ولأنه حاكم عادل رشيد، فقد لفت نظره وهو يستريح في إحدي جولاته مع وزيره وبعض الحاشية أن زرافات من الناس ينحدرون إلي النهر البعيد ليشربوا ويبللوا وجوههم اتقاء القيظ والحرور، كانت طريقهم للنهر طويلة متعرجة،والأرض حولهم زلقة والمنحدر صعب والناس في مسغبة ومشقة،فكر قليلاً كيف عساه يرحم رعيته ويساعدهم، ثم أمر بوضع زير ماء بحمالة وغطاء وبضعة أكواز تحت شجرة وارفة علي مقربة من الطريق. دفع عشرة دنانير لحارسه الخاص «صابر» لشراء زير يضعه تحت صفصافة كبيرة بجوار النهر، وطلب إليه أن يتعاون مع زميل له في ملء الزيركلما فرغ في نوبات متعاقبة ليكون في متناول الناس كلما مروا. مضي الحاكم في طريقه، ومرت الأيام والشهور والأعوام، وذات مساء رأي الحاكم في حديقة قصره زيراً صغيراً تحت شجرة فتذكر أمر الزير الأول فسأل وزيره، فأخبره أن الفكرة رائعة، لكننا بعد مدة وجدنا الإقبال علي الزير يزداد واستعذب الناس شرب الماء فقررت تحويله إلي مرفق شعبي عام، وانشأنا له إدارة عامة، فالدولة لن تدع مالها وممتلكاتها سائبة، وما دام للدولة مبني لا بد من موظفين وإدارة مالية، وهكذا تم فتح اعتماد مالي لمأمورية الزير، ووضعت خزانة للنقود أودعناها سلفة، لأن الزير قد ينكسر، والغطاء يتلف والكوز يضيع.. ويكمل الوزير بأنهم أنشأوا أربع إدارات فرعية، إدارة للفخارمختصة بشئون الزير، وإدارة للحديد مختصة بالحماية، وإدارة للخشب مختصة بالغطاء وإدارة للصفيح مختصة بالكوز. وتساءل الوالي : والماء أليس له إدارة؟ واستطرد الوزير بأنه أمر بإنشاء مبني بكلفة مائة ألف دينار من أجل إدارة عموم الزير، لأن إدارة عموم الزير مرفق خدمات، الاعتبار الأول لما يؤديه للأمة من نفع. ويكمل بأن إدارة عموم الزير علي اتصال مع مختلف دوائر الدولة، مع وزارة الأشغال والخزانة والاقتصاد والخارجية والداخلية.. كان الوالي يقاطعه بين الفينة والأخري متسائلا عن الماء.. ماذا عن الماء، وما دخل وزارة الخارجية في هذا الأمر؟ وأجاب الوزير: من أجل المشاركة في المؤتمرات، لأن إدارة عموم الزير أصبح لها شهرة عالمية، ومديرها يحضر مؤتمرات في باريس ولندن ونيويورك.. تساءل الوالي : وهل يوجد في الدول الأخري إدارات لعموم الزير، أجاب الوزير: لا يا مولانا، نحن نفتخر بتجربتنا الرائدة، وراح يشرح كيف بهذه الفكرة العبقرية سنخرج من عنق الزجاجة وننتقل إلي مصاف الأمم المتقدمة، وأضاف مفتخراً انه لكي تكون التجربة رائدة كان لا بد من استحداث مديرية للإحصاء، قامت بتصميم وإعداد أربع استمارات، واحدة بيضاء يملؤها الذين يمرون بالزير مصادفة ويشربون مرة واحدة ولا يعودون، واستمارة حمراء للذين يشربون مرة واحدة بانتظام، واستمارة صفراء لمن يعتمدون علي الزير في شربهم،أما الرابعة فزرقاء ترسل إلي إدارة الحاسب الآلي، وأظن أن الاستمارات وألوانها مألوفة لدينا صفراء وخضراء وزرقاء وبيضاء. بعد هذا الوصف المستفيض للمشروع كان لابد للحاكم أن يزور المنطقة ويعاين إدارة عموم الزير بنفسه، وكانت المفاجأة الصادمة حين شاهد المبني الفخم الشاهق كتب علي مدخله - إدارة عموم الزير-، أناس يدخلون ويخرجون، خلية نحل من الموظفين والسكرتيرات والفراشين ومدراء الخشب والحديد والفخار، وملفات وأوراق وصواني شاي وقهوة، وموظفين يقرأون الجرائد ومجلات ملونة للسكرتيرات و… و… والمدير العام في بودابست يحضر مؤتمرا، وهو ابن شقيقة الوزير، وتم تعيينه لأنه الوحيد المتخصص في هذا المجال، حسبما أقنعهم الوزير المسئول. وانتقل الوالي في كل الأقسام وطلب في النهاية أن يري الزير، نزل إلي الطابق الأرضي الذي تملؤه العفرة وتضربه الفوضي، ولم يجد الزير، ولما سألهم، قالوا إن الزير تم نقله إلي الورشة الأميرية لإصلاحه. ووجد حارسه السابق صابر، وقد أصبح رجلا هزيلا مسكينا، مركونا في إحدي الزوايا. وحين شاهد الوالي هب صابر: لقد كذبوا عليك يا سيدنا، الزير ليس هنا منذ سنتين… وأنا لا أتقاضي مرتباً منذ سنتين ونصف يا مولانا وأكاد أموت جوعاً، وحين سأل الوالي وكيل الإدارة العامة عن السبب، قال إن له إشكالا إداريا مالياً فليس معه مؤهل علمي، لذلك لا نستطيع إعطاءه راتباً… صدم الوالي وطلب من صابر أن يعود إلي القصر كما كان ويشتري زيراً آخر ويضعه تحت ظل شجرة ليشرب الناس، ثم أصدر الوالي حكمه علي الوزير بأن يدفع رواتب الموظفين الذين عينهم من ماله الخاص، وإذا نفد ماله فمن مال زوجته وأولاده وأقاربه الذين أكلوا المال العام سحتا في بطونهم .
هكذا جاءت مقدمة دار المعارف عن تلخيص كتاب د. حسين مؤنس « إدارة عموم الزير وقصص أخري» نقلناها بتصرف.
إدارة عموم الزير قصة أبدعها د. حسين مؤنس نموذجاً ساخراً عن مفارقات الإدارة في عرف البيروقراطية المصرية، قرأناها في بواكير الصبا، وكم أضحكتنا، لكنه ضحك كالبكا كما قال أبوالطيب المتنبي، هكذا كانت، وأحسبها لاتزال، زاد عليها ترهل الجهاز الإداري حتي صار جسداً كما الديناصور وعقلاً كما ألباب العصافير. ذكرني بها صباح اليوم صديقنا د. محمد حسن العزازي أستاذ الإدارة، فوجدتها موضوعا جيداً لمقال اليوم، ولقد كاتبتك هنا من قبل عن د. حسين مؤنس في «أحاديث منتصف الليل»، وكاتبتك أيضاً ان معظم مشكلات بلادنا المحروسة تتمحور حول الإدارة التي كانت هي السبب المباشر في تقدم الدول من حولنا، وهي ذاتها سبب تأخرنا، ومن أسف مازلنا في عصرنا هذا وأيامنا تلك، لانعدم هذا المسئول في قصة صاحبنا، فهو ماثل أمامنا بشحمه ولحمه وقلة بصيرته ولامعقولية توجهاته وغرائبية تصرفاته أينما وجهت بصرك، ولانعدم كل هذه البناءات الفوقية المعقدة للعمل والمخيبة للأداء حيث كان ينبغي أن توجه نحو الإنجاز والخدمة. إنها البيروقراطية لاتزال تقوم بعملها الذي احترفته عقوداً طويلة في إدارة عموم الزير الذي غاضت مياهه وربما استؤصلت شأفته ولاتزال بناءاته تعوق مسيرتنا وتحجم انطلاقنا، وربما كانت سبباً كبيراً لما تعانيه دولتنا وقيادتنا في محاولاتها الدءوب للانعتاق من ربقة التخلف والركود.