى فى سنوات جفاف منابع النيل ، كما جرى فى ثمانى سنوات عجاف بين عامى 1979 و 1987 ، سرى فيها القحط  والتصحر فى أثيوبيا ، بينما لم يحس أحد بخطر ولا تغير فى الإيقاع المصرى اليومى ، فقد كان سد عبد الناصر العالى تطورا فاصلا فى حياة المصريين عبر آلاف السنين ، كان النيل يتحكم فى حياة المصريين قبل السد ، وصار المصريون مع السد سادة النيل ، كان النيل قبل السد مصدرا لنعمة ونقمة ، كان فيضان النيل يهب الحياة ، وكان غضب الفيضان يغرق ويدمر ، وكان جفاف النيل وغيضانه يؤدى لمهالك ومجاعات كبرى ، قصفت أعمار أجيال وراء أجيال من المصريين ، وعلى نحو ما تحدثنا عنه سير المآسى المصرية ، كما جرى مثلا فى "الشدة المستنصرية" بالزمن المملوكى ، كان المصريون وقتها لا يجدون زادا ، وأكلوا القطط والفئران ، بل ولحوم إخوتهم من البشر ، وكانت الزراعة مع الفيضان موسمية عابرة ، وكان الفيضان يذهب بغالب إيراد النيل إلى البحر المتوسط ، ولا يتبقى للمصريين سوى نحو خمسة مليارات متر مكعب سنويا ، برغم جهد المصريين الدءوب فى شق الترع والقنوات وتنظيم الرى فى دولتهم الأقدم كونيا ، وإقامة قناطر وخزانات فى دولتهم الحديثة ، كان أظهرها بناء "القناطر الخيرية" فى عهد محمد على عند نقطة تفرع النيل إلى "دمياط" وإلى "رشيد"  ، وكان أفضلها "خزان أسوان" وتعلياته المتتابعة من أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين ، كان سدا صغيرا جدا بالقياس لحجم السد العالى ، الذى كانت فكرته حلما راود مئات الأجيال من العلماء والوطنيين ، كان أبرزهم عالم الرياضيات العربى الشهير الحسن بن الهيثم (المتوفى سنة 1029 ميلادية) ، وقام بتحديث الفكرة المهندس المصرى من أصل يونانى "أدريان دانينوس" ، وقدمها إلى قادة ثورة 23 يوليو 1952 ، التى نمر اليوم بذكراها التاسعة والستين ، والتقط عبد الناصر فكرة السد الأعظم ، وجرى تكليف شركة ألمانية بإعداد التصميمات الأولية عام 1954 ، فى الوقت ذاته الذى بدأت فيه سيرة إقامة أول مصنع مصرى وعربى للحديد والصلب بحلوان ، ثم كان ما كان ، مما تعرفه أجيال عاشت اللحظة وتلتها ، من عقبات التمويل ، وانسحاب أمريكا وبريطانيا من تمويل المشروع ، ثم انسحاب "البنك الدولى" ، وإنهاء عرضه بتمويل ربع التكلفة ، ورفض جمال عبد الناصر لفرض أى شروط على مراقبة الخزانة المصرية ، أو عقد أى اتفاق تطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، أو التراجع عن خطة تنويع مصادر السلاح ، فى ملحمة صراع كبرى ، بلغت ذراها بتأميم عبد الناصر لقناة السويس ، والمقاومة الأسطورية لحرب العدوان الثلاثى (البريطانى الفرنسى الإسرائيلى) ، وانتصار مصر الحاسم ، الذى قطعت به ذيل الأسد الإمبراطورى البريطانى للأبد ، وهزمت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية بدعم حرب تحرير الجزائر ، وأحبطت خطط "ملء الفراغ" الأمريكية ، وأحلاف العداء لعبد الناصر وثورته ، التى ارتدت كالعادة ثيابا دينية مزيفة ، مع توالى قفزات التمصير والتأميم والتصنيع ، التى جعلت مصر الأعلى فى معدلات التنمية الحقيقية بالعام الثالث وقتها ، بما فيه "صين" ماوتسى تونج وشو إين لاى ، وفى قلب الفورة العظمى ، كان حلم "السد العالى" يتحول من خاطرإلى احتمال ، ثم إلى حقيقة لا خيال ، على حد ما نطقت به قصيدة عزيز أباظة بالفصحى التى شدت بها أم كلثوم ، و"قلنا هنبنى/ وادى إحنا بنينا السد العالى" كما قال الشاعرالغنائى أحمد شفيق كامل ، وإلى أن ارتفع البناء عاليا شاهقا فى عشرية الستينيات ، وجرى افتتاحه كاملا بمحطاته الكهربية فى 15 يناير 1971 ، كان عبد الناصر قد غاب بجسده قبلها بشهور ، رحل فى عنفوان الرجولة بسن الثانية والخمسين ، ولكن بعد أن ترك هرمه الباقى الحافظ لحياة المصريين بعد عناية الله ، ترك سده الذى يزيد حجمه 18 مرة على أكبر أهرامات المصريين القدامى ، مع فارق مرئى ، أنه هرم لبعث الحياة لا لدفن الموتى .
  نعم ، السد العالى هو الإيحاء الرمزى الأعظم لميراث جمال عبد الناصر ، الذى انتصر مرات ، وهزم مرة ثقيلة فى حرب 1967 ، لكن الشعب المصرى الذى كان يدرك بالغريزة مغزى وجود عبد الناصر فى حياته ، رفض تنحى الرجل عن القيادة بعد اعترافه بمسئوليته عن الهزيمة ، وأعاده إلى موقعه بفيضان جماهيرى عارم فى 9و10 يونيو 1967 ، هو ذاته الفيضان ، الذى اجتاح شوارع مصر وميادينها فى انتفاضة يناير 1977 ، وفى ثورة الشعب فى 25 يناير 2011 ، وفى موجتها الثانية الأعظم 30 يونيو 2013 ، وقد شهدتا أكبر معرض صور فى التاريخ لشخص مفرد غائب بجسده منذ 28 سبتمبر 1970 ، كان رفع صور عبد الناصر تعبيرا عن الاستمساك بالحلم ، الذى لم يفرط فيه عبد الناصر حتى آخر نفس ، ولم يخذل شعبه ولا أمته أبدا ، فقد راح بعد الهزيمة الثقيلة الكاسحة ، يتعهد ويمهد لاكتساب قيمة الديمقراطية التعددية مع إزالة آثار العدوان ، دعما وتعزيزا لقيم الاستقلال الوطنى والثقافى والتصنيع الشامل وأولوية العلم والتكنولوجيا وكفاية الإنتاج وعدالة التوزيع والتوحيد العربى ، ويعيد بناء الجيش المصرى من نقطة الصفر ، ويخوض ملاحم حرب الاستنزاف ذات الألف يوم ، ويشيد حائط الصواريخ العظيم ، وكان ذلك آخر إنجاز فى حياته القصيرة الخاطفة ، وذروة الإعداد الأعظم للعبور المعجز إلى النصر فى حرب أكتوبر 1973 ، كان جيش عبد الناصر هو الذى اقتحم المستحيل ، وهو ذاته الجيش الذى جرى ويجرى تطويره بجهد هائل يحسب للرئيس السيسى ، وبعودة صحيحة إلى سياسة عبد الناصر ذاتها فى تنويع مصادر السلاح وبعث الصناعات الحربية ، وإلى أن صار أقوى تاسع جيش فى العالم ، يصد عن مصر غارات المتربصين الدوليين والإقليميين ، ويدفع عنها دوائر عدوان متكاثرة ، لعل أخطرها ما يجرى من عبث عند منابع النيل بالسد الأثيوبى ، بينما تشعر مصر اليوم وبثقة ، أنها قادرة على سحق الخطر بقوة جيشها العظيم ، والتفاف شعبها على قلب رجل واحد ، وبقدراتها المتفوقة فى لحظة نهوض ، تتوالى أماراته تباعا ، بعد ركود وانهيارات متتابعة منذ الانقلاب على خط عبد الناصر وتجربته وسيرته أواسط السبعينيات ، وتغول مصائب الفساد المتوحش وطفح اليمين الدينى ، وكلاهما فى خانة عداء مستحكم مع عبد الناصر اسما ورسما ، ومع سد مصر العالى ، ومع جيشها الحامى الحافظ لأمنها ومقدراتها واتصال وجودها الخالد إلى أن يرث الله الأرض .
[email protected]

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة