دفعة ١٩٦٥ بكلية الآداب .. فى الصورة د.جابر عصفور-مرتديا قميص أبيض أمام د. سهير القلماوى
دفعة ١٩٦٥ بكلية الآداب .. فى الصورة د.جابر عصفور-مرتديا قميص أبيض أمام د. سهير القلماوى


سهير القلماوى: أُستاذتى فى النقد الأدبى

أخبار الأدب

الإثنين، 26 يوليه 2021 - 01:31 م

 

هذا‭ ‬الأسبوع‭ ‬يمر‭ ‬‮١١٠‬‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬ميلاد‭ ‬د‭. ‬سهير‭ ‬القلماوى‭(‬20يوليو‭ ‬1911‭-‬4مايو1997‭) ‬التى‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الدارسات‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬و‭ ‬قد‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬أول‭ ‬إمرأة‭ ‬مصرية‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراة‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭. ‬الدكتور‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬وأنبغ‭ ‬تلاميذها‭ ‬يكتب‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬ذكراها‭.‬

كانت‭ ‬دروس‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬مثل‭ ‬كُتُبها‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬قرأناها‭ ‬فى‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة،‭ ‬تتميز‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يلح‭ ‬عليه‭ ‬أبناء‭ ‬جيلها‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أنها‭ ‬دروس‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬وتمضى‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬التراثية‭ ‬التى‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬الواثق‭ ‬عن‭ ‬القديم‭.. ‬وفى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كانت‭ ‬ثقافتها‭ ‬المعاصرة،‭ ‬واطلاعها‭ ‬على‭ ‬الآداب‭ ‬العالمية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وخبراتها‭ ‬فى‭ ‬الترجمة‭ ‬والإبداع،‭ ‬تفتح‭ ‬أمامها‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقى،‭ ‬فى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬الأدب‭ ‬القديم‭ ‬والجديد،‭ ‬ما‭ ‬دفعنا‭ ‬دفعا‭ ‬إلى‭ ‬المقارنة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬زملائها‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬اقتصروا‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬الموروث،‭ ‬فعجزوا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬مثلها‭ ‬فى‭ ‬امتلاك‭ ‬قدرة‭ ‬التحليق‭ ‬فى‭ ‬فضاء‭ ‬المعرفة‭ ‬الرحيب‭ ‬بجناحى‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭. ‬

هكذا‭ ‬سمعنا‭ ‬من‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬النص‭ ‬الأدبى،‭ ‬وضرورة‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬عناصره‭ ‬التكوينية‭ ‬الخاصة‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬نقادا‭ ‬بحق‭. ‬لقد‭ ‬ظل‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى،‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭: ‬أشبه‭ ‬بالغرفة‭ ‬التى‭ ‬يدخلها‭ ‬النقاد‭ ‬ليتطلعوا‭ ‬من‭ ‬نوافذها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬خارجها،‭ ‬وآن‭ ‬الآوان‭ ‬لأن‭ ‬نلتفت‭ ‬نحن‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة،‭ ‬ونتعمّقها‭ ‬بحثا‭ ‬وتحليلا‭ ‬وتفسيرا‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬التحليل‭ ‬هو‭ ‬اكتشاف‭ ‬العناصر‭ ‬التكوينية‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبى،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬أدبى،‭ ‬فإن‭ ‬التفسير‭ ‬اكتشاف‭ ‬العلاقات‭ ‬التى‭ ‬تصل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬العناصر،‭ ‬التى‭ ‬تمنح‭ ‬العناصر‭ ‬نفسها‭ ‬المعنى‭ ‬والدلالة‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نبدأ‭ ‬بالتحليل،‭ ‬ونتعمق‭ ‬فيه،‭ ‬فمن‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬المرة‭ ‬بعد‭ ‬المرة‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬العمل‭ ‬الخاص،‭ ‬واكتشاف‭ ‬النغمات‭ ‬المائزة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬اليقين،‭ ‬فهذه‭ ‬النغمات‭ ‬هى‭ ‬العناصر‭ ‬التكوينية‭ ‬التى‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬الدلالة‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬التفسير‭ ‬المختلفة‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬مألوفا‭ ‬لأغلب‭ ‬أساتذتنا‭ ‬فى‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذين‭ ‬تعوّدوا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ينظروا‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬بوصفه‭ ‬وثيقة‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬عصره‭ ‬أو‭ ‬بيئته‭ ‬أو‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فذلك‭ ‬فهمٌ‭ ‬شجّع‭ ‬عليه‭ ‬شيوع‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬التى‭ ‬انتشرت‭ ‬انتشار‭ ‬النار‭ ‬فى‭ ‬الهشيم‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬المد‭ ‬القومى‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية‭. ‬وكان‭ ‬على‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬نفسها‭ ‬أن‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والقومية‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الأدب‭ ‬والثورة‭. ‬فكلها‭ ‬موضوعات‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬عنها،‭ ‬فى‭ ‬غمرة‭ ‬التيارات‭ ‬السائدة‭ ‬التى‭ ‬فرضها‭ ‬الصعود‭ ‬الثورى‭ ‬للدعاوى‭ ‬الجديدة‭ ‬التى‭ ‬اقترنت‭ ‬بتحولات‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952،‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬عداء‭ ‬معها،‭ ‬فهى‭ ‬أصلا‭ ‬كانت‭ ‬وظلت‭ ‬تؤمن‭ ‬بأنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينكر‭ ‬علاقة‭ ‬الفن‭ ‬بالحياة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬علاقته‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬فالفن‭ ‬له‭ ‬تأثير،‭ ‬مثل‭ ‬الأدب،‭ ‬يقع‭ ‬خارجه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المتلقّى‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬المتلقين‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التأثير‭ ‬لا‭ ‬ينفى‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬فنيته،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬أدبيته،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬شعريته‭. ‬ولذلك‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تربط‭ ‬الفن‭ ‬والأدب‭ ‬والشعر‭ ‬بالحياة‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬كانت‭ ‬تؤمن‭ ‬بأهمية‭ ‬التكوين‭ ‬الداخلى‭ ‬والذاتى‭ ‬للفن‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬الشعر،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخصوصية‭ ‬النوعية‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬فنّا‭ ‬ومن‭ ‬الأدب‭ ‬أدبا‭ ‬ومن‭ ‬الشعر‭ ‬شعرا‭...‬إلخ‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬مع‭ ‬الفريق‭ ‬الذى‭ ‬يربط‭ ‬الفن‭ ‬بالحياة‭ ‬والمجتمع‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ويؤكد،‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬الخصائص‭ ‬الذاتية‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬فنّا‭.‬

وما‭ ‬كان‭ ‬أبعدها‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬يدعون‭ ‬إلى‭ ‬عزلة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى‭ ‬عن‭ ‬عصره،‭ ‬والاغتراب‭ ‬بالنص‭ ‬الأدبى‭ ‬عن‭ ‬مهمته‭ ‬الثورية‭ ‬فى‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭. ‬ولكن‭ ‬للأسف‭ ‬كان‭ ‬خصومها‭ ‬من‭ ‬مراهقى‭ ‬الماركسية‭ ‬وأصوليّ‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬يتهمونها‭ ‬بالرجعية،‭ ‬ويصلون‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬رشاد‭ ‬رشدى‭ ‬فى‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬عزلة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى‭ ‬عن‭ ‬عصره‭ ‬والاغتراب‭ ‬بالنص‭ ‬الأدبى‭ ‬عن‭ ‬مهمته‭ ‬الثورية‭ ‬فى‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع،‭ ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬الدعاوى‭ ‬النظرية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬رشاد‭ ‬رشدى‭ ‬ومدرسته،‭ ‬كانت‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬دعوة‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬ومحمد‭ ‬مندور‭ ‬لأهمية‭ ‬التفسير‭ ‬النصى‭ ‬للأعمال‭ ‬الأدبية،‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬االنقد‭ ‬الجديدب‭ ‬فى‭ ‬أصوله‭ ‬الأجنبية‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالتحليل‭ ‬النصى‭ ‬للأعمال‭ ‬الأدبية‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬تؤكد‭ ‬استقلال‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تؤكد‭ ‬صلته‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬الحياة،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬تلح‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬بمعناه‭ ‬الحق‭ ‬وعلم‭ ‬اجتماع‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬نفس‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬سياسة‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبى‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وكانت‭ ‬تقول‭ ‬لنا‭: ‬إذا‭ ‬أردتم‭ ‬أن‭ ‬تكونوا‭ ‬نقادا‭ ‬فدونكم‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى،‭ ‬ادرسوه‭ ‬فى‭ ‬ذاته،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬أدبى،‭ ‬ولا‭ ‬تكونوا‭ ‬كالجراح‭ ‬الذى‭ ‬ينشغل‭ ‬عن‭ ‬إجراء‭ ‬العملية‭ ‬الجراحية‭ ‬للمريض‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬أوضاعه‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الاقتصادية‭. ‬وكانت‭ ‬تقول‭ ‬لنا‭: ‬اإن‭ ‬الناقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ناقدا‭ ‬بحق‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يحسنه‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬فى‭ ‬وزن‭ ‬ما‭ ‬يحسنه‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬العصر،‭ ‬وما‭ ‬يتقنه‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عما‭ ‬يتقنه‭ ‬من‭ ‬معارف‭ ‬غير‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬العصر‭ ‬ومناهج‭ ‬درسه‭ ‬الحديثة‭.‬

وكانت‭ ‬جسارتها‭ ‬فى‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يعرف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬باسم‭ ‬أدبية‭ ‬الأدب‭ ‬وا‭ ‬قصية‭ ‬القصب‭ ‬واشعرية‭ ‬الشعرب‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬باهرة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد‭. ‬وكم‭ ‬جلسنا‭ ‬إلى‭ ‬مكاتبنا،‭ ‬واصلين‭ ‬الليل‭ ‬بالنهار،‭ ‬ونحن‭ ‬نحاول‭ ‬تطبيق‭ ‬ما‭ ‬تعلمناه‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬أدبية،‭ ‬تركت‭ ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬فينا‭ ‬حرية‭ ‬اختيارها،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الاختيار‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬بنا‭ ‬عميقا‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭. ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬تعرفت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬أحمد‭ ‬حجازى‭ ‬كانت‭ ‬بصوتها‭ ‬فى‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات،‭ ‬حيث‭ ‬قامت‭ ‬بتحليل‭ ‬تفصيلى‭ ‬للقصيدة‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬الكلمات،‭ ‬مرورا‭ ‬باختيار‭ ‬التفاعيل‭ ‬للوزن‭ ‬العروضى،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالمقاطع‭ ‬التى‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬علاقاتها‭ ‬الدلالية‭ ‬والصوتية‭ ‬وحدة‭ ‬القصيدة،‭ ‬وبعدها‭ ‬أخذت‭ ‬تحدثنــا‭ ‬عـن‭ ‬صلاح‭ ‬عـبد‭ ‬الصبور‭ ‬الذى‭ ‬كانت‭ ‬تكنّ‭ ‬له‭ ‬تقديرا‭ ‬خاصا،‭ ‬وتدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬نماذج‭ ‬مشابهة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الحداثى‭ ‬والقصة‭ ‬والمسرحية‭. ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬درسها‭ ‬التحليلى‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬ازعبلاوىب‭ ‬التى‭ ‬علمتنا‭ ‬بها،‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬معنى‭ ‬تعدد‭ ‬مستويات‭ ‬الدلالة‭ ‬وتنوع‭ ‬مدلولات‭ ‬الرمز‭.‬

وقد‭ ‬دفعنا‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬متابعة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تكتبه‭ ‬فى‭ ‬المجلات‭ ‬الدورية‭ ‬التى‭ ‬عاصرناها،‭ ‬فوجدنا‭ ‬فى‭ ‬االكاتبب‭ ‬مقالاتها‭ ‬المتتابعة‭ ‬عن‭ ‬قراءات‭ ‬جديدة‭ ‬فى‭ ‬التراث‭ ‬الشعرى‭ ‬القديم،‭ ‬فتحت‭ ‬أعيننا‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬الدالة‭ ‬للتكرار‭ ‬البلاغى‭ ‬فى‭ ‬موازاة‭ ‬الأبعاد‭ ‬المقابلة‭ ‬فى‭ ‬الدوال‭ ‬الرمزية،‭ ‬وذلك‭ ‬فى‭ ‬جدة‭ ‬وأصالة‭ ‬لم‭ ‬نجدها‭ ‬عند‭ ‬دارسى‭ ‬التراث‭ ‬الأدبى‭ ‬الذين‭ ‬ملأوا‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغلوا‭ ‬الناس‭. ‬وقد‭ ‬لفتت‭ ‬انتباهنا‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬المبكرة‭ ‬التى‭ ‬نشرتها‭ ‬مجلة‭ ‬االكاتبب‭ ‬فى‭ ‬بداياتها‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬الاكتشاف‭ ‬النقدى،‭ ‬وجسارة‭ ‬التعمق‭ ‬فى‭ ‬التحليل‭ ‬المنهجى‭ ‬الحديث،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬المنهجى‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬عميقة‭ ‬بالنظريات‭ ‬النقدية‭ ‬الغربية‭. ‬وأعنى‭ ‬بالمعرفة‭ ‬العميقة‭ ‬هنا‭ ‬المعرفة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تنقل‭ ‬وإنما‭ ‬تتمثل‭ ‬وتستوعب‭ ‬بعمق،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تنتج‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬التحليل‭ ‬والتفسير‭ ‬والتأويل‭ ‬ما‭ ‬يسهل‭ ‬تطبيقه‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬الجاهلية‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفها‭ ‬القراء‭ ‬المحدثون‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬الستينيات‭.‬

وكان‭ ‬منطلقها‭ ‬فى‭ ‬تحليل‭ ‬النص‭ ‬الأدبى‭ ‬الجاهلى‭ ‬هو‭ ‬منطلقها‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬تحليل‭ ‬النص‭ ‬الأدبى‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬المعاصر،‭ ‬مدمرة‭ ‬بذلك‭ ‬الأسطورة‭ ‬التى‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يغرسها‭ ‬فى‭ ‬وعينا‭ ‬تلامذة‭ ‬شوقى‭ ‬ضيف‭ ‬وطريقته‭ ‬التقليدية‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬إلا‭ ‬بمناهج‭ ‬قديمة،‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬نثر‭ ‬النظم،‭ ‬أو‭ ‬الشرح‭ ‬الساذج‭ ‬للمعانى‭ ‬القريبة‭ ‬أو‭ ‬المعانى‭ ‬الأولى‭ ‬بلغة‭ ‬عبد‭ ‬القاهر‭ ‬الجرجانى،‭ ‬وليس‭ ‬المعانى‭ ‬الثوانى‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬معانى‭ ‬المعانى‭ ‬التى‭ ‬تقودنا‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬الدلالة‭ ‬وتنوعها‭ ‬وتباين‭ ‬مستوياتها‭. ‬وكانت‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬انتهى‭ ‬أساتذتها،‭ ‬خصوصا‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وأمين‭ ‬الخولى،‭ ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬كلاهما‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬التجديد‭ ‬هو‭ ‬قتل‭ ‬القديم‭ ‬فهما،‭ ‬ووصل‭ ‬الفهم‭ ‬الجديد‭ ‬بالقديم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستوعبه‭ ‬العقل‭ ‬النقدى‭ ‬من‭ ‬نظريات‭ ‬الفن‭ ‬ومناهج‭ ‬الدرس‭ ‬الأدبى‭ ‬فى‭ ‬امتداده‭ ‬الذى‭ ‬يصل‭ ‬الأدب‭ ‬بفلسفة‭ ‬الفن‭ ‬فى‭ ‬أعمق‭ ‬معانيها‭. ‬ولذلك‭ ‬اهتمت‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬كل‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمبحث‭ ‬الأداة‭ ‬فى‭ ‬الفنون‭. ‬وهى‭ ‬اللغة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الشعر،‭ ‬والمشهد‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬المسرح،‭ ‬والسرد‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الرواية،‭ ‬والنغم‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬والحجر‭ ‬والكتلة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬النحت‭ ‬والعمارة‭.‬

وأظن‭ ‬أن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬هى‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬فى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬نظرية‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والناقد‭ ‬الألمانى‭ ‬جوتهولد‭ ‬إفرايم‭ ‬ليسينج‭ ‬التى‭ ‬شرحها‭ ‬وبسطها‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬العظيم‭: ‬الاؤوكونب‭. ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬يتتبع‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألمانى‭ ‬وعالِم‭ ‬الجمال‭ ‬كيف‭ ‬يختلف‭ ‬الفن‭ ‬باختلاف‭ ‬الأداة‭ ‬فيه،‭ ‬فاللغة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬أساسا‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬الامتداد،‭ ‬والرسم‭ ‬يختلف‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬فالرسم‭ ‬مثلا‭ ‬المعول‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬تثبيت‭ ‬اللحظة‭ ‬الزمنية‭ (‬البرهة‭) ‬سواء‭ ‬فى‭ ‬صياغة‭ ‬اللوحة‭ ‬أو‭ ‬تشكيل‭ ‬التمثال،‭ ‬فأداة‭ ‬الشعر‭ ‬زمنية،‭ ‬وأداة‭ ‬التشكيل‭ - ‬فى‭ ‬حالتى‭ ‬النحت‭ ‬والتصوير‭ ‬والعمارة‭ - ‬مكانية،‭ ‬والعلاقة‭ ‬بينهما‭ ‬علاقة‭ ‬تمايز‭ ‬وتواصل‭ ‬وانقطاع‭ ‬أحيانا‭. ‬وقد‭ ‬توقف‭ ‬ليسينج‭ ‬عند‭ ‬تمثال‭ ‬االراهبب‭ ‬الذى‭ ‬تتحدث‭ ‬عنه‭ ‬الأساطير‭ ‬اليونانية‭ ‬باسم‭ ‬الاؤوكونب،‭ ‬والذى‭ ‬عاقبته‭ ‬الآلهة‭ ‬بأن‭ ‬سلّطت‭ ‬عليه‭ ‬أفاعٍ‭ ‬ضخمة‭ ‬كى‭ ‬تنهشه‭ ‬نهشا‭ ‬هو‭ ‬وأولاده‭ ‬البؤساء‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬النبرة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تتحدث‭ ‬بها‭ ‬أستاذتى‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التمثال‭ ‬الذى‭ ‬رأته‭ ‬بعينيها‭ ‬والذى‭ ‬يصور‭ ‬الراهب‭ ‬الذى‭ ‬يستجير‭ ‬به‭ ‬أطفاله‭ ‬الصغار‭ ‬والبراثن‭ ‬الوحشية‭ ‬تنهال‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اتجاه،‭ ‬والفارق‭ ‬بين‭ ‬بلاغة‭ ‬النحت‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬التصوير‭ ‬وبلاغة‭ ‬الرسم‭ ‬وأخيرا‭ ‬بلاغة‭ ‬الشعر‭. ‬وانتقلت‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬إمكانية‭ ‬اللغة‭ ‬وإيقاعها‭ ‬الذى‭ ‬يمر‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬ليمنحنا‭ ‬الإيحاء‭ ‬بتعاقب‭ ‬المكان‭ ‬وتغير‭ ‬الزمان‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬هكذا‭ ‬أدخلتنا‭ ‬فى‭ ‬صلب‭ ‬دراسة‭ ‬النص‭ ‬الأدبى‭ ‬فى‭ ‬ذاته،‭ ‬ودفعتنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬الأداة‭ ‬وهى‭ ‬اللغة‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الشعر،‭ ‬والسرد‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الرواية،‭ ‬والتشكيل‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬بل‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬مصطلح‭ ‬التشكيل‭ ‬نفسه‭ ‬مصطلحا‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬الشعر‭ ‬ويعين‭ ‬الناقد‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬القصيدة‭ ‬بوصفها‭ ‬تشكيلا‭ ‬فى‭ ‬اللغة‭ ‬وباللغة‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

وأظننى‭ ‬كنت‭ ‬مخلصا‭ ‬لما‭ ‬تعلمته‭ ‬منها‭ ‬عندما‭ ‬أصررت،‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬المركز‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬الاؤوكونب‭ ‬وأكلف‭ ‬بترجمته‭ ‬الدكتورة‭ ‬فوزية‭ ‬حسن،‭ ‬وبالفعل‭ ‬صدرت‭ ‬الترجمة‭ ‬فى‭ ‬العدد‭ ‬رقم‭ ‬1354‭ ‬من‭ ‬منشورات‭ ‬المركز‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة،‭ ‬سنة‭ ‬2009‭. ‬وقد‭ ‬صدّرت‭ ‬الدكتورة‭ ‬فوزية‭ ‬حسن‭ ‬الترجمة‭ ‬بدراسة‭ ‬عن‭ ‬فيلسوف‭ ‬الفن‭ ‬والحضارة‭ ‬اجوتهولد‭ ‬إفرايم‭ ‬ليسينجب‭ ‬وكتابه‭ ‬العلامة‭ ‬الذى‭ ‬يعد‭ ‬صاحبه‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أثار‭ ‬الانتباه‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلى‭ ‬وفن‭ ‬الشعر،‭ ‬وحاول‭ ‬الربط‭ ‬بينهما‭ ‬ومقارنتهما‭ ‬معا‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬جديد‭ ‬كل‭ ‬الجدة‭. ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬للدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬مقالا‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬الدوريات‭ ‬القديمة‭ ‬عن‭ ‬مأساة‭ ‬الاؤوكونب،‭ ‬كما‭ ‬وجدتها‭ ‬تكرر‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭ ‬فى‭ ‬مقالات‭ ‬أخرى‭. ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أننى‭ ‬أسرف‭ ‬فى‭ ‬الاجتهاد‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬المرحوم‭ ‬الدكتور‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬إسماعيل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬اإمكانية‭ ‬اللغة،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬أثر‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬الإيجابية‭ ‬التى‭ ‬تركتها‭ ‬فى‭ ‬نفسه‭ ‬محاضرات‭ ‬أستاذتنا‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬عليها‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬هى‭ ‬نفسها‭ ‬التى‭ ‬علمتنا‭ ‬فى‭ ‬محاضراتها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬إليه‭ ‬ت‭.‬إس‭. ‬إليوت‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬االتقاليد‭ ‬والمواهب‭ ‬الفردية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تطور‭ ‬مقولة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وأمين‭ ‬الخولى‭ ‬بأن‭ ‬أول‭ ‬التجديد‭ ‬هو‭ ‬قتل‭ ‬القديم‭ ‬فهما،‭ ‬بتأكيد‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬العربى‭ ‬المعاصر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينبغ‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬واعيا‭ ‬بتراثه‭ ‬الشعرى‭ ‬كله‭ ‬ابتداًء‭ ‬من‭ ‬أحدث‭ ‬شاعر‭ ‬فى‭ ‬عصره،‭ ‬وانتهاًء‭ ‬إلى‭ ‬أقدم‭ ‬شاعر‭ ‬فى‭ ‬تراثه‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬أصالة‭ ‬الإبداع‭ ‬الحقيقى‭ ‬لصلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬مثلا‭ - ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحدد‭ ‬إلا‭ ‬بأمرين‭: ‬الأمر‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬تواصله‭ ‬الخلاق‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬عصره،‭ ‬مثل‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجى‭ ‬وعلى‭ ‬محمود‭ ‬طه‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلى‭ ‬بأقدم‭ ‬شعرائه،‭ ‬وأن‭ ‬أصالة‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬لا‭ ‬تتحدد‭ ‬بهذا‭ ‬الوعى‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تتحدد‭ ‬بإضافته‭ ‬أى‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ - ‬رؤيته‭ ‬العصرية‭. ‬أعنى‭ ‬رؤيته‭ ‬الفردية‭ ‬إلى‭ ‬عالمه‭ ‬المعاصر،‭ ‬ولكن‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬ينفى‭ ‬قط‭ - ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬وعصرها‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بماضيها‭ ‬المنتسب‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بالمعنى‭ ‬الخلاق‭ ‬الذى‭ ‬تنسحب‭ ‬دلالته‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الصبور‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الموهبة‭ ‬الفردية،‭ ‬وعلى‭ ‬علاقته‭ ‬وغيره‭ ‬إيجابيا‭ ‬أو‭ ‬سلبيا‭ ‬بالتراث،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التواصل‭ ‬الخلاق‭ ‬بين‭ ‬الأقدم‭ ‬والأحدث‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬الجديد‭ ‬يتحدد‭ ‬فهم‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬لمقولة‭ ‬ت‭. ‬إس‭. ‬إليوت‭ ‬عن‭ ‬التقاليد‭ ‬والموهبة‭ ‬الفردية‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬كانت‭ ‬تنقل‭ ‬عن‭ ‬ت‭. ‬إس‭. ‬إليوت‭ ‬فكرته‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬عقل‭ ‬الشاعر‭ ‬يتميز‭ ‬بأنه‭ ‬يقيم‭ ‬علاقات‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتصل‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬نحن‭ - ‬القراء‭ ‬العاديين‭ - ‬اتصاله،‭ ‬فقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬للفيلسوف‭ ‬الهولندى‭ ‬سبينوزا‭ ‬مثلا‭ - ‬تتجاوب‭ ‬ورائحة‭ ‬الطهو،‭ ‬كما‭ ‬يتجاوب‭ ‬كلاهما‭ ‬مع‭ ‬دقات‭ ‬الآلة‭ ‬الكاتبة‭ ‬فى‭ ‬عقل‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬يصنع‭ ‬دائما‭ ‬علاقات‭ ‬جديدة‭ ‬بين‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬يتصور‭ ‬الإنسان‭ ‬العادى‭ ‬إمكان‭ ‬وجود‭ ‬علاقات‭ ‬بينها،‭ ‬فعقل‭ ‬الشاعر‭ ‬كخياله‭ ‬يبنيان‭ ‬دائما‭ ‬كليات‭ ‬علائقية‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

ولقد‭ ‬كنتُ‭ ‬ألاحظ‭ ‬دائما‭ ‬أن‭ ‬انحياز‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬إلى‭ ‬الدراسة‭ ‬الفنية‭ ‬للأدب‭ ‬المعاصر‭ ‬كانت‭ ‬توازى‭ ‬تماما‭ ‬اهتمامها‭ ‬بالدراسة‭ ‬نفسها‭ ‬للتراث‭ ‬العربى‭ ‬القديم‭. ‬وأتصور‭ ‬أنه‭ ‬الآن‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬واحد‭ ‬وعشرين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ (‬مايو‭ ‬1997‭) ‬وما‭ ‬أكتبه‭ ‬الآن،‭ ‬فأننى‭ ‬أرى‭ ‬تأثرها‭ ‬الواضح‭ ‬بمدرسة‭ ‬االنقد‭ ‬الجديدب‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬إنجلترا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬فإن‭ ‬فهمها‭ ‬الأدبى‭ ‬لمعنى‭ ‬القيمة‭ ‬فى‭ ‬الفنون‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هى‭ ‬تحقيق‭ ‬لأقصى‭ ‬درجات‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬التعارض،‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬السيكولوـى‭ ‬للقيمة‭ ‬الذى‭ ‬رأيناه‭ ‬فى‭ ‬كتابات‭ ‬الناقد‭ ‬الإنجليزى‭ ‬إيفور‭ ‬آرمسترونج‭ ‬ريتشاردز،‭ ‬وهو‭ ‬الثانى‭ ‬فى‭ ‬حركة‭ ‬االنقد‭ ‬الجديدب‭ ‬التى‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬إنجلترا‭ ‬وازدهرت‭ ‬فى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نقاد‭ ‬من‭ ‬طراز‭: ‬كلينث‭ ‬بروكس،‭ ‬جون‭ ‬كرو‭ ‬رانسوم،‭ ‬وآلان‭ ‬تيت‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬المدرسة‭ ‬التى‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يروج‭ ‬لها‭ ‬رشاد‭ ‬رشدى‭ ‬فى‭ ‬زمنه‭ ‬الذى‭ ‬انقضى،‭ ‬والذى‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يباعد‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭.‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬المصادر‭ ‬الثقافية‭ ‬لنقد‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬الأدبى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متوقفة‭ ‬على‭ ‬المدرسة‭ ‬البريطانية‭ ‬فى‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬الدقة‭ ‬فإننى‭ ‬أقول‭: ‬إن‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬دراستها‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭ ‬حين‭ ‬تعلمت‭ ‬فيما‭ ‬تعلمت‭ - ‬على‭ ‬أيدى‭ ‬مدارس‭ ‬اشرح‭ ‬النصوصب‭ ‬تحليلا‭ ‬وتفسيرا،‭ ‬وهى‭ ‬المدرسة‭ ‬التى‭ ‬سبق‭ ‬إليها‭ ‬فى‭ ‬التأثر‭ ‬بها‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ (‬1907‭ ‬ــ‭ ‬1965‭) ‬الذى‭ ‬سبقها‭ ‬فى‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭.‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬علينا،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬تعلمنا‭ ‬على‭ ‬إيديها‭ ‬المعانى‭ ‬الحقيقية‭ ‬والدقيقة‭ ‬للنقد‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬والتى‭ ‬تعلمنا‭ ‬منها‭ ‬الدلالات‭ ‬الأولى‭ ‬للحداثة،‭ ‬والإيمان‭ ‬بالتحليل‭ ‬النصى‭ ‬الذى‭ ‬يهتم‭ ‬بالعناصر‭ ‬التكوينية‭ ‬الدقيقة‭ ‬والمحايثة‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ندفع‭ ‬طلابنا‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬الأسس‭ ‬النظرية‭ ‬للنقد‭ ‬التطبيقى‭ ‬الذى‭ ‬مارسته‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬وذلك‭ ‬فى‭ ‬الدائرة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تصل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬زميلها‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ (‬1907‭ ‬ــ‭ ‬1965‭) ‬الذى‭ ‬ولد‭ ‬قبلها‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات،‭ ‬ودرس‭ ‬مثلها‭ ‬فى‭ ‬فرنسا،‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬تصل‭ ‬بينها‭ ‬وصل‭ ‬التوازى‭ ‬وبين‭ ‬زميلها‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ (‬1915‭ ‬ــ‭ ‬1990‭) ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬النقيض‭ ‬النقدى‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬رشاد‭ ‬رشدى‭ (‬1912‭ ‬ــ‭ ‬1983‭) ‬وزكى‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ (‬1905‭ ‬ــ‭ ‬1993‭)‬،‭ ‬والتى‭ ‬كانت‭ ‬تباعد‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ (‬1922‭ ‬ــ‭ ‬2009‭) ‬وحسين‭ ‬مروة‭ (‬1910‭ ‬ــ‭ ‬1987‭) ‬فى‭ ‬آن‭.‬

وقد‭ ‬بدأت‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬خطواتها‭ ‬الجامعية‭ ‬الأولى‭ ‬بالإلحاح‭ ‬على‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بأن‭ ‬يرعاها‭ ‬فى‭ ‬دراسة‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬التى‭ ‬قرأتها‭ ‬وشغلتها‭ ‬منذ‭ ‬صباها‭ ‬الباكر،‭ ‬ولكن‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أدرك‭ ‬المصاعب‭ ‬التى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬التعمق‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬فدفعها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬حياتها‭ ‬الأكاديمية‭ ‬بدراسة‭ ‬شعر‭ ‬الخوارج‭ ‬موضوعا‭ ‬للماجيستير‭ ‬الذى‭ ‬حصلت‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬1937،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬استراحت‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬الدراسة‭ ‬فى‭ ‬الماجيستير‭ ‬سمح‭ ‬لها‭ ‬الأستاذ‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬ملحمتها‭ ‬الكبرى‭ ‬فى‭ ‬الدراسة‭ ‬النصية‭ ‬بدراسة‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب،‭ ‬فسافرت‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬لتدرس‭ ‬فى‭ ‬السربون،‭ ‬وتفيد‭ ‬من‭ ‬المناهج‭ ‬الحديثة‭ ‬فى‭ ‬دراسة‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب،‭ ‬وعادت‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬عامين‭ ‬فى‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬1939،‭ ‬وأكملت‭ ‬الرسالة‭ ‬التى‭ ‬ناقشتها‭ ‬عام‭ ‬1941،‭ ‬وأصبحت‭ ‬السيدة‭ ‬الأولى‭ ‬الحاصلة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراة‭ ‬فى‭ ‬الآداب‭ ‬فى‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬جامعات‭ ‬العالم‭ ‬العربى‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تراث‭ ‬لها‭ ‬مثل‭ ‬تراث‭ ‬الجامعة‭ ‬المصرية‭.‬

الطريف‭ ‬أننى‭ ‬عندما‭ ‬أتأمل‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬دراسة‭ ‬الماجيستير‭ ‬ثم‭ ‬دراسة‭ ‬الدكتوراة،‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬أستاذتى‭ ‬اختارت‭ ‬االكتابة‭ ‬الهامشية‭ ‬التى‭ ‬تخرج‭ ‬على‭ ‬تيار‭ ‬الكتابة‭ ‬السائدة،‭ ‬موضوعا‭ ‬لإطروحة‭ ‬الماجيستير‭ ‬ثم‭ ‬الدكتوراة،‭ ‬فاختارت‭ ‬شعر‭ ‬الخوارج‭ ‬موضوعا‭ ‬للماجيستير،‭ ‬وانتقلت‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬التى‭ ‬طافت‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬وانتهت‭ ‬من‭ ‬دراستها‭ ‬بكتابها‭ ‬الفذ‭ ‬عن‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬الذى‭ ‬نشر‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬المعارف،‭ ‬سلسلة‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبية‭ ‬عام‭ ‬1943،‭ ‬مستهلا‭ ‬عهدا‭ ‬جديدا‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والأساليب‭ ‬المنهجية‭ ‬الجديدة‭ ‬فى‭ ‬دراسة‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭. ‬لكن‭ ‬تظل‭ ‬رسالتى‭ ‬الماجيستير‭ ‬والدكتوراة‭ ‬علامة‭ ‬منهجية‭ ‬بارزة‭ ‬فى‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬المنهج‭ ‬التاريخى‭ ‬المقارن‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬منظور‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬الباكر‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬الهامشية‭ ‬والاهتمام‭ ‬بما‭ ‬أطلقتُ‭ ‬أنا‭ ‬عليه،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بنحو‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬اسم‭: ‬ابلاغة‭ ‬المقموعينب‭ ‬مستجيبا‭ ‬إلى‭ ‬بذور‭ ‬التلمذة‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬انطويت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬دروس‭ ‬الأستاذة‭ ‬التى‭ ‬أصبحت‭ ‬لى‭ ‬أمّا‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭.‬

هل‭ ‬كان‭ ‬مصادفة‭ ‬أن‭ ‬تندفع‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬شعر‭ ‬الخوارج‭ ‬بعد‭ ‬تخرجها‭ ‬مباشرة،‭ ‬وإلى‭ ‬دراسة‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬بعد‭ ‬شعر‭ ‬الخوارج؟‭! ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يخضع‭ ‬للمصادفة،‭ ‬خصوصا‭ ‬عندما‭ ‬أسترجع‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحكيه‭ ‬لى‭ ‬من‭ ‬ذكرياتها،‭ ‬فى‭ ‬مناقشة‭ ‬أطروحتيها‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬فقد‭ ‬هاج‭ ‬المحافظون‭ ‬على‭ ‬أستاذها‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ونددوا‭ ‬بهذه‭ ‬الشابة‭ ‬السافرة‭ ‬التى‭ ‬تجلس‭ ‬مجلس‭ ‬الرجال،‭ ‬ويجلس‭ ‬أمامها‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بامتحانها‭ ‬فى‭ ‬حضرة‭ ‬رجال‭ ‬آخرين‭ ‬غرباء‭. ‬واضطر‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬المناقشة‭ ‬من‭ ‬مكانها‭ ‬المعلن‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬وأن‭ ‬تجتاز‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬امتحان‭ ‬الماجيستير‭ ‬والدكتوراة‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬مغلقة،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬عيون‭ ‬وصيحات‭ ‬الغاضبين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يكفّون‭ ‬عن‭ ‬استغلال‭ ‬الدين‭ ‬لتبرير‭ ‬التخلف‭. ‬وخرجت‭ ‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬دكتورة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬التى‭ ‬زادتها‭ ‬صلابة‭ ‬وقوة،‭ ‬كأنها‭ ‬أصبحت‭ ‬وريثة‭ ‬اشهر‭ ‬زادب‭ ‬التى‭ ‬تنقل‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬آفاق‭ ‬المعرفة‭ ‬الواعدة،‭ ‬منتصرة‭ ‬بإبداع‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬الغاشمة‭ ‬لتخلف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يفارقون‭ ‬التقليد‭ ‬الجامد‭ ‬والنقل‭ ‬الجاهل،‭ ‬فكان‭ ‬انتصارها‭ ‬رمزا‭ ‬مجدِّدا‭ ‬لتحرر‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬وتحرير‭ ‬وعيها‭ ‬بحضورها‭ ‬الفاعل‭ ‬فى‭ ‬الوجود‭.‬

لقد‭ ‬اختارت‭ ‬طريق‭ ‬أستاذها‭ ‬الذى‭ ‬ظل‭ ‬يؤثر‭ ‬الجديد‭ ‬الحى‭ ‬على‭ ‬القديم‭ ‬الميت،‭ ‬ويستبدل‭ ‬اقتحام‭ ‬الأفق‭ ‬المغلق‭ ‬بالسير‭ ‬فى‭ ‬الطرق‭ ‬الآمنة‭ ‬المُمهَّدة،‭ ‬ونقلت‭ ‬السر‭ ‬الخلاق‭ ‬للجسارة‭ ‬والشجاعة‭ ‬والجرأة‭ ‬والإيمان‭ ‬بالمبدأ‭ ‬الأصيل‭ ‬للتطور‭ ‬من‭ ‬أستاذها‭ ‬إلى‭ ‬تلامذتها‭ ‬الذين‭ ‬ظلت‭ ‬تعاملهم‭ ‬بوصفهم‭ ‬أبناءها،‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬بين‭ ‬ذكر‭ ‬وأنثى،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬مصرى‭ ‬وعربى،‭ ‬تلامذتها‭ ‬الذين‭ ‬علمتهم‭ ‬أن‭ ‬يضيفوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أنجزت،‭ ‬وأن‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه،‭ ‬تاركة‭ ‬لكل‭ ‬منهم‭ ‬اختيار‭ ‬منهجه،‭ ‬وحرية‭ ‬تفسير‭ ‬مادة‭ ‬موضوعه‭ ‬حسب‭ ‬تصوراته‭ ‬الفكرية‭ ‬الخاصة،‭ ‬محافظة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬تقاليد‭ ‬ليبرالية‭ ‬أصيلة،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬التلامذة‭ ‬الماركسى‭ ‬الماويّ‭ ‬والتروتسكى،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬القومى‭ ‬والناصرى‭ ‬والليبرالى،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬الواقعى‭ ‬والبنيوى‭ ‬والتفكيكى‭...‬إلخ،‭ ‬فاجتمعت‭ ‬فيهم‭ ‬كل‭ ‬ألوان‭ ‬الطيف‭ ‬السياسى‭ ‬والفكرى‭ ‬والنقدى‭. ‬ومضت‭ ‬هى‭ ‬تواصل‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مهمة‭ ‬التدريس‭ ‬والإشراف‭ ‬على‭ ‬الرسائل‭ ‬الجامعية،‭ ‬كتابة‭ ‬المقالات‭ ‬فى‭ ‬شئون‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬وفى‭ ‬مجالات‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬بمعانيه‭ ‬النظرية‭ ‬والتطبيقية‭ ‬بخاصة،‭ ‬فكتبت‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬فى‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬بمجاليه‭ ‬النظرى‭ ‬والتطبيقى‭. ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬بالكتابة‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬بين‭ ‬الفنون،‭ ‬وعن‭ ‬نظرية‭ ‬الاؤوكونب،‭ ‬واستمرت‭ ‬تكتب‭ ‬المقالات‭ ‬فى‭ ‬مجلات‭: ‬أبوللوب‭ ‬والهلال ‬واالعربى‭ ‬والآداب‭ ‬واالكاتب‭ ‬واالمجلة‭ ‬واالفنون ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬حاولتُ‭ ‬جمعه‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬المجلد،‭ ‬وما‭ ‬يخص‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى‭ ‬وحده،‭ ‬وجعلته‭ ‬باسم‭: ‬مقالات‭ ‬فى‭ ‬النقد‭ ‬الأدبى،‭ ‬وذلك‭ ‬فى‭ ‬مجلد‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬ما‭ ‬تركته‭ ‬هى‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬مؤلفاتها‭: (‬أدب‭ ‬الخوارج،‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬مع‭ ‬الكتب‭) ‬وإبداعاتها‭: (‬أحاديث‭ ‬جدتى،‭ ‬الشياطين‭ ‬تلهو‭) ‬وترجماتها‭: (‬ترويض‭ ‬النمرة،‭ ‬رسالة‭ ‬أيون،‭ ‬عزيزتى‭ ‬أنتونيا،‭ ‬رسائل‭ ‬صينية،‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬كتاب‭ ‬العجائب‭) ‬هذا‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬قصائدها‭ ‬الموجودة‭ ‬فى‭ ‬مجلة‭ ‬اأبوللوب‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬شاعرة‭ ‬واعدة،‭ ‬سرقها‭ ‬الدرس‭ ‬النقدى‭ ‬المنهجى،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬أنشطتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬متعددة‭ ‬الجوانب،‭ ‬متنوعة‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬علامة‭ ‬ساطعة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬التى‭ ‬تدين‭ ‬لها‭ ‬بالكثير،‭ ‬مثلنا‭ ‬نحن‭ ‬تلاميذها‭ ‬الذين‭ ‬أودعت‭ ‬فيهم‭ ‬أحلامها‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬الذى‭ ‬يتحقق‭ ‬بالعلم‭ ‬والجامعة‭ ‬التى‭ ‬تتأسس‭ ‬بالحرية‭.‬

المصدر : جريدة أخبار الادب 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة