توفيق الحكيم
توفيق الحكيم


البستان

ميادين الفكر مت وراء رسائل توفيق الحكيم

أخبار الأدب

الثلاثاء، 27 يوليه 2021 - 11:54 ص

ممدوح‭ ‬فراج‭ ‬النابى

لا‭ ‬خلاف‭ ‬على‭ ‬القيمة‭ ‬الأدبيّة‭ ‬والفكريّة‭ ‬التى‭ ‬يمثّلها‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ (‬1898‭ - ‬1987‭) ‬فى‭ ‬حياتنا‭ ‬الثقافيّة،‭ ‬فإسهاماته‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬فن‭ ‬بعينه،‭ ‬وإنما‭ ‬توزّعت‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعيّة،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬مُقلدٍ‭ ‬أو‭ ‬منتمٍ‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬سابقة‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬مُجدِّد‭ ‬ومبتكّر‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ (‬كالمسرح‭ ‬الذهنى،‭ ‬والرواية،‭ ‬وأيضًا‭ ‬فن‭ ‬المقال‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬رؤيته‭ ‬الرائدة‭ ‬والثاقبة‭ ‬فى‭ ‬حوارية‭ ‬النصوص،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬التناصية،‭ ‬وإنتاجية‭ ‬النصوص‭ ‬كما‭ ‬عند‭ ‬جوليا‭ ‬كريستيفا،‭ ‬فهو‭ ‬يقرُّ‭ ‬بتناص‭ ‬وتداخل‭ ‬النُّصوص‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعنى‭ ‬أنه‭ ‬ضدّ‭ ‬فكرة‭ ‬نقاء‭ ‬الأنواع‭ ‬التى‭ ‬ردّدها‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬استحياء،‭ ‬فالنصُّ‭ ‬عنده‭ ‬أشبه‭ ‬بما‭ ‬يقوله‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬نسيج‭ ‬لأقوال‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬ألف‭ ‬بؤرة‭ ‬من‭ ‬بؤر‭ ‬الثقافة‮»‬

‭ ‬يشير‭ ‬الحكيم‭ - ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الأدب‮»‬‭ (‬1952‭) - ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬المعانى،‭ ‬دون‭ ‬تسمية‭ ‬صريحة،‭ ‬أو‭ ‬صك‭ ‬لمصطلحات‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬التى‭ ‬شاعت‭ - ‬لاحقًا‭ - ‬فى‭ ‬الدراسات‭ ‬اللسانيّة‭ ‬الحديثة‭ ‬مثل‭: ‬الحوارية‭ (‬باختين‭)‬،‭ ‬التناص‭ (‬جوليا‭ ‬كريستيفا‭)‬؛‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭ ‬ليس‭ ‬الابتكار‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬أن‭ ‬تطرق‭ ‬موضوعًا‭ ‬لم‭ ‬يسبقك‭ ‬إليه‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬تعثر‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬الآخرين،‭ ‬وإنما‭ ‬الابتكار‭ ‬الأدبى‭ ‬والفنى‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أن‭ ‬تتناول‭ ‬الفكرة‭ ‬التى‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مألوفة‭ ‬للناس،‭ ‬فتسكب‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أدبك‭ ‬وفنك‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬تنقلب‭ ‬خلقًا‭ ‬جديدًا‭ ‬يُبهر‭ ‬العين‭ ‬ويُدهش‭ ‬العقل‮»‬‭ ‬ومنه‭ ‬أيضًا‭ ‬معالجة‭ ‬الموضوعات‭ ‬القديمة‭ ‬فى‭ ‬سياق‭ ‬جديد‭. ‬فالفن‭ ‬فى‭ ‬الثوب‭ ‬الجديد‭ ‬الذى‭ ‬يلبسه‭ ‬الفنان‭ ‬للهيكل‭ ‬القديم‮»‬‭ (‬فن‭ ‬الأدب،‭ ‬ص12‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يعوِّل‭ ‬على‭ ‬الصوت‭ ‬الخاص،‭ ‬أى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفنان‭ ‬ذاته‭ / ‬شخصيته،‭ ‬فبروز‭ ‬الشخصية‭ ‬هو‭ ‬‮«‬معجزة‭ ‬الفنان‮»‬‭ ‬التى‭ ‬تستوجب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬لإبرازها،‭ ‬فهى‭ ‬الخالدة‭.‬

لذا‭ ‬نراه‭ ‬عندما‭ ‬أراد‭ ‬كتابة‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬عودة‭ ‬الروح‮»‬‭ (‬1933‭)‬،‭ ‬بَحَثَ‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬محمد‭ ‬المويلحى‭ (‬1858‭ - ‬1930‭) ‬فى‭ ‬‮«‬حديث‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬هشام‮»‬‭ (‬1907‭) ‬التمس‭ ‬بنية‭ ‬الفن‭ ‬الروائى‭ ‬فى‭ ‬مقامات‭ ‬بديع‭ ‬الزمان‭ ‬الهمذانى،‭ ‬وبالمثل‭ ‬استعار‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬بنية‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬زينب‮»‬‭ (‬1913‭) ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية،‭ ‬فإن‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬عودة‭ ‬الروح‮»‬‭ (‬1933‭) - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬صبرى‭ ‬حافظ‭ - ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬‮«‬حوارًا‭ ‬نصيًّا‭ ‬ناضجًا‭ ‬مع‭ ‬بنية‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبيّة،‭ ‬والأسطورة‭ ‬المصريّة‭ ‬القديمة‭ ‬على‭ ‬السواء‮»‬‭. (‬صبرى‭ ‬حافظ‭: ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭: ‬تجسيد‭ ‬حيّ‭ ‬لرحلة‭ ‬الثقافة‭ ‬المصريّة،‭ ‬مجلة‭ ‬الدوحة،‭ ‬ع‭ (‬164‭) ‬يونيه‭ ‬2021،‭ ‬ص‭ ‬109‭) ‬وكأنّه‭ ‬قام‭ ‬بتمصيرها‭ ‬وردّ‭ ‬بنيتها‭ ‬إلى‭ ‬بيئتها‭ ‬المصريّة‭.‬

وبالمثل‭ ‬نراه‭ ‬فى‭ ‬كتابته‭ ‬لسيرته‭ ‬الذاتيّة‭ ‬كما‭ ‬تجلّت‭ ‬فى‭ ‬كتابى‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭ (‬1943‭)‬،‭ ‬وسجن‭ ‬العمر‭ (‬1964‭))‬،‭ ‬قد‭ ‬نحا‭ ‬منحى‭ ‬التجديد‭ ‬والمغايرة،‭ ‬فلم‭ ‬يتمثّل‭ ‬لشكل‭ ‬التراجم‭ ‬فى‭ ‬كُتب‭ ‬التراجم‭ ‬والطبقات‭ ‬الذاخرة‭ ‬بسير‭ ‬الأعلام‭ ‬والمحدِّثين،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يُجارِ‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأيّام‮»‬‭ (‬1929‭)‬،‭ ‬وإنما‭ ‬وزّع‭ ‬سيرته‭ ‬على‭ ‬أعماله‭ ‬الروائيّة‭ ‬تارة،‭ ‬وصاغها‭ ‬فى‭ ‬قالبٍ‭ ‬غربيّ‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬السير‭ ‬الغربيّة‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬العمر‮»‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ابتداعه‭ ‬شكلاً‭ ‬جديدًا‭ ‬تمثّل‭ ‬فى‭ ‬صبها‭ ‬فى‭ ‬قالب‭ ‬الرسائل‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬الحكيم‭ ‬مبتكّرًا‭ ‬ومجدِّدًا‭ ‬ومؤسِّسًا‭ - ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ - ‬لبعض‭ ‬الفنون‭ ‬النثريّة‭ ‬كالمسرح‭ ‬الذهنى‭.‬

كتابة‭ ‬الذات

مثلت‭ ‬كتابة‭ ‬الذات‭ - ‬فى‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ - ‬شاغلاً‭ ‬مهمًّا‭ ‬ومحوريًّا‭ ‬فى‭ ‬حقل‭ ‬الدراسات‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الاشتغال‭ ‬النقدي؛‭ ‬حيث‭ ‬الاهتمام‭ ‬بصياغة‭ ‬المقولات‭ ‬الخاصّة‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بوضعية‭ ‬الصدق‭ ‬والكذب،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بغاياتها‭ ‬وعلاقاتها‭ ‬بالواقع‭ ‬والآخرين،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يَخصُّ‭ ‬انتماؤها‭ ‬إلى‭ ‬جنس‭ ‬أدبيّ‭ ‬معيّن،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الممارسات‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬حيث‭ ‬تعدّدت‭ ‬الأشكال‭ ‬الكتابيّة‭ ‬التى‭ ‬تندرج‭ ‬تحت‭ ‬إهابها،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬سير‭ ‬ذاتيّة‭ ‬ومذكرات‭ ‬ويوميات،‭ ‬ورواية‭ ‬سيرة،‭ ‬وسيرة‭ ‬فكريّة‭ ‬ورسائل،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المحكيات‭ ‬التى‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الهُوية؛‭ ‬أى‭ ‬على‭ ‬محو‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الذَّات‭ ‬الكاتبة‭ ‬والرّاوى‭ ‬أو‭ ‬السّارد‭ ‬والشّخصيّة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تطابق‭ ‬الهُويات‭ ‬الثلاث،‭ ‬كما‭ ‬أقرّ‭ ‬منظرو‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬كشرط‭ ‬لانتماء‭ ‬النّص‭ ‬إلى‭ ‬النّصوص‭ ‬السّيريّة‭ ‬الخالصة‭.‬

وقد‭ ‬زاد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذه‭ ‬الكتابات‭ ‬لاعتبارات‭ ‬أخرى،‭ ‬تتمثّل‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأنساق‭ ‬المضمرة‭ ‬التى‭ ‬تتجاوز‭ ‬تقديم‭ ‬حياة‭ ‬أو‭ ‬اقتطاعات‭ ‬لأجزاء‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬كاتبها‭ [‬أو‭ ‬كاتبتها‭]‬،‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عمّا‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية،‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬مسكوت‭ ‬عنها‭ ‬فى‭ ‬المجتمع،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الخفى‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬المؤلف‭ ‬الحقيقى‭ [‬الرجل‭ ‬أو‭ ‬المرأة‭]‬،‭ ‬لا‭ ‬المتعلق‭ ‬بالأسرار‭ ‬والخبايا،‭ ‬وإنما‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متعلّق‭ ‬بمصادر‭ ‬التكوين،‭ ‬والآراء‭ ‬التى‭ ‬تمرَّر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُخْضع‭ ‬للجهاز‭ ‬المعرفى‭ ‬الذى‭ ‬يقوم‭ ‬بدور‭ ‬الرقيب،‭ ‬فيُصادر‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬السياق‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬مخالفًا‭ ‬لرأى‭ ‬الجماعة‭ ‬الأدبيّة‭ ‬المهيمنة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

ومع‭ ‬هذا،‭ ‬فقد‭ ‬اتخذ‭ ‬نُقاد‭ ‬الأدب‭ ‬من‭ ‬الاعترافات‭ ‬والسِّير‭ ‬الذّاتيّة،‭ ‬آلية‭ ‬للتعرُّف‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أسراره‭ ‬الخفيّة،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬السيرة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬تعاقد‭ (‬ضمنى‭ ‬وصريح‭) ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬لقول‭ ‬‮«‬كل‭ ‬الحقائق‮»‬‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬كاتبها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لحظات‭ ‬مميزة‭. ‬لكن‭ ‬غاب‭ ‬عنهم‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬كتابات‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة‭ - ‬مع‭ ‬اعتراف‭ ‬كُتَّابها‭ ‬بقول‭ ‬الصدق‭ - ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندر،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬تؤكد‭ ‬مقولة‭ ‬بول‭ ‬فاليرى‭ ‬‮«‬من‭ ‬يعترف‭ ‬يكذب‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعود‭ ‬لعوامل‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬عوامل‭ ‬السن‭ ‬وضعف‭ ‬الذاكرة،‭ ‬والانتقاء‭ ‬والاختيار؛‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬السيرة‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بول‭ ‬ريكور‭- ‬‮«‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬حكاية‭ ‬ذات‭ ‬بُعْد‭ ‬انتقائى‮»‬‭)‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تتعرض‭ ‬له‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬محاذير‭ ‬مجتمعيّة‭ (‬دينيّة،‭ ‬وأخلاقيّة،‭ ‬وأعراف‭ ‬اجتماعيّة،‭ ‬وتقاليد‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬تفرضه‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬الستر‭ ‬والحجب‮»‬‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬تَحِدّ‭ ‬من‭ ‬البوح‭ ‬والتعريّة،‭ ‬لأنّنا‭ - ‬فى‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ - ‬مجتمع‭ ‬إسلامى‭ ‬يُشهر‭ ‬قاعدة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يجب‭ ‬كشف‭ ‬ما‭ ‬ستره‭ ‬الله‮»‬‭.‬

مرآة‭ ‬القلب

قد‭ ‬يكون‭ ‬كاتب‭ ‬السّيرة‭ ‬أو‭ ‬المذكرات‭ ‬أو‭ ‬الاعترافات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬كتابة‭ ‬الذات،‭ ‬مُهَيِّأً‭ ‬ذاته‭ ‬للوقوع‭ ‬تحت‭ ‬سلطة‭ ‬القسم‭ / ‬اليمين‭ ‬السيرى،‭ ‬لقول‭ ‬الصدق‭ ‬أو‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فتأتى‭ ‬الاعترافات‭ ‬منقوصة،‭ ‬أو‭ ‬ثمّة‭ ‬حقائق‭ ‬تمّ‭ ‬إسقاطها‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬عمد‭. ‬لكن‭ ‬لو‭ ‬تأمّلنا‭ ‬الرسائل‭ ‬الشخصيّة،‭ ‬لاكتشفنا‭ ‬أنّ‭ ‬الذات‭ ‬واقعة‭ ‬تحت‭ ‬سُلْطة‭ ‬البوح‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬لسلطة‭ ‬القسم‭ ‬أو‭ ‬اليمين‭ ‬السيرى‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬عند‭ ‬فيليب‭ ‬لوجون‭ ‬وجورج‭ ‬ماي‭.‬

الذات‭ - ‬هنا‭ - ‬تجترُّ‭ ‬أناتها‭ ‬بكل‭ ‬أريحيّة،‭ ‬ودون‭ ‬قيود‭ ‬أو‭ ‬سقف‭ ‬يحِدُّ‭ ‬من‭ ‬استرسالها‭ ‬فى‭ ‬البوح،‭ ‬بل‭ ‬الذات‭ ‬وهى‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬أناتها،‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬فى‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬آخرَ‭ ‬متخيّلاً‭ ‬يتوجّهُ‭ ‬إليه‭ ‬الخطاب،‭ ‬فالآخر‭ ‬يُعادِل‭ ‬المرآة‭ ‬التى‭ ‬ترى‭ ‬فيها‭ ‬الذات‭ ‬أناتها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬تطالعنا‭ ‬الرسائل‭ ‬التى‭ ‬كتبها‭ ‬الكُتًّاب‭ (‬والكاتبات‭) ‬على‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭ ‬نقيضة‭ ‬لتلك‭ ‬التى‭ ‬رسمتها‭ ‬كتاباتهم‭ ‬التخيلييّة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬سعيد‭ ‬يقطين‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬تخلو‭ ‬أيّة‭ ‬كتابة‭ - ‬كيفما‭ ‬كان‭ ‬جنسها‭ ‬أو‭ ‬نوعها‭ - ‬من‭ ‬ذاتية‭ ‬صاحبها‮»‬‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ثمّة‭ ‬مراتب‭ ‬ومراق‭ ‬لهذه‭ ‬الذاتيّة‭ ‬يحكمها‭ ‬‮«‬الخطاب‭ ‬الذى‭ ‬تنتجه،‭ ‬ويُبِين‭ ‬عنها‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬لتجليها‭ ‬وتحقّقها‭ ‬بصورة‭ ‬ما‮»‬‭ (‬‮«‬كتابة‭ ‬الذات‮»‬،‭ ‬القدس‭ ‬العربى‭)‬؛‭ ‬لذا‭ ‬فصورة‭ ‬الأدباء‭ ‬فى‭ ‬الرسائل‭ ‬الشخصيّة‭ ‬هى‭ ‬صورة‭ ‬أرضية‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬الصُّورة‭ ‬القُدْسيّة‭ ‬التى‭ ‬بدوا‭ ‬عليها‭ ‬فى‭ ‬أعمالهم‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬أعدُّوها‭ ‬لتكون‭ ‬مُعبِّرةً‭ ‬عن‭ ‬ذواتهم‭ ‬فى‭ ‬سيرهم‭ ‬الذاتيّة‭.‬

الرسائل‭ ‬هى‭ ‬صورة‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬أخطائه‭ ‬وعثراته‭ ‬ونزواته،‭ ‬وليست‭ ‬صورة‭ ‬مرسومة‭ ‬بأناقة‭ ‬وبحساب‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ - ‬فى‭ ‬أصلها‭ - ‬خاضعة‭ ‬لمراقبة‭ ‬الآخر‭ ‬المتوجهة‭ ‬إليه‭ (‬المـُرسل‭ ‬إليه‭)‬،‭ ‬والسبب‭ ‬يعود‭ - ‬ربما‭ - ‬لأن‭ ‬الرسائل‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬شيشرون‭ ‬–‭ ‬‮«‬مستودع‭ ‬مُقدّس،‭ ‬يضع‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬أسرارهم‭ ‬وهم‭ ‬واثقون‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬أَلْقُوا‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬أمين،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬حوته‭ ‬من‭ ‬الأسرار‭ ‬لن‭ ‬يطّلع‭ ‬عليه‭ ‬إلا‭ ‬المـُرسَلة‭ ‬إليهم‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الرسائل‭ ‬أشبه‭ ‬بالمرآة‭ ‬المصقلة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مرآة‭ ‬القلب‭ ‬الصّادقة‭ ‬التى‭ ‬ينعكس‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬بخُلْد‭ ‬الإنسان‭ ‬وما‭ ‬يخفِيه‭ ‬فى‭ ‬قرارة‭ ‬نفسه‮»‬‭.‬‮ ‬

وقد‭ ‬تكون‭ ‬الرسائل‭ ‬أو‭ - ‬بتعبير‭ ‬المؤرخ‭ ‬البريطانى‭ ‬سيمون‭ ‬سيباغ‭ ‬مونتيفيورى‭- ‬‮«‬التاريخ‭ ‬المكتوب‮»‬‭ ‬بمثابة‭ ‬‮«‬وثيقة‭ ‬حيّة‭ ‬تُسجّل‭ ‬الحياة‭ ‬العقليّة‭ ‬لكاتبها،‭ ‬وتُعين‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬غرائزه‭ ‬وعواطفه،‭ ‬والأُسس‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬التى‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬أعماله‮»‬‭. ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تُبرز‭ ‬أدوارًا‭ ‬جديدة‭ (‬ومتناقضة‭) ‬لكاتبها،‭ ‬فالفارس‭ ‬الشجاع‭ ‬فى‭ ‬ميدان‭ ‬المعركة،‭ ‬ضعيف‭ ‬جبان‭ ‬فى‭ ‬ميدان‭ ‬الحب‭ ‬والعشق،‭ ‬والشخصية‭ ‬الجادّة‭ ‬فى‭ ‬حياتها‭ ‬العمليّة،‭ ‬مرحة‭ ‬ومتحرّرة‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬والرسميّات‭ ‬فى‭ ‬رسائل‭ ‬الهيام‭ ‬والعشق‭.‬

وهناك‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬ما‭ ‬يعتنى‭ ‬بتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬الشخصيّة‭ (‬راجع‭ ‬مثلاً‭ ‬رسائل‭ ‬‮«‬سيلفيا‭ ‬بلاث‮»‬‭ (‬1932‭ -‬1963‭) ‬نموذج‭ ‬واضح‭ ‬لليوميات‭ ‬والممارسات‭ ‬الحياتية،‭ ‬وبالمثل‭ ‬‮«‬فرانز‭ ‬كافكا‮»‬‭ (‬1883-‭ ‬1924‭) ‬فى‭ ‬‮«‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬ميلينا‮»‬‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬رسائل‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬التكوين‭ ‬الفكرى‭ ‬للشخصية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤول‭ ‬بالرسائل‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬أشبه‭ ‬بسيرة‭ ‬فكرية‭ ‬موجزة‭ ‬لصاحبها،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬رسائل‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ (‬1898-‭ ‬1987‭) ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ (‬1943‭)‬،‭ ‬وهى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬أرسلها‭ ‬الحكيم‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬الفرنسى‭ ‬أندريه،‭ ‬وعندما‭ ‬التقى‭ ‬به‭ ‬الحكيم‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬عام‭ ‬1936‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬أخذها‭ ‬منه،‭ ‬وقام‭ ‬بترجمتها،‭ ‬ونشرها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬ترتيبًا‭ ‬دقيقًا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تاريخها‭. ‬فقد‭ ‬واجهته‭ ‬مشكلة‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مؤرَّخًا،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬ترتيبها‭ ‬حسب‭ ‬الحوادث‭ ‬لا‭ ‬التواريخ‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬رسائل‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬هى‭ ‬التجربة‭ ‬الأولى‭ ‬لدى‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬الرسائل،‭ ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬وأنْ‭ ‬ضمّن‭ ‬نصه‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ (‬1938‭) ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬المتبادلة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬صديقه‭ ‬أندريه‭ (‬الذى‭ ‬يعود‭ ‬إليه‭ ‬ويخصُّه‭ ‬بالرسائل‭ ‬وحده‭ ‬فى‭ ‬زهرة‭ ‬العمر‭) ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬ومحبوبته‭ ‬سوزى‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭. ‬رسائله‭ ‬إلى‭ ‬أندريه‭ - ‬فى‭ ‬مجملها‭ - ‬ترصد‭ ‬تطورات‭ ‬الحب‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬سوزى‭ ‬عاملة‭ ‬شباك‭ ‬التذاكر،‭ ‬راصدًا‭ ‬حالته‭ ‬إزاء‭ ‬سماع‭ ‬صوتها‭ ‬وهى‭ ‬تغنى،‭ ‬آتيًّا‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬النافذة،‭ ‬أما‭ ‬رسائله‭ ‬إلى‭ ‬سوزان‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬عِتابًا‭ ‬ولومًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬تغيّر‭ ‬فى‭ ‬علاقتهما‭ ‬بعد‭ ‬رؤيتها‭ ‬لهنرى‭ (‬مديرها‭) ‬فى‭ ‬المطعم،‭ ‬وتبدُّل‭ ‬حالها،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬من‭ ‬ألمٍ‭ ‬جرّاء‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل؛‭ ‬مُفصحًا‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬عاشق‭ ‬يائس‭ ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬فيشبّه‭ ‬نفسه‭ ‬وقد‭ ‬طُرد‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬الحب،‭ ‬بآدم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طُرد‭ ‬من‭ ‬الجنّة،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬يُقارن‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬راقصة‭ ‬المعبدالتى‭ ‬هبط‭ ‬إليها‭ ‬الإله‭ (‬ماهادوفا‭) ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬تروى‭ ‬الأساطير‭ ‬الهندية،‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬ألقت‭ ‬بنفسها‭ ‬فى‭ ‬أتون‭ ‬النار‭ ‬عندما‭ ‬أحرقوه،‭ ‬فيأخذها‭ ‬ويصعدا‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬السّماء،‭ ‬مُستنكِرًا‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬هذا‭ ‬الفتاة‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬الآن‭.‬

رسائله‭ ‬تشفُّ‭ ‬عن‭ ‬مُحِبٍّ‭ ‬مكتوٍّ‭ ‬بنارِ‭ ‬الحُبّ،‭ ‬يبحثُ‭ ‬عن‭ ‬تبرير‭ ‬لما‭ ‬حدث،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجدَ‭ ‬الجواب‭ ‬الشافي‭. ‬أما‭ ‬رسائلها‭ ‬فكانتْ‭ ‬أسفًا‭ ‬وندمًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سبّبته‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬ألمٍ،‭ ‬وخجلها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقابله‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هى‭ ‬تَستهدى‭ ‬به‭ ‬كى‭ ‬يُرشدها‭ ‬بما‭ ‬يجعلها‭ ‬تنال‭ ‬الصفح‭ ‬والرضا‭.‬

التخييل‭ ‬الذاتى

يعتبر‭ ‬غالى‭ ‬شكرى‭ ‬فى‭ ‬كتابيه‭ - ‬ثورة‭ ‬المعتزل‭ (‬1966‭)‬،‭ ‬ومذكرات‭ ‬ثقافة‭ ‬تحتضر‭ (‬1970‭) - ‬أنّ‭ ‬نصيْ‭ ‬زهرة‭ ‬العمر‭ (‬1943‭) ‬وسجن‭ ‬العمر‭ (‬1964‭)‬،‭ ‬كلاهما‭ ‬ترجمة‭ ‬ذاتيّة‭ ‬مباشرة‭ ‬لمرحلتين‭ ‬هامتيْن‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬عمر‭ ‬الحكيم،‭ ‬هما‭ ‬الطفولة‭ ‬أو‭ ‬الصبا،‭ ‬والشباب؛‭ ‬فيكشف‭ ‬فيهما‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬تحديدًا‭ ‬فى‭ ‬ثورة‭ ‬المعتزل‭ - ‬لنا‭ ‬‮«‬عن‭ ‬أدق‭ ‬شعيرات‭ ‬تكوينه‭ ‬الأول‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬طفلاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬شابًا‭ ‬فى‭ ‬مقتبل‭ ‬حياته‭ ‬العمليّة‮»‬‭.‬

والحكيم‭ ‬نفسه‭ ‬يعترف‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬حواراته‭ ‬بأن‭ ‬هاتين‭ ‬التجربتيْن‭ ‬بالفعل‭ ‬تُعبّران‭ ‬عن‭ ‬هاتين‭ ‬المرحلتيْن‭ ‬المهمتيْن‭ ‬فى‭ ‬حياته،‭ ‬ففى‭ ‬حواره‭ ‬مع‭ ‬لوسى‭ ‬يعقوب،‭ ‬تسأله‭: ‬هل‭ ‬تمثّل‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ - ‬وتقصد‭ ‬عودة‭ ‬الروح‭ - ‬بالفعل‭ ‬تاريخ‭ ‬حياة‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم؟‭ ‬فيجيب‭ ‬الحكيم‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬بلا‭ ‬شك‭. ‬فالتأثُّر‭ ‬والتأثير‭ ‬واضحان‭. ‬وشخصية‭ ‬حامد‭ ‬بك‭ ‬العطيفى،‭ ‬هى‭ ‬شخصية‭ ‬والدي‭. ‬ثمّ‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬محسن‮»‬‭ ‬فهى‭ ‬تمثلنى،‭ ‬وفيما‭ ‬بعد‭ ‬كانت‭ ‬زوجتى‭ ‬تنادينى‭ ‬دائمًا،‭ ‬وتحب‭ ‬أن‭ ‬تنادينى‭ ‬باسم‭ (‬محسن‭)‬‮»‬‭. (‬لوسى‭ ‬يعقوب‭: ‬‮«‬عصفور‭ ‬الشرق‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬حوار‭ ‬حول‭ ‬أفكاره‮»‬،‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭).‬

قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬مبدئيًّا،‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أعمال‭ ‬الحكيم‭ ‬الروائيّة‭ ‬تندرج‭ ‬تحت‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬التخييل‭ ‬الذاتي‮»‬؛‭ ‬لأن‭ ‬عناصر‭ ‬التخييل‭ ‬تتضافر‭ ‬مع‭ ‬العناصر‭ ‬المرجعية‭ ‬فى‭ ‬نصوصه،‭ ‬فيأتى‭ ‬حضور‭ ‬أناته‭ ‬متدثّرًا‭ ‬بغلائل‭ ‬التخييل،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬فى‭ ‬عودة‭ ‬الروح‭ (‬1933‭)‬،‭ ‬ويوميات‭ ‬نائب‭ ‬فى‭ ‬الأرياف‭ (‬1937‭)‬،‭ ‬وعصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ (‬1938‭)‬،‭ ‬وراقصة‭ ‬المعبد‭(‬1939‭)‬،‭ ‬والرباط‭ ‬المقدس‭ (‬1944‭)‬،‭ ‬وفى‭ ‬المقابل‭ ‬فإن‭ ‬الذاتى‭ / ‬أو‭ ‬المرجعى‭ ‬فى‭ ‬النصوص‭ ‬السّيريّة‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬التخييل‭ ‬‮«‬الذى‭ ‬يزيل‭ ‬الحواجز‭ ‬بين‭ ‬الواقعى‭ ‬واللا‭ ‬واقعي‮»‬‭ (‬محمد‭ ‬برادة‭: ‬التخييل‭ ‬الذاتى‭ ‬عند‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬مجلة‭ ‬نزوى،‭ ‬عدد‭ ‬87،‭ ‬2016‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬الأنا‭ ‬وهى‭ ‬تسترجع‭ ‬مسيرتها‭ ‬لا‭ ‬تستغنى‭ ‬عن‭ ‬التخييل‭. ‬

ومع‭ ‬وضوح‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ (‬الذاتي‭) - ‬بصفة‭ ‬عامة‭ - ‬فى‭ ‬كتابات‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم؛‭ ‬حيث‭ ‬تُعْنى‭ ‬الذات‭ ‬بتجسير‭ [‬أو‭ ‬ردم‭] ‬الهِوّة‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬والكتابة،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬فعل‭ ‬التخييل‭ ‬والمرجع،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬تعتبر‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتيّة‭ ‬خالصة‭ ‬عن‭ ‬التكوين‭ ‬الاجتماعى،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬تَتَّبُعِ‭ ‬المسار‭ ‬الشّخصىّ‭ / ‬البيوجرافى‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬حتى‭ ‬الشباب،‭ ‬وتطرُّقه‭ ‬للنشأة‭ ‬والعائلة‭ ‬والدراسة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتيّة‭ / ‬شخصيّة،‭ ‬فحسب‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬لنبدأ‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬البداية‭: ‬من‭ ‬يوم‭ ‬وجدت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬كما‭ ‬يوجد‭ ‬كل‭ ‬مخلوق‭ ‬حى،‭ ‬بالميلاد‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬وأم‮»‬‭ (‬سجن‭ ‬العمر‭). ‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬تطابق‭ ‬الهُويات‭ ‬الثلاث‭ (‬المؤلف‭ / ‬الراوى‭ / ‬البطل‭) ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬‮«‬فيليب‭ ‬لوجون»؛‭ ‬لتحقّق‭ ‬شروط‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتيّة؛‭ ‬حيث‭ ‬عائدية‭ ‬الضمير‭ ‬الأنا‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬السّرد،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬المؤلف‭ ‬الخارجى‭ ‬للنص‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الاسم‭ ‬الشخصى‭ ‬يظهر‭ ‬صراحة‭ ‬فى‭ ‬النص‭ ‬عندما‭ ‬يسعى‭ ‬الأب‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الاسم‭ ‬الذى‭ ‬سُمّى‭ ‬به‭ ‬‮«‬حسين‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‮»‬‭ ‬بالطرق‭ ‬القانونية‭ ‬بعدما‭ ‬لم‭ ‬يَرُقْ‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬سمّته‭ ‬به‭ ‬زوجته‭ ‬التى‭ ‬فوّضها‭ ‬فى‭ ‬اختيار‭ ‬الاسم‭. ‬ومرة‭ ‬ثانية‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬العقاد‭ ‬عندما‭ ‬تمّ‭ ‬تعيين‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬عضوًا‭ ‬فى‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬فى‭ ‬كرسى‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬فهمى‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬فكرة‭ ‬تأتى‭ ‬فى‭ ‬أوانها‭ ‬بعد‭ ‬استقبال‭ ‬زميلنا‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬بالمجمع‭ ‬اللغوى،‭ ‬وبعد‭ ‬استقباله‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬فهمى‭ ‬–‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬–‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدور‭ ‬بخلد‭ ‬الأديب‭ ‬الفقيد‭ ‬الكبير‭ ‬أن‭ ‬يُقدِّمَ‭ ‬خليفته‭ ‬فى‭ ‬المجمع‭ ‬حين‭ ‬حدثتى‭ ‬ساعة‭ ‬عن‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬وإسماعيل‭ ‬الحكيم،‭ ‬قال‭: ‬الله‭ ‬يرحم‭ ‬والده‭ ‬كان‭ ‬مثل‭ ‬ابنه‭ ‬صاحب‭ ‬تواليف‮»‬‭ (‬سجن‭ ‬العمر‭: ‬ص‭ ‬29‭). ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬عن‭ ‬تردد‭ ‬أصداء‭ ‬التاريخ‭ ‬الشخصيّ‭ ‬لذات‭ ‬المؤلف‭.‬

فى‭ ‬حين‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬تراوح‭ ‬بين‭ ‬الرسائل‭ ‬الشخصيّة‭ ‬والسيرة‭ ‬الفكريّة،‭ ‬فمراجعة‭ ‬الذّات‭ ‬هنا،‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬وعيها‭ ‬ومصادر‭ ‬تشكُّلِهَا،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬فهى‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬تكوين‭ ‬الذّات‭ ‬فكريًّا‭ ‬وليس‭ ‬اجتماعيًّا‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬العمر‮»‬‭.‬

صدر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1964،‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ (‬1943‭) ‬بعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬تقريبًا،‭ ‬لكن‭ ‬البداية‭ ‬التى‭ ‬بدأ‭ ‬بها‭ ‬الحكيم‭ ‬سجن‭ ‬العمر،‭ ‬تعدّ‭ ‬مدخلاً‭ ‬مهمًّا‭ ‬لفهم‭ ‬الرسائل‭ ‬وطبيعتها،‭ ‬إذْ‭ ‬فارقت‭ ‬محتواها‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه،‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الجوانب‭ ‬الحياتيّة‭ ‬والشخصيّة،‭ ‬إلى‭ ‬محتوى‭ ‬فنى‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬ورؤى‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬غير‭ ‬محسومة،‭ ‬بل‭ ‬تتجدّد‭ ‬إشكالياتها،‭ ‬لغياب‭ ‬الحل‭ ‬الجذرى‭ ‬والذى‭ ‬كان‭ ‬مقترحًا‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬كتاب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ (‬1889-‭ ‬1973‭)‬‮»‬‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ (‬1927‭) ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬به‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬القضايا‭ ‬التى‭ ‬آثارها‭ ‬آنذاك‭.‬

يقول‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬مدخل‭ ‬سجن‭ ‬العمر‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الصفحات‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سرد‭ ‬وتأريخ‭. ‬إنها‭ ‬تعليل‭ ‬وتفسير‭ ‬لحياة،‭ ‬إنى‭ ‬أرفع‭ ‬فيها‭ ‬الغطاء‭ ‬عن‭ ‬جهازى‭ ‬الآدمى‭ ‬لأفحص‭ ‬تركيب‭ ‬ذلك‭ ‬المحرك‭ ‬الذى‭ ‬نسميه‭ ‬الطبيعة‭ ‬أو‭ ‬الطبع‭. ‬هذا‭ ‬المحرك‭ ‬المتحكم‭ ‬فى‭ ‬قدرتى،‭ ‬الموجه‭ ‬لمصيري‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬يتساءل‭ ‬أسئلة‭ ‬وجودية‭ ‬هكذا‭:‬‮»‬‭ ‬من‭ ‬أى‭ ‬شىء‭ ‬صُنع؟‭... ‬من‭ ‬أى‭ ‬الأجزاء‭ ‬شُكّل‭ ‬وركّب؟‮»‬‭(‬سجن‭ ‬العمر‭: ‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬الشروق‭: ‬2008‭ )‬

وفى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬رسائل‭ ‬حقيقيّة‭ ‬كُتبت‭ ‬بالفرنسيّة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬العهد‭ ‬الذى‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭. ‬وهى‭ ‬موجهة‭ ‬إلى‭ ‬مسيو‭ ‬‮«‬أندريه‭. ..‬‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬جاء‭ ‬وصفه‭ ‬فى‭ ‬كتابى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬بدأنا‭ ‬نتراسل‭ ‬بعد‭ ‬مغادرة‭ ‬‮«‬باريس‮»‬‭ ‬للعمل‭ ‬فى‭ ‬مصانع‭ ‬‮«‬ليل‮»‬‭ ‬بشمال‭ ‬فرنسا‭. ‬ولبثنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬عودتى‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬والتحاقى‭ ‬بالسلك‭ ‬القضائي‭. ‬ثمّ‭ ‬انقطعتْ‭ ‬بيننا‭ ‬الرسائل‭ ‬والأخبار‭. ‬وانتهى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬وجرفنا‭ ‬تيار‭ ‬الحياة‭ ‬كل‭ ‬فى‭ ‬واديه‭... ‬فلم‭ ‬نلتقِ‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1936،‭ ‬إذْ‭ ‬سافرت‭ ‬لتمضيّة‭ ‬الصيف‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭... ‬وكنتُ‭ ‬قد‭ ‬تركتُ‭ ‬القضاء،‭ ‬وصرتُ‭ ‬مديرًا‭ ‬للتحقيقات‭ ‬بوزارة‭ ‬المعارف،‭ ‬ونشرتُ‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬عدة‭ ‬كتب‭... ‬فوجدتُ‭ ‬أندريه‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬رجلاً‭ ‬مهمًّا‭ ‬ذا‭ ‬مركز‭ ‬مستقر‭ ‬فى‭ ‬الصناعة‭ ‬الفرنسية‭. ‬ووجدتُ‭ ‬زوجته‭ ‬‮«‬جرمين‮»‬‭ ‬على‭ ‬عهدى‭ ‬بها‭. ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬الزمن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬سالف‭ ‬جمالها‭....‬إلخ‭...‬‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭: ‬مكتبة‭ ‬الأسرة‭)‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحكيم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مرجعية‭ ‬الرسائل؛‭ ‬المرْسِل‭ (‬توفيق‭ ‬الحكيم‭) ‬والمرْسَل‭ ‬إليه‭ (‬أندريه‭)‬،‭ ‬وأماكن‭ ‬الإرسال‭ (‬باريس،‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬طنطا،‭ ‬دسوق‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُقرِّبها‭ ‬أو‭ ‬يشدُّها‭ - ‬بشكل‭ ‬واضح‭ - ‬إلى‭ ‬السّرد‭ ‬الذَّاتى‭ ‬الذى‭ ‬يُفصح‭ ‬عن‭ ‬مكونات‭ ‬النفس‭ ‬وخوالجها‭ ‬فى‭ ‬طَوْر‭ ‬الشّباب،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬فى‭ ‬مقدمة‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬العمر‮»‬‭ - ‬لاحقًا‭ - ‬يكاد‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل،‭ ‬فمع‭ ‬كونها‭ ‬رسائل‭ ‬حقيقيّة‭ ‬تضىء‭ ‬جوانب‭ ‬الذات‭ ‬المعتمة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬أيضًا‭ - ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬جوانبها‭ ‬المهمّة‭ - ‬تعليل‭ ‬وتفسير‭ ‬ليس‭ ‬للحياة‭ ‬ومواقفه‭ ‬منها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬لآرائه‭ ‬وكتاباته‭ ‬المتعدِّدة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أصح‭ ‬إضاءة‭ ‬لموقفه‭ ‬الفكرى‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإشكاليات‭ ‬الثقافيّة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬يدعو‭ ‬للتساؤل‭ ‬والعجب‭ ‬فى‭ ‬آنٍ‭: ‬

ما‭ ‬علاقة‭ ‬أندريه‭ ‬الصديق‭ ‬الفرنسى‭ ‬العامل‭ ‬بمصانع‭ ‬ليل،‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬والأدب‭ ‬العربى‭ ‬ومشاكل‭ ‬التدريس‭ ‬فى‭ ‬مصر،‭ ‬ونشأة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبى،‭ ‬وقضايا‭ ‬الفن‭ ‬عمومًا؟‭! ‬

لماذا‭ ‬لم‭ ‬نرَ‭ ‬رسائل‭ ‬أندريه‭ ‬للحكيم؟‭ ‬وماذا‭ ‬كانت‭ ‬تحتوي؟‭ ‬

هل‭ ‬تجاوب‭ ‬معه‭ ‬أندريه‭ ‬وشاركه‭ ‬انشغالاته،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أكّد‭ ‬له‭ ‬مواطن‭ ‬القوة‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسى‭ ‬التى‭ ‬ذكرها‭ ‬الحكيم؟‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬دعمه‭ ‬بنماذج‭ ‬ترجّح‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬افتراضات؟

أقنعة‭ ‬الحكيم

هذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬قد‭ ‬تؤكد‭ - ‬لى‭ ‬وحدى‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬استنتاجاتى‭ ‬بأن‭ ‬أندريه‭ ‬مع‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬مرجعيته‭ ‬كشخص‭ ‬التقاه‭ ‬الحكيم‭ ‬وعاش‭ ‬مع‭ ‬أسرته‭ ‬كما‭ ‬صوّر‭ ‬لنا‭ ‬فى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬ظنى‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬القناع‭ ‬الذى‭ ‬صنعه‭ ‬الحكيم‭ ‬لنفسه‭ ‬كى‭ ‬يستعرض‭ ‬هذه‭ ‬الآراء‭ ‬المهمّة‭. ‬فأندريه‭ ‬فى‭ ‬وظيفته‭ ‬الفنيّة‭ (‬شخصية‭ ‬روائية‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬العامل‭ ‬الروسى‭ ‬إيفان‭ ‬فى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬،‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬كان‭ ‬قناعًا‭ ‬للحكيم،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّنا‭ ‬لو‭ ‬عرفنا‭ ‬أن‭ ‬أندريه‭ ‬فى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬أيّة‭ ‬اهتمامات‭ ‬فكريّة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مناقشات‭ ‬عميقة‭ ‬تجمعه‭ ‬مع‭ ‬‮«‬محسن‮»‬‭. ‬

فكل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشغله‭ ‬هو‭ ‬أمور‭ ‬حياتيّة،‭ ‬مُتعلِّقة‭ ‬بعمله،‭ ‬وتدبير‭ ‬مصاريف‭ ‬بديلة‭ ‬لإرسال‭ ‬ابنه‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬ولم‭ ‬تجرِ‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬‮«‬محسن‮»‬‭ ‬بطل‭ ‬الرواية،‭ ‬محاورات‭ ‬فكريّة،‭ ‬وأدبيّة‭ ‬باستثناء‭ ‬مشورته‭ ‬فى‭ ‬علاقته‭ ‬بسوزى،‭ ‬فكان‭ ‬يُقدِّم‭ ‬له‭ ‬نصائح‭ ‬عامّة،‭ ‬مصدرها‭ ‬تجربة‭ ‬حياتيّة‭ ‬معيشة‭ ‬وليست‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬وعى‭ ‬معرفى‭. ‬

الشىء‭ ‬الثانى‭ ‬الذى‭ ‬يؤكّد‭ ‬زعمى،‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬المراسلة‭ ‬بالمعنى‭ ‬البسيط‭ (‬القول‭ ‬والرد‭ ‬عليه‭) ‬لهى‭ ‬أمر‭ ‬متداول‭ ‬بشكل‭ ‬كلاسيكى‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬التراسل،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬العلاقات‭ ‬العامة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إليه‭ ‬فرويد‭ ‬فى‭ ‬رسالته‭ ‬التحذيرية‭ ‬إلى‭ ‬خطيبته‭: ‬‮«‬سأتوقف‭ ‬فورًا‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬إليك‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تجيبينى‭...‬‮»‬‭ ‬حوارات‭ ‬الحكيم‭ ‬هنا‭ ‬فى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬أشبه‭ ‬بحوارات‭ ‬أحادية،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬فى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬التى‭ ‬تأتى‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬فالحوارات‭ / ‬الرسائل‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬محسن‭ ‬وسوزي‭. ‬فأندريه‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬رسائل‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬،‭ ‬لنتأكد‭ ‬من‭ ‬مدى‭ ‬فهمه‭ ‬لهذه‭ ‬الحوارات‭ ‬والمناقشات‭ ‬واستيعابه‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬فى‭ ‬عقل‭ ‬الحكيم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُسبّب‭ ‬ضيقًا‭ ‬للحكيم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬رسائله‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬عبارات‭ ‬استنكار‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الرد‭ ‬أو‭ ‬التأخر‭ ‬فى‭ ‬الرد‭. ‬أما‭ ‬القليل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬يصل‭ ‬الحكيم،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬ردًّا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أثاره‭ ‬الحكيم‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬تشغل‭ ‬فكره،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬مُتعلّقًا‭ - ‬بشكل‭ ‬أساسى‭ - ‬بعمله‭ ‬وزوجته‭ ‬جرمين‭ ‬وابنه‭ ‬جانو‭.‬

الشيء‭ ‬الثالث‭ - ‬وهو‭ ‬الأهم‭- ‬ماذا‭ ‬يعنى‭ ‬ورود‭ ‬متن‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬رسائله‭ ‬إلى‭ ‬أندريه،‭ ‬ضمن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬صيغة‭ ‬رسالة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬مقالة‭ ‬تُعالج‭ ‬موضوعًا‭ ‬مُتعلِّقًا‭ ‬بالأدب‭ ‬العربى‭ ‬وتجدّده،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬سيرد‭ ‬لاحقًا؟‭ ‬الرسالة‭ ‬تحضر‭ ‬ضمن‭ ‬نصوص‭ ‬الكتاب‭ ‬فى‭ ‬صيغة‭ ‬مقالة‭ ‬نقدية،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬ورودها‭ - ‬سابقًا‭ - ‬ضمن‭ ‬رسائل‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬التى‭ ‬كتبت‭ ‬فى‭ ‬الربع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬وضمها‭ ‬كتاب‭ - ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ - ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1943،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الأدب‮»‬‭ ‬نشر‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬أى‭ ‬بعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬تقريبًا‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭.‬

فى‭ ‬ظنى‭ ‬أن‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬يُقدِّم‭ ‬مطارحات‭ ‬فكرية،‭ ‬وآراء‭ ‬غاية‭ ‬فى‭ ‬الأهمية؛‭ ‬حيث‭ ‬تتوجه‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬تأمّل‭ ‬نفسها‭ ‬عبر‭ ‬القرين‭ ‬أو‭ ‬القناع،‭ ‬لمجادلة‭ ‬أفكارها‭ ‬وهواجسها‭ ‬سعيًّا‭ ‬إلى‭ ‬الفهم‭ ‬والإدراك‭. ‬لذا‭ ‬أرى‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرى‭ ‬الشخصية‭ - ‬أن‭ ‬شخصية‭ ‬العامل‭ ‬الروسى‭ ‬إيفانفوفيتش‭ ‬فى‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬هى‭ ‬قناع‭ ‬لشخصية‭ ‬الحكيم‭ ‬وأفكاره‭ ‬التى‭ ‬مرّرها‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬هذا‭ ‬العامل‭ ‬الهارب‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬الروسيّة،‭ ‬ويعيش‭ ‬حياة‭ ‬بائسة‭ ‬فى‭ ‬أحياء‭ ‬باريس،‭ ‬فأفكار‭ ‬الحكيم‭ ‬التى‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬إيفان‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬إيمانه‭ ‬بقضايا‭ ‬وطنه‭ ‬الذى‭ ‬ينتمى‭ ‬إليه‭ ‬وانحيازه‭ ‬إليه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬شخصية‭ ‬محسن‭ ‬المنحاز‭ ‬للغرب،‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬إيفان‭ ‬المنحاز‭ ‬للشرق،‭ ‬إذْ‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬أنبياء‭ ‬الشرق‭ ‬استطاعوا‭ ‬أن‭ ‬يوازنوا‭ ‬بين‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة،‭ ‬ففهموا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المساواة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقام‭ ‬فى‭ ‬مملكة‭ ‬الأرض‭ ‬بين‭ ‬الأغنياء‭ ‬والفقراء،‭ ‬فأدخلوا‭ ‬فى‭ ‬القسمة‭ ‬مملكة‭ ‬السماء‮»‬‭ (‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬أنبياء‭ ‬الغرب‭ ‬فلم‭ ‬ينتبهوا‭ ‬لذلك‭ ‬وأوقعوا‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬فى‭ ‬صراع‭ ‬طبقى‭ ‬يتهافت‭ ‬عليه‭ ‬أصحاب‭ ‬الأرض‭.‬

تكشف‭ ‬هذه‭ ‬الحوارات‭ ‬وعيًّا‭ ‬مُبكّرًا‭ ‬لمشكلة‭ ‬الصّراع‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ (‬الروحى‭) ‬والغرب‭ (‬المادى‭)‬،‭ ‬فعلاوة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ناقشاه‭ (‬الاثنان‭: ‬محسن‭ ‬وإيفان‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لقاءاتهما‭ ‬التى‭ ‬بدأت‭ ‬فى‭ ‬مطعم‭ ‬العمّالِ،‭ ‬وتواصلت‭ ‬فى‭ ‬غرفة‭ ‬إيفان‭ ‬بعدما‭ ‬هجر‭ ‬محسن‭ ‬فندق‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬الأكاسيا‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬خلافه‭ ‬مع‭ ‬سوزي؛‭ ‬فإنها‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬أفكار‭ ‬ماركس‭ ‬عن‭ ‬توزيع‭ ‬الثروات‭ ‬وصراع‭ ‬الطبقات،‭ ‬وهناك‭ ‬آراء‭ ‬تناقش‭ ‬سلطة‭ ‬رجال‭ ‬الدين،‭ ‬بل‭ ‬وتحمِّلهم‭ ‬المآسى‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬الشعوب،‭ ‬وحالة‭ ‬القلق‭ ‬الوجودى‭ ‬من‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬حالة‭ ‬التصوُّف‭ ‬التى‭ ‬يدعون‭ ‬الناس‭ ‬للانغماس‭ ‬فيها،‭ ‬وحالة‭ ‬الترف‭ ‬التى‭ ‬يعيشون‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يتحامل‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ (‬المسلمين‭ ‬والمسيحيين‭)‬،‭ ‬فهم‭ ‬فى‭ ‬نظره‭ ‬‮«‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬مملكة‭ ‬السماء‮»‬‭ ‬فحسب‭ ‬رأى‭ ‬إيفان‭ ‬كان‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يتجردوا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬متاع‭ ‬الأرض،‭ ‬ويظهروا‭ ‬فى‭ ‬زهدهم‭ ‬بمظهر‭ ‬المنتظر‭ ‬حقا‭ ‬لنعيم‭ ‬آخر‭ ‬فى‭ ‬السماء‮»‬‭ (‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‭)‬،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬انتقاده‭ ‬النظام‭ ‬الصناعى‭ ‬الذى‭ ‬قتل‭ ‬فتنة‭ ‬الإبداع‭.‬

الغريب‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوعى‭ ‬المبكر‭ ‬بالتراث‭ ‬الإبداعى‭ (‬شرقه‭ ‬وغربه‭) ‬الذى‭ ‬ظهر‭ ‬فى‭ ‬الحوارات‭ ‬عبر‭ ‬الاستشهادات‭ ‬باقتباسات‭ ‬من‭ ‬مأثورات‭ ‬متعدّدة؛‭ ‬كالجاحظ‭ ‬وإسحاق‭ ‬الموصلى‭ ‬وحافظ‭ ‬الشيرازى‭ ‬وأنا‭ ‬كريون‭ ‬وعمر‭ ‬الخيام‭ ‬وبيتهوفن‭ ‬وديهاميل‭ ‬وهكسلى‭ ‬والقرآن‭ ‬والمسيح‭... ‬إلخ‭ ‬من‭ ‬اقتباسات‭ ‬متناثرة‭ ‬فى‭ ‬مواقف‭ ‬عديدة‭ ‬سواء‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬وغيرها؛‭ ‬يعتبرها‭ ‬الدكتور‭ ‬غالى‭ ‬شكرى‭ ‬عيبًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الدلالة‭ ‬الأولى‭ ‬لهذا‭ ‬العدد‭ ‬الوافر‭ ‬من‭ ‬الاقتباسات،‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬الافتعال‭ ‬والزيف‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬قدميها‭ ‬بغير‭ ‬عكاكيز‮»‬،‭ ‬فمن‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تجربة‭ ‬الحب‭ ‬تجربة‭ ‬ذاتيّة‭ ‬فى‭ ‬التفرُّد،‭ ‬خاصّة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬حبًّا‭ ‬رومانسيًّا‮»‬‭ (‬غالى‭ ‬شكري‭: ‬‮«‬ثورة‭ ‬المعتزل‮»‬‭)‬

بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬التحامل‭ ‬الذى‭ ‬يُبديه‭ ‬غالى‭ ‬شكرى‭ ‬على‭ ‬الرواية،‭ ‬إذْ‭ ‬يعتبر‭ ‬القصة‭ ‬الرومانسيّة‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬نكسة‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬الرومانتيكيّة‭ ‬المصريّة‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬المحاورات‭ ‬التى‭ ‬جرت‭ ‬بين‭ ‬محسن‭ ‬وإيفان،‭ ‬فهى‭ ‬بمثابة‭ ‬‮«‬رجعية‭ ‬فكريّة‭ ‬ساذجة‮»‬،‭ ‬فإننا‭ ‬نأخذ‭ ‬منه‭ ‬فقط‭ ‬إشارته»بأن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬يسقط‭ ‬فنيًّا‭ ‬فى‭ ‬هاوية‭ ‬الفكر‭ ‬المجرد‮»‬‭ (‬ثورة‭ ‬المعتزل‭). ‬والغرض‭ ‬من‭ ‬الاستشهاد‭ ‬هو‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحكيم‭ ‬يمرّر‭ ‬فى‭ ‬أعماله‭ ‬حتى‭ ‬التخيلييّة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬التى‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تثقل‭ ‬النص‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬‮«‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬بوضوح‭ ‬فى‭ ‬رسائل»زهرة‭ ‬العمرة‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬تثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الفكرية‭ ‬والنقدية‭ ‬الشاغلة،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬سنرى‭.‬

باريس‭ ‬سنوات‭ ‬التكوين‭ ‬الفكرى

تنقسم‭ ‬الرسائل‭ ‬فى‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أجزاء‭ ‬يختلف‭ ‬فيها‭ ‬مكان‭ ‬الإرسال،‭ ‬الذى‭ ‬يتنوّع‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬والإسكندرية‭ ‬وطنطا‭ ‬ومدينة‭ ‬دسوق،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬المرسِل‭ ‬والمرسَل‭ ‬إليه‭ ‬ثابتيْن‭. ‬كما‭ ‬يختلف‭ ‬عدد‭ ‬الرسائل‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭. ‬تكشف‭ ‬الرسائل‭ - ‬فى‭ ‬مجملها‭ - ‬عن‭ ‬التكوين‭ ‬الفكرى‭ ‬للحكيم،‭ ‬وآرئه‭ ‬فى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬التى‭ ‬اضطلع‭ ‬عليها،‭ ‬وأيضًا‭ ‬رأيه‭ ‬فى‭ ‬المرأة‭ ‬كـ»شرقى‭ ‬متوحش‮»‬‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭.‬

الجزء‭ ‬الأول‭ ‬منها‭ ‬يتكوّن‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬رسالة،‭ ‬تطرّق‭ ‬فيها‭ ‬الحكيم‭ ‬لحياته‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭ ‬وما‭ ‬ينتابه‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬وأحزان‭ ‬تصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الضعف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬ينهزم‭ ‬أمام‭ ‬الحياة‭ ‬وحوادثها‭. ‬وسرد‭ ‬فيها‭ ‬لمحطات‭ ‬فشله‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬وفى‭ ‬الحب،‭ ‬ورسوبه‭ ‬فى‭ ‬الامتحان،‭ ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬جوانبها‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬ولع‭ ‬الحكيم‭ ‬بالموسيقى‭ ‬والفنون،‭ ‬ورؤيته‭ ‬العميقة‭ ‬لفن‭ ‬التصوير‭ ‬وقراءته‭ ‬الفاحصة‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬وأسباب‭ ‬انبهاره‭ ‬بها،‭ ‬فالفنان‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬‮«‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬العجيب‭ ‬الذى‭ ‬يلخص‭ ‬الطبيعة‭ ‬بمادتها‭ ‬وروحها‭ ‬فى‭ ‬ذاته‭ ‬الضئيلة‭ ‬المحدودة‮»‬،‭ ‬أى‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬داخله‭ ‬‮«‬الحيوان‭ ‬والإله‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‮»‬‭.‬

كما‭ ‬يطالعنا‭ ‬فيها‭ ‬باهتماماته‭ ‬وشغفه‭ ‬بالعلوم‭ ‬والفنون‭ (‬الموسيقى‭ ‬والتصوير‭)‬،‭ ‬والمعارف‭ ‬والأفكار،‭ ‬وضيقه‭ ‬من‭ ‬ضآلة‭ ‬الفكر‭ ‬ومحدوديته،‭ ‬بل‭ ‬يعقد‭ ‬مقارنات‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزى‭ ‬الذى‭ ‬عنده‭ ‬أدب‭ ‬مغامرات‭ ‬بأوسع‭ ‬معانيها‭ ‬وأجملها‭ ‬وأشرفها،‭ ‬وبين‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسى‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬أدب‭ ‬الشكل‭ ‬فى‭ ‬جماله‭ ‬الساحر،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬المحادثات‭ ‬اللبقة‭ ‬النبيلة،‭ ‬أدب‭ ‬التفكير‭ ‬الرائق‭ ‬الهادئ‮»‬‭.‬

يَحكى‭ ‬لأندريه‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬لم‭ ‬يضع‭ ‬وقته‭ ‬فكان‭ ‬‮«‬يقرأ‭ ‬ويقرأ،‭ ‬يقرأ‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬المعارف‮»‬‭ ‬فلديه‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬الأديب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موسوعيًّا،‭ ‬فلم‭ ‬يترك‭ ‬شيئًا‭ ‬مما‭ ‬أنتجته‭ ‬العبقرية‭ ‬البشرية‭ ‬إلا‭ ‬وأحاط‭ ‬به،‭ ‬كالهندسة‭ ‬والطبيعة‭ ‬والرياضيات‭ ‬والفلك‭ ‬بدأ‭ ‬بنيوتن‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬أنشتاين،‭ ‬وعلم‭ ‬الأحياء،‭ ‬فقرأ‭ ‬داروين‭ ‬ولامارك،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬علوم‭ ‬كعلم‭ ‬النفس‭ ‬والعلوم‭ ‬الروحية‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭: ‬ص‭ ‬192‭). ‬قرأ‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بما‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬علم‭ ‬الكهرباء‭. ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬شيئًا‭ ‬عن‭ ‬عاداته‭ ‬فى‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومخطوطاته‭ ‬التى‭ ‬مزقها،‭ ‬وكأنه‭ ‬يقدّم‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬حَيرة‭ ‬الفنان‭ ‬إزاء‭ ‬اكتمال‭ ‬عمله‭.‬

يشمل‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬على‭ ‬25‭ ‬رسالة،‭ ‬وهى‭ ‬الرسائل‭ ‬التى‭ ‬أرسلها‭ ‬الحكيم‭ ‬بعد‭ ‬مغادرة‭ ‬باريس‭ ‬وإقامته‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وفيها‭ ‬تعاوده‭ ‬الأحزان‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬إذ‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬الوحدة،‭ ‬فحياته‭ ‬تلخّصها‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬هى‭ ‬‮«‬الوحدة‭ ! ‬الوحدة‭! ‬فى‭ ‬أكمل‭ ‬معانيها‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬مفارقته‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬والحياة‭ ‬الفكريّة،‭ ‬ودخول‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬مرحلة‭ ‬الألم‭ ‬الحادّ‭ ‬نتيجة‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يحياه‭ ‬ظاهريًّا؛‭ ‬حيث‭ ‬ضجره‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬وكيل‭ ‬النائب‭ ‬العام،‭ ‬وما‭ ‬تفرضه‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬متطلبات‭ ‬هو‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬تحقيقها،‭ ‬وبين‭ ‬حياة‭ ‬الباطن‭ ‬التى‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬حيث‭ ‬عقائده‭ ‬وأفكاره،‭ ‬وحبّه‭ ‬للفن‭ ‬والأدب‭. ‬

يحتوى‭ ‬الجزء‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬على‭ ‬سبع‭ ‬رسائل‭ ‬بعثها‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬من‭ ‬طنطا،‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬وكيلاً‭ ‬للنائب‭ ‬العام،‭ ‬وفى‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬ينصرف‭ ‬الحكيم‭ ‬كليّة‭ ‬عن‭ ‬مناقشات‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب،‭ ‬إلى‭ ‬الانشغال‭ ‬بحياته‭ ‬الجديدة،‭ ‬وما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سأم‭ ‬وفتور‭ ‬بسبب‭ ‬مهنته،‭ ‬فعمله‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬والكتابة،‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬لا‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالأدب؛‭ ‬بسبب‭ ‬الجوّ‭ ‬المسيطر‭ ‬فالويل‭ ‬كل‭ ‬الويل‭ ‬‮«‬لرجل‭ ‬القضاء‭ ‬الذى‭ ‬يستكشف‭ ‬فيه‭ ‬زملاؤه‭ ‬أنه‭ ‬الأديب‮»‬‭ ‬وكأن‭ ‬كلمة‭ ‬أديب‭ ‬صارت‭ ‬فى‭ ‬مجتمعهم‭ ‬سُبّة‭ ‬حتى‭ ‬إنهم‭ ‬إذا‭ ‬شعروا‭ ‬بينهم‭ ‬‮«‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الجالسين‭ ‬أديبًا‭ ‬سخروا‭ ‬منه،‭ ‬وصاحوا‭: ‬اتركوه‭ ‬إنه‭ ‬أديب‭... ‬سامحوه‭. .. ‬هذا‭ ‬فيلسوف‮»‬،‭ ‬ولذا‭ ‬نراه‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬السخرية‭ ‬والتهكم‭ ‬يتوجه‭ ‬إلى‭ ‬أندريه‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬إنى‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الأسرة‭ ‬القضائية،‭ ‬المشهود‭ ‬لهم‭ ‬بحُسْن‭ ‬السمعة،‭ ‬فإياك‭ ‬أن‭ ‬تلصق‭ ‬بى‭ ‬كلمة‭ ‬أدب‭ ‬أو‭ ‬كلمة‭ ‬فن،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كلمة‭ ‬فلسفة‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭)‬،‭ ‬وفى‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬انصرف‭ ‬عن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالأدب‭ ‬إلى‭ ‬الانشغال‭ ‬بالقضايا‭ ‬والأحكام‭ ‬والتشريح،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مشاهداته‭ ‬للتشريح‭ ‬قد‭ ‬أضفتْ‭ ‬عليه‭ ‬طابعًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬فى‭ ‬نظرته‭ ‬للأشياء،‭ ‬ومنها‭ ‬استوحى‭ ‬فكرة‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬المادة‭ ‬والروح‭ ‬والتى‭ ‬يُناقشها‭ ‬باستفاضة،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬التعادليّة‭.‬

الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬الرسائل،‭ ‬يحتوى‭ ‬على‭ ‬رسالة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬دسوق،‭ ‬واستفاض‭ ‬فيها‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬المهام‭ ‬الجسام‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬عاتقه،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬المسؤول‭ ‬الأوحد‭ ‬فى‭ ‬المدينة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬تطرّق‭ ‬فيها‭ ‬لملامح‭ ‬الحياة‭ ‬السّرية‭ ‬التى‭ ‬يعيشها‭ ‬رجال‭ ‬القضاء،‭ ‬وقد‭ ‬أبدى‭ ‬تخوفه‭ ‬من‭ ‬المستقبل‭ ‬لانقطاعه‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭.‬

 

ميادين‭ ‬الفكر

إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬يُمرّره‭ ‬الحكيم‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬ذاتيّة‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬فى‭ ‬باريس‭ ‬وبعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬وطنطا‭ ‬ودسوق،‭ ‬والمقارنة‭ ‬التى‭ ‬تنسحب‭ ‬لصالح‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬قضاها‭ ‬فى‭ ‬باريس،‭ ‬حيث‭ ‬تشبّعت‭ ‬روحه‭ ‬بالفن‭ ‬بكافة‭ ‬صنوفه،‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬عذوفه‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬والأدب،‭ ‬لإحباطات‭ ‬العمل‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يُساعده‭ ‬جوه‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬والإطلاع‭ ‬والتفكير،‭ ‬أو‭ ‬لنظرة‭ ‬السخرية‭ ‬التى‭ ‬يُعامل‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمتهن‭ ‬الأدب؛‭ ‬فإن‭ ‬الرسائل‭ ‬أشبه‭ ‬بميادين‭ ‬تتصارع‭ ‬فيها‭ ‬الأفكار‭ ‬والرؤى‭ ‬يتعرض‭ ‬لقضايا‭ ‬فكريّة‭ ‬وأدبيّة‭ ‬مهمّة،‭ ‬نوجزها‭ ‬فى‭ ‬التالى‭:‬

قضايا‭ ‬الفن‭.‬

فلسفة‭ ‬الأسلوب‭.‬

اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬ووسائل‭ ‬تطورها‭.‬

الأدب‭ ‬العربى‭ ‬ومقارنتة‭ ‬بالآداب‭ ‬الغربيّة‭.‬

نشأة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي‭.‬

 

أولاً‭: ‬قضايا‭ ‬الفن

الرّسائل‭ ‬فيها‭ ‬تركيز‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحكيم‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬بكافة‭ ‬أشكاله‭ (‬الموسيقى،‭ ‬التصوير،‭ ‬والمسرح‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬نرى‭ ‬عينيه‭ ‬تبدو‭ ‬كعينى‭ ‬خبير‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬اللوحات‭ ‬فى‭ ‬اللوفر،‭ ‬مُدققًا‭ ‬فى‭ ‬ألوانها،‭ ‬وسرّ‭ ‬اختيار‭ ‬هذه‭ ‬الألوان‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬فيرى‭ ‬أن‭ ‬كلَّ‭ ‬لوحة‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬قصة‭ ‬تمثيليّة‭ ‬داخل‭ ‬إطار،‭ ‬لا‭ ‬داخل‭ ‬مسرح،‭ ‬تقوم‭ ‬فيها‭ ‬الألوان‭ ‬مقام‭ ‬الحوار‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬لوجوده‭ ‬فى‭ ‬فرنسا‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ - ‬فترة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ - ‬وهى‭ ‬تشهد‭ ‬الموجة‭ ‬العاصفة‭ ‬من‭ ‬‮«‬المودرنزم‮»‬‭ ‬حسب‭ ‬تعبيره،‭ ‬أثره‭ ‬البالغ،‭ ‬فهو‭ ‬واقع‭ - ‬لا‭ ‬محالة‭ - ‬تحت‭ ‬تأثيرها‭ ‬دون‭ ‬رغبة‭ ‬منه،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬فهو‭ ‬يواجه‭ ‬ذاته‭ ‬‮«‬بالتريّث‭ ‬حتى‭ ‬تهدأ‭ ‬عاصفة‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الحديث‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬

‭ ‬ويناقش‭ ‬مشكلة‭ ‬الفن‭ ‬فى‭ ‬ضوء‭ ‬نظريات‭ ‬المودرنزم‭. ‬وهذه‭ ‬المتابعة‭ ‬لتطورات‭ ‬الحركات‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة،‭ ‬تضع‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬بؤرة‭ ‬حدث‭ ‬مهم‭ ‬لانشغاله‭ ‬هو‭ ‬شخصيًّا‭ ‬بالفن‭ ‬الذى‭ ‬آثره‭ ‬على‭ ‬الدراسة،‭ ‬فسّبب‭ ‬له‭ ‬أزمة‭ ‬مع‭ ‬أبيه،‭ ‬وكانت‭ ‬فرصة‭ ‬التخلُّص‭ ‬منه‭ ‬وإقصاءه‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬لصرفه‭ ‬عن‭ ‬تعلُّقِهِ‭ ‬بالفن،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يرتمى‭ ‬داخل‭ ‬أتون‭ ‬الفن‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬بما‭ ‬يُشاهده‭ ‬من‭ ‬مسارح‭ ‬ومتاحف،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬داخل‭ ‬معركة‭ ‬الفن،‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬القديم‭. ‬فطبيعته‭ ‬كفنان‭ ‬تجعله‭ ‬لا‭ ‬ينأى‭ ‬عن‭ ‬الثورة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬بيئته‭ (‬كشرقى‭ ‬جاء‭ ‬ليرى‭ ‬ثقافة‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬أصولها‭) ‬جعلته‭ ‬يشعر‭ ‬بأنه‭ ‬موزّع‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الكلاسيك‭ ‬والمودرن‮»‬،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فلا‭ ‬ينحاز‭ ‬لطرف‭ ‬دون‭ ‬الآخر،‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬وهؤلاء‭.‬

لا‭ ‬يستقبل‭ ‬المودرنزم‭ ‬بحفاوة‭ ‬وإنما‭ ‬بتحفُّظ،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬يُبدى‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬على‭ ‬مذهبهم،‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الفكرة‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬المذهب‭ ‬هى‭ ‬‮«‬الفطرة‭ ‬والبساطة‮»‬‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬يذهبون‭ ‬فى‭ ‬البساطة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬التركيز‭ ‬والمغالاة،‭ ‬لدرجة‭ ‬المناداة‭ ‬بفصل‭ ‬كل‭ ‬عنصر‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬فصلاً‭ ‬تامًا‭. ‬ويضرب‭ ‬مثالاً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬التصوير‭ ‬وهو‭ ‬فن‭ ‬الألوان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يستغنى‭ ‬عن‭ ‬الموضوع؛‭ ‬لأن‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬القصة‮»‬‭ ‬وهكذا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬فن‭ ‬أن‭ ‬يستغنى‭ ‬عن‭ ‬عنصر‭ ‬أساسى‭ ‬من‭ ‬عناصره؛‭ ‬فالشعر‭ ‬يستغنى‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬الواعى،‭ ‬والموسيقى‭ ‬تستغنى‭ ‬عن‭ ‬الشعور،‭ ‬والنحت‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يستغنى‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭. .. ‬إلخ‭.‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬التحفُّظ‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يخالفهم‭ ‬الرأى،‭ ‬فالفن‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬خلق‭ ‬إنسانى‭ ‬جميل‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭ ‬ولا‭ ‬أقل‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬اعترافه‭ ‬بأن‭ ‬المودرنزم‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬جماله،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬لا‭ ‬يجعله‭ ‬يسقط‭ ‬من‭ ‬حسابه‭ ‬الكلاسيكى،‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬‮«‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬وهؤلاء‮»‬‭.‬

عمق‭ ‬إحساسه‭ ‬بالفن،‭ ‬وهو‭ ‬عاشق‭ ‬للموسيقى‭ ‬الحديثة‭ ‬والرقص‭ ‬الحديث،‭ ‬جعله‭ ‬وهو‭ ‬يستمع‭ ‬لمختلف‭ ‬أنواع‭ ‬الموسيقى‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الفروق‭ ‬جيدًا،‭ ‬والتأثيرات‭ ‬التى‭ ‬يقع‭ ‬فيها‭ ‬مؤلفو‭ ‬السيمفونيات،‭ ‬فمثلاً‭ ‬وهو‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬موسيقى‭ ‬فاجنر،‭ ‬يستلمح‭ ‬أثر‭ ‬نيتشه‭ ‬عليه،‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬استخدام‭ ‬فاجنر‭ ‬لنغمة‭ ‬واحدة‭ ‬يُطلقها‭ ‬رمزًا‭ ‬لكل‭ ‬بطل‭ ‬من‭ ‬أبطال‭ ‬رواياته،‭ ‬هذا‭ ‬يذكّر‭ ‬بـ»العود‭ ‬الأبديّ‮»‬‭ ‬عند‭ ‬نيتشه‭ ‬حيث‭: ‬‮«‬هناك‭ ‬حالة‭ ‬مُتكرِّرة‭ ‬تعوده‭ ‬من‭ ‬آنٍ‭ ‬إلى‭ ‬آنٍ‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬إنسانٍ‮»‬،‭ ‬وعندما‭ ‬يستمع‭ ‬لمقطوعة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الفنان‭ ‬التركى‭ ‬جمال‭ ‬راشد،‭ ‬يأخذ‭ ‬عليه‭ ‬إسرافه‭ ‬فى‭ ‬تقليد‭ ‬الموسيقى‭ ‬الروسيّة‭.‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬مقياسه‭ ‬للفن،‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬جعله‭ ‬يُخضع‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬وفقًا‭ ‬لتصوره‭ ‬للفن،‭ ‬الذى‭ - ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ - ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬العرض‭ ‬اللغويّ،‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الأديب‭ ‬المنشئ‭ ‬فى‭ ‬الفن‭ ‬‮«‬محيطًا‭ ‬بكل‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬موسيقى‭ ‬وباليه‭ ‬ونحت‭ ‬إلخ‭...‬‮»‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يرجع‭ ‬تفسيره‭ ‬إلى‭ ‬نشأته‭ ‬فى‭ ‬بيئة‭ ‬دنيا‭ ‬العوالم‭ ‬والممثلين‭ ‬والمطربين‭ ‬والملحنين‭. ‬فهو‭ ‬ذو‭ ‬شخصية‭ ‬خُلقت‭ ‬‮«‬لتقرأ‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬وقتما‭ ‬تريد،‭ ‬لتحيط‭ ‬علمًا‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬تأمّل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وتستبقى‭ ‬فى‭ ‬الذاكرة‭ ‬ما‭ ‬تشاء‭ ‬وتنسى‭ ‬ما‭ ‬تشاء‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬

ثانيًّا‭: ‬فلسفة‭ ‬الأسلوب

قرن‭ ‬البلاغيون‭ (‬قديمًا‭ ‬وحديثًا‭) ‬بين‭ ‬الأسلوب‭ ‬والوضوح،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬آليات‭ ‬تحقّق‭ ‬هذا‭ ‬الوضوح‭ ‬فى‭ ‬الصياغة،‭ ‬وعلاقته‭ ‬بطرق‭ ‬أداء‭ ‬المعنى‭ (‬ابن‭ ‬قتيبة‭)‬،‭ ‬وهناك‭ - ‬كابن‭ ‬الأثير‭ - ‬من‭ ‬ربط‭ ‬بين‭ ‬الأسلوب‭ ‬وشخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬ومقدرته‭ ‬الفنيّة‭ ‬فى‭ ‬عرض‭ ‬الفكرة‭ ‬فى‭ ‬أسلوب‭ ‬متميّز‭ ‬وطريقة‭ ‬متفرِّدة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬جاء‭ ‬تعريف‭ ‬البلاغة‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬مطابقة‭ ‬الكلام‭ ‬لمقتضى‭ ‬الحال‮»‬‭. ‬والحكيم‭ ‬جدَّ‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب‭ ‬الخاص‭ ‬به،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬للإخفاقات‭ ‬التى‭ ‬لازمت‭ ‬تجاربه‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬بالفرنسيّة،‭ ‬والمآخذ‭ ‬التى‭ ‬أُخذت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬صديقه‭ ‬مسيو‭ ‬هاب،‭ ‬وآخر‭ ‬لا‭ ‬تربطه‭ ‬به‭ ‬أيَّة‭ ‬علاقة،‭ ‬وقد‭ ‬حصراها‭ ‬فى‭ ‬‮«‬تكلُّف‭ ‬الأسلوب‮»‬‭ ‬فعلى‭ ‬حدّ‭ ‬تعبيرهما‭ ‬أن‭ ‬‮«‬عباراته‭ ‬لا‭ ‬يفوح‭ ‬منها‭ ‬أى‭ ‬عطر‭ ‬آخاذ‭. .. ‬إنما‭ ‬هى‭ ‬عبارات‭ ‬محفوظة‭ ‬فى‭ ‬كتب‭ ‬البلاغة‭. ..‬‮»‬؛‭ ‬الأثر‭ ‬الكبير‭ ‬فى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب،‭ ‬أو‭ ‬صوته‭ ‬الخاصة،‭ ‬ويعترف‭ ‬أن‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالأسلوب‭ ‬أوقعه‭ ‬فى‭ ‬التقليد‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬التى‭ ‬تُمثّل‭ ‬إخفاقًا‭ ‬فى‭ ‬مسيرته‭ ‬الكتابيّة،‭ ‬يستفيض‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬معالجة‭ ‬الأسلوب،‭ ‬وطبيعته،‭ ‬فيتساءل‭ ‬موجهًّا‭ ‬أسئلته‭ ‬لأندريه‭ ‬‮«‬‭... ‬الأسلوب‭. .. ‬الأسلوب‭. ‬لطالما‭ ‬شغلتُكَ‭ ‬معى‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفنى‭ ‬الذى‭ ‬أبحث‭ ‬عنه‭. ‬أين‭ ‬أجده‭ ‬أخيرًا؟‭. .. ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فى‭ ‬وهمى‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬منى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭. ‬لم‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الحوار‭ ‬الذى‭ ‬أنفقت‭ ‬فى‭ ‬ممارسته‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلاً؟‭ (...) ‬لم‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الحوار‮»‬‭ ‬هو‭ ‬أسلوبى‭ ‬الذى‭ ‬أتحرق‭ ‬بحثًا‭ ‬عنه؟‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭) ‬ومرّة‭ ‬ثانيّة‭ ‬يتساءل‭ ‬فى‭ ‬حيرة‭: ‬‮«‬أيُّهما‭ ‬أجدى‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ [‬أى‭ ‬الكاتب‭] ‬هل‭ ‬الالتزام‭ ‬بالأسلوب‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬الآلة‭ ‬الصناعيّة‭ ‬التى‭ ‬نتوسّل‭ ‬بها‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬أو‭ ‬التحرّر‭ ‬منه‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة؟‮»‬‭. ‬بل‭ ‬يأخذ‭ ‬على‭ ‬المسرفين‭ ‬فى‭ ‬استخدامه‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الأسلوب‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحملون‭ ‬فى‭ ‬جعبتهم‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬الناس‮»‬‭. ‬فى‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬سيكون‭ ‬لها‭ ‬شأن‭ ‬مهمٌّ‭ ‬لو‭ ‬‮«‬تفجّرت‭ ‬وحدها‭ ‬من‭ ‬القلب‭ ‬الصّادق‭ ‬فى‭ ‬كلمات‭ ‬بسيطة‮»‬‭. ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬الأسلوب‭ - ‬عنده‭ - ‬هو‭ ‬الحيلة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المظهر‭ ‬الخادع‭ ‬الذى‭ ‬يخفى‭ ‬به‭ ‬كتاب‭ ‬اليوم‭ ‬جهلهم‭ ‬المطبق‭ ‬بروح‭ ‬الشعوب‭ ‬التى‭ ‬يزعمون‭ ‬النفوذ‭ ‬إلى‭ ‬صميمها‭ ‬فى‭ ‬مدى‭ ‬رحلة‭ ‬شهرين‭ ‬بالقطار‭ ‬والباخرة‮»‬‭. ‬

وبسبب‭ ‬الأسلوب‭ ‬نراه‭ ‬ينتقد‭ ‬أسلوب‭ ‬الحريرى‭ ‬فى‭ ‬المقامات،‭ ‬وعبدالحميد‭ ‬الكاتب،‭ ‬وكذلك‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬فى‭ ‬ترجمته‭ ‬لكليلة‭ ‬ودمنة،‭ ‬فيأخذ‭ ‬على‭ ‬الأخير‭ ‬تصنُّعه‭ ‬فى‭ ‬الأسلوب‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬كاتب‭ ‬تصنَّع‭ ‬فى‭ ‬أسلوبه‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬ولكن‭ ‬بخفة‭ ‬ومهارة،‭ ‬وطلاه‭ ‬وجمّله‭ ‬ولكن‭ ‬بذوق‭ ‬وكياسة،فلم‭ ‬تَبْدُ‭ ‬عليه‭ ‬سَماجة‭ ‬التكلُّف،‭ ‬ولا‭ ‬ثقل‭ ‬الصناعة،‭ ‬إنه‭ ‬ذلك‭ ‬الحاوى‭ ‬البارع‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬

فى‭ ‬المقابل‭ ‬أنزل‭ ‬الجاحظ‭ ‬منزلة‭ ‬عظيمة،‭ ‬فهو‭ ‬عنده‭ ‬الكاتب‭ ‬الماهر‭ ‬الذى‭ ‬نزل‭ ‬إلى‭ ‬العامة،‭ ‬والتقطَ‭ ‬المعانى،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬أبدى‭ ‬أسفه‭ ‬وحزنه‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬نصوصه‭ ‬فى‭ ‬المدارس؛‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬كاتب‭ ‬مُتعدِّد‭ ‬النواحى،‭ ‬له‭ ‬باع‭ ‬طويل‭ ‬فى‭ ‬الجد‭ ‬والهزل‭... ‬بسيط‭ ‬الأسلوب‭ ‬نافع‭ ‬لنا‭ ‬فى‭ ‬الحياة‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬

وبعد‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬فى‭ ‬تتبُّع‭ ‬الأسلوب‭ ‬وانتقاد‭ ‬ما‭ ‬يَشِذُّون‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب‭ ‬البسيط‭ ‬وينهجون‭ ‬التكلّف‭ ‬والصنعة،‭ ‬فيتباهون‭ ‬بالثروة‭ ‬اللفظيّة‭ ‬والمهارة‭ ‬اللغوية،‭ ‬يصل‭ ‬الحكيم‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يخلق‭ ‬الأسلوب‭ ‬الحق‭ ‬‮«‬إلا‭ ‬الكاتب‭ ‬الصادق‭ ‬فى‭ ‬شعوره‭ ‬وتفكيره‭ (‬ومن‭ ‬ثم‭) ‬فالبلاغة‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬هى‭ ‬الفكرة‭ ‬النبيلة‭ ‬فى‭ ‬الثوب‭ ‬البسيط،‭ ‬هى‭ ‬التواضع‭ ‬فى‭ ‬الزى‭ ‬والتسامى‭ ‬فى‭ ‬الفكر‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭ ). ‬

وفى‭ ‬غمرة‭ ‬معالجته‭ ‬لقضايا‭ ‬أدبيّة‭ ‬وفكريّة،‭ ‬يتساءل‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬لأندريه‭ (‬وهى‭ ‬رسالته‭ ‬من‭ ‬طنطا‭ ‬بعد‭ ‬استلامه‭ ‬لعمله‭ ‬كوكيل‭ ‬للنيابة‭) ‬عن‭ ‬رسالة‭ ‬الأدب،‭ ‬فالواقع‭ ‬الذى‭ ‬رأه‭ ‬عندما‭ ‬عاين‭ ‬بنفسه‭ ‬التشريح،‭ ‬جعله‭ ‬يُعيد‭ ‬تأمُّل‭ ‬المفاهيم‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬النظريات‭ ‬المجردة،‭ ‬وإنما‭ ‬فى‭ ‬ضوء‭ ‬واقعها،‭ ‬فيقول‭ ‬فى‭ ‬نبرة‭ ‬عِتاب‭ ‬إن‭ ‬النّاس‭ ‬درجوا‭ ‬على‭ ‬نصرة‭ ‬الروح‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المادة‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المفكرين‭ ‬اعتادوا‭ ‬تحقير‭ ‬المادة‭ ‬للرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الروح،‭ ‬لكن‭ ‬الحكيم‭ ‬بعد‭ ‬استقراء‭ ‬للملموس‭ ‬والمحسوس‭ ‬يُقِرُّ‭ ‬بأنّ‭ ‬الاثنين‭ ‬الروح‭ ‬والمادة‭ ‬على‭ ‬حدٍّ‭ ‬سواء‭ ‬لهما‭ ‬أهميتهما؛‭ ‬حيث‭ ‬للمادة‭ ‬صوفيتها‭ ‬أيضًا،‭ ‬فالحواس‭ ‬تستخلص‭ ‬من‭ ‬المادة‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭. ‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬تحديدًا‭ ‬يشيد‭ ‬بمنجز‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬الذى‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يطرح‭ ‬من‭ ‬حسابه‭ ‬الإشادة‭ ‬بالسعادة‭ ‬التى‭ ‬تبعثها‭ ‬الحواس‭ ‬الماديّة،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إشادته‭ ‬بالمتعة‭ ‬الذهنيّة‭ ‬التى‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬قوانا‭ ‬المفكرة‮»‬‭ ‬فحسب‭ ‬تأكيده‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أغلب‭ ‬كُتب‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬تجد‭ ‬فصولاً‭ ‬طوالاً‭ ‬عن‭ ‬مباهج‭ ‬الأكل‭ ‬والشرب‭ ‬والطعام‭ ‬والخمر‭ ‬والمسك‭ ‬والريحان،‭ ‬ومتع‭ ‬الملبس‭ ‬وحتى‭ ‬متع‭ ‬الجسد‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬الباه‮»‬،‭ ‬فهم‭ ‬يسجلون‭ ‬هذا‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬لذائذ‭ ‬العقل‭ ‬وطرائف‭ ‬البيان‮»‬‭. (‬زهرة‭ ‬العمر‭).‬

لذا‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬رسالة‭ ‬الأدب‭ ‬ليست‭ ‬نصرة‭ ‬الروح‭ ‬على‭ ‬المادة‭ ‬أو‭ ‬نصرة‭ ‬المادة‭ ‬على‭ ‬الروح،‭ ‬إنما‭ ‬رسالته‭ ‬فى‭ ‬إقرار‭ ‬التوازن‭ ‬بينهما‭ ‬بإنماء‭ ‬هذه‭ (‬الحيوية‭) ‬فى‭ ‬كل‭ ‬منها‭. ‬فالمعرفة‭ ‬البشرية‭ ‬لا‭ ‬تدخل‭ ‬علينا‭ - ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قوله‭ - ‬من‭ ‬‮«‬باب‭ ‬العقل‭ ‬وحده،‭ ‬وإنما‭ ‬تتسرب‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مسام‭ ‬جلدنا‭ ‬وجسدنا‭ ‬وذهننا‭ ‬وروحنا‭ ‬ووعينا‭ ‬الظاهر‭ ‬والباطن‮»‬‭.‬

الغريب‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬التعادليّة‭ ‬التى‭ ‬تُستشف‭ ‬من‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أهمية‭ ‬الروح‭ ‬والمادة‮»‬،عاد‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ - ‬باستفاضة‭ - ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬التعادليّة‮»‬‭ (‬1955‭)‬،‭ ‬وهذه‭ ‬المرة‭ ‬جعلها‭ ‬بين‭ ‬قوة‭ ‬العقل‭ ‬ونشاط‭ ‬القلب،‭ ‬أى‭ ‬بين‭ ‬نشاط‭ ‬التفكير‭ ‬ونشاط‭ ‬الإيمان‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬قد‭ ‬اختل‭ ‬‮«‬بسبب‭ ‬انتصار‭ ‬العلم‭ ‬العقلى،‭ ‬واستمرار‭ ‬جمود‭ ‬الجانب‭ ‬الديني‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الاختلال‭ ‬فى‭ ‬ميزان‭ ‬التعادل،‭ ‬ترتّب‭ ‬عليه‭ ‬القلق‭ ‬السّائد‭ ‬فى‭ ‬النفوس‭. ‬التعادلية‭ ‬التى‭ ‬يقصدها‭ ‬الحكيم‭ ‬تسرى‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬جوانب‭ ‬العلاقات‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬فالخير‭ ‬والشر‭ ‬كلاهما‭ ‬ضرورى،‭ ‬ليعادل‭ ‬أحدهما‭ ‬الآخر‭. ‬فالتعادل‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬هو‭ ‬قانون‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وقانون‭ ‬الإنسان‭ ‬معًا‭.‬

وعنده‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬شيء‭ ‬والكلام‭ ‬عنها‭ ‬شىء‭ ‬آخر‭. ‬فمن‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬أن‭ ‬المطلوب‭ ‬للثقافة‭ ‬ليس‭ ‬المعرفة‭ ‬وإنما‭ ‬الإحساس،‭ ‬والتذوق‭ ‬والتغذى‭ ‬بمختلف‭ ‬الفنون‭.‬

ثالثًا‭: ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ووسائل‭ ‬تطورها

فى‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬رسائله‭ (‬رسائل‭ ‬الإسكندريّة‭) ‬نرى‭ ‬الحكيم‭ ‬يشرع‭ ‬فى‭ ‬مقارنات‭ ‬بين‭ ‬الآداب‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والأدب‭ ‬العربى‭ ‬واللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتبرمه‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬الدراسة‭ ‬والمدرسين،‭ ‬لجهلهم‭ ‬معنى‭ ‬اللغة،‭ ‬كما‭ ‬انتقد‭ ‬أسلوب‭ ‬التدريس‭ ‬المعتمد‭ ‬على‭ ‬القديم،‭ ‬وغير‭ ‬الصالح‭ ‬للحديث،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمدارس‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬وأسلوبها‭ ‬الذى‭ ‬اشتمل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬نواحى‭ ‬التعبير‭. ‬

وفى‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬يلتقى‭ ‬مع‭ ‬سلامة‭ ‬موسى‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬البلاغة‭ ‬العصريّة‭ ‬واللغة‭ ‬العربيّة‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬على‭ ‬مُدرِّس‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬فى‭ ‬مدارسنا‭ ‬الابتدائية‭ ‬والثانوية‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موسوعى‭ ‬المعارف،‭ ‬يستطيع‭ ‬الشرح‭ ‬للموضوعات‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬والبيولوجيّة‭ ‬والسيكولوجيّة‭ ‬والتاريخيّة‭ ‬والفلكيّة،‭ ‬وعليه‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لغة‭ ‬أجنبيّة‭ ‬أو‭ ‬لغتيْن،‭ ‬كى‭ ‬يقارن‭ ‬بين‭ ‬العربيّة‭ ‬وبينها‭. ‬ويجدّد‭ ‬فى‭ ‬لغتنا‭ ‬بمقدار‭ ‬انتفاعه‭ ‬من‭ ‬الجديد‭ ‬فيهما،‭ ‬وأنه‭ ‬لزهو‭ ‬مضحك‭ ‬أن‭ ‬يعتقد‭ ‬أحدنا‭ ‬أن‭ ‬لغتنا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬مستكفيّة،‭ ‬لا‭ ‬تستمدّ‭ ‬التعبير‭ ‬الحَسَن‭ ‬من‭ ‬الإنجليزيّة‭ ‬أو‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وأن‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تجتر‭ ‬نفسها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتزوّد‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬العصريّة،‭ ‬وهذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الأسباب‭ ‬للفاقة‭ ‬الثقافية‭ ‬التى‭ ‬نعانيها‭ ‬فى‭ ‬وقتنا‮»‬‭ (‬سلامة‭ ‬موسى‭)‬

يأتى‭ ‬تطرُّق‭ ‬الحكيم‭ ‬لدراسة‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬لإيمانه‭ ‬الشديد‭ ‬بأهمية‭ ‬هذه‭ ‬اللغة،‭ ‬وبما‭ ‬امتلكه‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬باطلاعه‭ ‬على‭ ‬آداب‭ ‬الغرب،‭ ‬تمكُّنه‭ ‬من‭ ‬التدقيق‭ ‬والتأمُّل،‭ ‬والحكم‭. ‬ساعيًّا‭ ‬لاكتشاف‭ ‬أسرارها‭ ‬والوقوف‭ ‬على‭ ‬مواطن‭ ‬الضعف‭ ‬والقوّة‭.‬

يرجع‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬عِلّة‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬اللغة‭ - ‬عند‭ ‬البعض‭ - ‬واعتبارها‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬فى‭ ‬شتى‭ ‬ضروب‭ ‬العلوم‭ ‬والفلسفة‭ ‬والتفكير‭ ‬العالى،‭ ‬أى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬لغة‭ ‬تفكير،‭ ‬وإنما‭ ‬لغة‭ ‬بهرج‭ ‬وتنميق،‭ ‬يعود‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم،‭ ‬فكما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬كتبًا‭ ‬غثّة‭ ‬متكلِّفة‭ ‬المبنى‮»‬‭ ‬ففى‭ ‬المدرسة‭ ‬يُعلِّمُونا‭ ‬لغة‭ ‬بعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬مناحى‭ ‬الحياة،‭ ‬فحسب‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬استعملناها‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬ضحك‭ ‬منا‭ ‬الناس‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭) ‬

وهى‭ ‬القضية‭ ‬ذاتها‭ ‬التى‭ ‬عالجها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬فى‭ ‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فى‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلى‮»‬‭ (‬1926‭) ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صار‭ ‬‮«‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلى‮»‬‭ (‬1927‭) ‬حيث‭ ‬تطرّق‭ - ‬فى‭ ‬المبحث‭ ‬الأول‭ ‬المعنون‭ ‬بـ»درس‭ ‬الأدب‭ ‬فى‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬ضمن‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ (‬الأدب‭ ‬وتاريخه‭)‬‮»‬‭ - ‬إلى‭ ‬مناهج‭ ‬تدريس‭ ‬الأدب‭ ‬فى‭ ‬المدارس‭ ‬والأزهر‭ ‬ودار‭ ‬العلوم‭ ‬والجامعات،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬مناهج‭ ‬لا‭ ‬تُهذِّب‭ ‬النفوس‭ ‬ولا‭ ‬تُسهم‭ ‬فى‭ ‬خلق‭ ‬الابتكار،‭ ‬لأنها‭ ‬نصوص‭ ‬جافة،‭ ‬كما‭ ‬أرجع‭ ‬السبب‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬مدرسى‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة،‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬عند‭ ‬الحكيم‭ ‬لا‭ ‬يجهلون‭ ‬معنى‭ ‬اللغة‭ ‬وحدها‭ ‬‮«‬بل‭ ‬معنى‭ ‬اللغة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭).‬

وها‭ ‬هو‭ ‬الحكيم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬النقطة‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬زاوية‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ - ‬كما‭ ‬توهّم‭ ‬البعض‭ - ‬لغة‭ ‬تفكير؟‭ ‬فاللغة‭ ‬عنده‭ ‬أسمى‭ ‬وأكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬وسيلة‭ ‬لهو‭  ‬وأداة‭ ‬براعة‭ ‬كفنون‭ ‬المغنيين‭ ‬وألعاب‭ ‬الحواة‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬هى‭ ‬وسيلة‭ ‬يسيرة‭ ‬لنقل‭ ‬الأفكار‭ ‬النبيلة،‭ ‬فالتكلُّف‭ ‬أبرز‭ ‬عيون‭ ‬الفن‭. ‬فكما‭ ‬ذكر‭ ‬لاحقًا‭ ‬فى‭ ‬‮«‬التعادلية‮»‬‭ ‬أن‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬التعبير‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقترن‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬بقوة‭ ‬التفسير‭.‬‮»‬

والدليل‭ ‬عنده‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬ضاعت‭ ‬بسبب‭ ‬التكلُّف‭ ‬فى‭ ‬البلاغة‭ ‬والأسلوب،‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬نماذجَ‭ ‬كثيرةً‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬جلال‭ ‬اللغة‭ ‬فى‭ ‬بساطتها‭ ‬وسيرها‭ ‬قُدما‭ ‬نحو‭ ‬الغرض،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمؤرخون‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬يؤكد‭ ‬جمال‭ ‬اللغة‭ ‬وبساطة‭ ‬الأسلوب‭ ‬وبعده‭ ‬عن‭ ‬العبث‭ ‬اللفظى‭ ‬والطلاء‭ ‬السطحي‭. ‬فهم‭ ‬‮«‬يحدثوننا‭ ‬فى‭ ‬شؤون‭ ‬فكرية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وأخلاقيّة‭ ‬ودينيّة‭ ‬فى‭ ‬لغة‭ ‬سهلة‭ ‬مستقيمة‭ ‬لا‭ ‬لعب‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬لهو‭ ‬ولا‭ ‬ادعاء‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يستنكر‭ ‬فى‭ ‬عجب‭ ‬كيف‭ ‬لأمثال‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬والطبرى‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬والغزالى،‭ ‬لم‭ ‬تعرض‭ ‬نماذج‭ ‬كتاباتهم‭ ‬فى‭ ‬سنى‭ ‬دراسته‭ ‬للأدب‭ ‬العربى‭ ‬فى‭ ‬المدارس‭. ‬

والجواب‭ ‬ماثل‭ ‬فى‭ ‬سؤال‭: ‬‮«‬كيف‭ ‬نعرف‭ ‬لغة‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬نطالع‭ ‬فلاسفتها‭ ‬ومؤرخيها؟‭ ‬فيتوجه‭ ‬إلى‭ ‬أندريه‭ ‬ويقول‭ ‬له‭ ‬‮«‬أنتم‭ ‬يا‭ ‬معشر‭ ‬الفرنسيين‭ ‬فعلتم‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬تدريس‭ ‬الأدب‭ ‬الفرنسى‭. .. ‬فما‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬مدرسى‭ ‬صغر‭ ‬أو‭ ‬كبر‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬فيه‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬مونتانى‭ ‬الفلسفى‭ ‬وأسلوب‭ ‬روسو‭ ‬الاجتماعى،‭ ‬وبوسويه‭ ‬الدينى،‭ ‬وفولتير‭ ‬التاريخى‭. .. ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬أسلوب‭ ‬موليير‭ ‬الفكاهى‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التهريج‮»‬،‭ ‬والسبب‭ ‬عنده‭ ‬أن‭ ‬المدارس‭ ‬الفرنسية‭ ‬‮«‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يشمل‭ ‬كل‭ ‬نواحى‭ ‬التعبير‭ ‬بها‭... ‬أما‭ ‬قصر‭ ‬تعليمها‭ ‬على‭ ‬نماذج‭ ‬البلاغة‭ ‬اللفظيّة‭ ‬الجوفاء،‭ ‬فهو‭ ‬امتهان‭ ‬لكرامة‭ ‬اللغة‭ ‬وانتقاص‭ ‬من‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الأداء‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭).‬

حالة‭ ‬الامتهان‭ ‬وتجريد‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬النصوص‭ ‬التى‭ ‬تظهر‭ ‬بلاغتها‭ ‬وجمالها‭ ‬دون‭ ‬تكلُّف‭ ‬أو‭ ‬إسراف،‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬فى‭ ‬مناهج‭ ‬الدراسة‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬نصوص‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والأدباء‭ ‬والمفكرين،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضًا‭ ‬شملت‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الحكيم‭ - ‬الشعر‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬مفخرة‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة،‭ ‬فقد‭ ‬انتخبوا‭ ‬من‭ ‬نصوصه‭ ‬‮«‬قصائد‭ ‬المواعظ‭ ‬والحكم‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المختارات‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬البحترى‭ ‬وابن‭ ‬الرومى‭ ‬‮«‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬آثارهما»؛‭ ‬فالشعر‭ ‬الحق‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬هو‭ ‬شىء‭ ‬أبعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬إصابة‭ ‬الأهداف‭ ‬الظاهرة،‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬الأغراض‭ ‬المباشرة‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬‮«‬قد‭ ‬يتوسّل‭ ‬بهذه‭ ‬الأشياء‭ ‬لبلوغ‭ ‬مأرب‭ ‬أسمى‭: ‬هو‭ ‬الارتفاع‭ ‬بالناس‭ ‬إلى‭ ‬سُحب‭ ‬لا‭ ‬تبلغ،‭ ‬والرحيل‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬لا‭ ‬تنظر‭ [‬بالاختصار‭] ‬ذلك‭ ‬السحر‭ ‬الذى‭ ‬يوسّع‭ ‬ذاتية‭ ‬الناس‭ ‬فيرون‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬ترى‭ ‬عيونهم‭ ‬ويسمعون‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تسمع‭ ‬آذانهم،‭ ‬ويعون‭ ‬أعمق‭ ‬مما‭ ‬تعى‭ ‬عقولهم،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشعر،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬الشعر‭ ‬فى‭ ‬إطلاقها‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الفنون‭.‬‮»‬

رابعًا‭: ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬والآداب‭ ‬العالمية

ومن‭ ‬اللغة‭ ‬العربيّة‭ ‬وقصور‭ ‬مناهجها‭ ‬يتطرق‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬أخرى‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالأدب‭ ‬العربى‭ ‬كله‭. ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬ناقص‭ ‬التكوين،‭ ‬والسبب‭ ‬عنده‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الآداب‭ ‬القديمة‭ ‬كلها‭ ‬عاصرتها‭ ‬فنون‭ ‬كبرى؛‭ ‬فالمعابد‭ ‬العظيمة‭ ‬والتماثيل‭ ‬الرائعة‭ ‬خليقة‭ ‬بأن‭ ‬يُعاصرها‭ ‬أدب‭ ‬يُضارعها‭ ‬فى‭ ‬قوّة‭ ‬البناء‭ ‬ودقة‭ ‬التركيب‭ ‬وروعة‭ ‬الفن‭ (‬الملاحم‭ ‬والتمثيل‭ ‬والقصص‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬فكان‭ ‬عكس‭ ‬هذا‭ ‬تمامًا،‭ ‬فلقد‭ ‬نشأت‭ ‬لغة‭ ‬نضرة‭ ‬زاهرة‭ ‬فى‭ ‬بيئة‭ ‬قحلاء‭ ‬وسط‭ ‬الصحراء،‭ ‬فأقصى‭ ‬ما‭ ‬عاصر‭ ‬لغة‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬أو‭ ‬لبيد‭ ‬أو‭ ‬زهير‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الفنون‭ ‬الأخرى‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬المسوخ‭ ‬والتهاويل‭ ‬لآلهة‭ ‬من‭ ‬الحجر‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬التماثيل‭ - ‬كما‭ ‬يرى‭ - ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يجرؤ‭ ‬وينسبها‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬فى‭ ‬قليل‭ ‬أو‭ ‬كثير‭. ‬

ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬ينتهى‭ ‬إلى‭ ‬إقرار‭ ‬بمسلّمة‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يُغلِّفها‭ ‬بتعجُّب،‭ ‬فيقرُّ‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬زَهْرٌ‭ ‬قد‭ ‬ينبت‭ ‬فى‭ ‬الخلاء،‭ ‬أما‭ ‬النثر‭ ‬فيحتاج‭ ‬فى‭ ‬نموه‭ ‬إلى‭ ‬العمران‮»‬‭. ‬أما‭ ‬التعجُّب‭ ‬فمصدره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العمران‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بظهور‭ ‬الإسلام،‭ ‬وقد‭ ‬تكوّنت‭ ‬حضارة‭ ‬إسلاميّة‭ ‬واسعة‭ ‬الأرجاء،‭ ‬فأقيمت‭ ‬المساجد‭ ‬الجميلة‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬الهياكل‭ ‬القديمة،‭ ‬وتقدمت‭ ‬الصنائع‭ ‬وازدهرت‭ ‬الفنون،‭ ‬وابتلعت‭ ‬المدينة‭ ‬الإسلامية‭ ‬فى‭ ‬جوفها‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المدنيات،‭ ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬فإن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬لم‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يزيد‭ ‬فى‭ ‬قوالب‭ ‬نثره،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يساير‭ ‬تلك‭ ‬الفنون‭ ‬المعاصرة‮»‬‭ ‬‭.‬

ويرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬مثار‭ ‬الدهشة‭ ‬أن‭ ‬الباحث‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب،‭ ‬يرى‭ ‬حضارةإسلامية‭ ‬عظيمة‭ ‬ذات‭ ‬فنون‭ ‬وعلوم‭ ‬راقية‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬فى‭ ‬أدبها‭ ‬أثرًا‭ ‬إنشائيًّا‭ ‬مثل‭ : ‬‮«‬الشاهنامة،‭ ‬أو‭ ‬الرامايانة،‭ ‬أو‭ ‬الإلياذة‭ ‬أو‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭. .. ‬إلخ‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬يوصم‭ ‬العقليّة‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬بالعقم،‭ ‬ولكن‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبىّ‭ ‬الإسلامىّ‭ ‬جاء‭ ‬وصحّح‭ ‬الوضع‭ ‬أمام‭ ‬التاريخ‭ ‬العلمى،‭ ‬وأثبت‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬سارت‭ ‬فى‭ ‬مجراها‭ ‬الطبيعى‭. ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬فى‭ ‬الحضارات‭ ‬الأخرى‭ ‬كالهنديّة‭ ‬أو‭ ‬الفارسيّة‭ ‬والإغراقيّة‭ ‬‮«‬كان‭ ‬الشعراء‭ ‬والآدباء‭ ‬هم‭ ‬الخالقين‭ ‬لتلك‭ ‬الآثار،‭ ‬أما‭ ‬فى‭ ‬حضارة‭ ‬الإسلام‭ ‬فقد‭ ‬تخلَّى‭ ‬الخاصّة‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬لعامة‭ ‬أدباء‭ ‬الشعب‭ ‬وشعرائه،‭ ‬ووقفوا‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تغيير‭ ‬أو‭ ‬ابتكار‭... (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬الشيء‭ ‬الآخر‭ ‬الذى‭ ‬يأخذه‭ ‬الحكيم‭ ‬على‭ ‬الخاصة‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬فى‭ ‬القرآن‭ ‬إلا‭ ‬نموذجًا‭ ‬لغويًّا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يروا‭ ‬فيه‭ ‬النموذج‭ ‬الفنى،‭ ‬وعلى‭ ‬الجملة‭ ‬فالأدب‭ ‬العربى‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬أن‭ ‬يتحرك‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭. .. ‬لا‭ ‬نحو‭ ‬القرآن‭ ‬ولا‭ ‬نحو‭ ‬الشعب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬استثناء‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الجاحظ‭. ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬الحكيم‭ ‬فى‭ ‬شمس‭ ‬الفكر‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬ويأخذ‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬ينحازون‭ ‬للأدب‭ ‬القديم‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬‮«‬كائن‭ ‬حي‭: ‬يتطوّر‭ ‬ويتغيّر،‭ ‬ويتلوّن‭ ‬ويتأثّر‭ ‬باختلاف‭ ‬الفصول‭ ‬والعصور‮»‬‭ ( ‬شمس‭ ‬الفكر‭: ).‬

فتبَاهِى‭ ‬أدباء‭ ‬العربيّة‭ ‬بالثَّرْوَة‭ ‬اللفظيّة‭ ‬والمهارة‭ ‬اللغويّة‭ ‬كاد‭ ‬يقتل‭ ‬النثر‭ ‬الفنى‭ ‬نفسه،‭ ‬ولم‭ ‬ينقذه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭ ‬غير‭ ‬طائفة‭ ‬الفلاسفة‭ ‬وفقهاء‭ ‬الدين‭ ‬والمؤرخين‭ ‬وما‭ ‬ناظرهم‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الجادين‭. ‬كما‭ ‬يشيد‭ ‬بمؤرخى‭ ‬الأدب‭ ‬ورواته،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬أعظم‭ ‬الفضل‭ ‬فى‭ ‬تيسير‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وإلباسها‭ ‬حلّة‭ ‬نَضرة‭ ‬دون‭ ‬التجاء‭ ‬إلى‭ ‬التصنُّع‭ ‬الممجوج‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬فى‭ ‬الأغانى‭ ‬والعقد‭ ‬الفريد‭ ‬ونهاية‭ ‬الأرب‭ ‬والأمالى‭ ‬والنواد‭ ‬والبيان‭ ‬والتبيين‭ ‬إلخ‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يُعرّج‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬حاسمة‭ ‬متصلة‭ ‬بنشأة‭ ‬الفن‭ ‬القصصى،‭ ‬ويرى‭ ‬الحكيم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الصنعة‭ ‬هى‭ ‬صنعة‭ ‬عربية،‭ ‬فليس‭ ‬الروس‭ ‬هم‭ ‬أساتذة‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬ولا‭ ‬الإنجليز‭ ‬ولا‭ ‬الفرنسيون‭ ‬بل‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬بما‭ ‬يمتلكون‭ ‬من‭ ‬قرآن‭ ‬عَرف‭ ‬القصص،‭ ‬وما‭ ‬خلقه‭ ‬الأدباء‭ ‬من‭ ‬أشباه‭ ‬عنترة‭ ‬وألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وما‭ ‬أبرزته‭ ‬المقامة‭ ‬التى‭ ‬تعدُّ‭ ‬أساسًا‭ ‬لفن‭ ‬الأقصوصة،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬كفيلاً‭ ‬لأن‭ ‬نكون‭ ‬نحن‭ ‬العرب‭ ‬أساتذة‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الروائى،‭ ‬لكن‭ ‬ضاع‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بسبب‭ ‬الجمود‭ ‬أو‭ ‬هؤلاء‭ ‬الجامدين‭ ‬الذين‭ ‬وقفوا‭ ‬حيث‭ ‬هم‭ ‬وتركوا‭ ‬لغيرهم‭ ‬تلك‭ ‬الكنوز‭ ‬يغترفون‭ ‬منها‭ ‬ويربون‭ ‬عليها‮»‬‭. (‬زهرة‭ ‬العمر‭: ‬ص‭ ‬232‭)‬،‭ ‬وهنا‭ ‬تظهر‭ ‬غَيرة‭ ‬الأديب‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬قومه‭ ‬الضائع،‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬الإنشائى‭ ‬قد‭ ‬عُنى‭ ‬باللفظ‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يجب‭.‬

خامسًا‭: ‬نشأة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبى

اللافت‭ ‬أن‭ ‬الحكيم‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬عبقرى‭ ‬لنشأة‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبى،‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الشعب‭ ‬كان‭ ‬يطمح‭ ‬فى‭ ‬لون‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬مستمد‭ ‬من‭ ‬إحساسه‭ ‬هو‭ ‬بالحياة‭ ‬الجديدة‭ ‬المتطوّرة‭ ‬المتغيّرة،‭ ‬أدب‭ ‬جديد‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬فن‭ ‬مشابه‭ ‬ومساير‭ ‬للفنون‭ ‬الزاهرة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬التى‭ ‬يراها‭ ‬بعينه‭ ‬ويهيم‭ ‬فى‭ ‬مراميها‭ ‬بخياله»ولمّا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬التمسه‭ ‬عند‭ ‬أدباء‭ ‬الفصحى،‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أدباء‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬أداة‭ ‬اللغة‭ ‬ولا‭ ‬جمال‭ ‬الشكل،‭ ‬ولكن‭ ‬يملكون‭ ‬السّليقة‭ ‬الفنيّة‭ ‬وروح‭ ‬الخلق‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يتسق‭ ‬مع‭ ‬تسمية‭ ‬الجاحظ‭ ‬له‭ ‬بأنه‭ ‬أدب‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬العوام؛‭ ‬لأن‭ ‬مصدره‭ ‬الفئات‭ ‬المغمورة‭ ‬اجتماعيًّا‭ ‬من‭ ‬العمّال‭ ‬والفلاحين‭. ‬

فظهور‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبى‭ - ‬فى‭ ‬تصوّره‭ - ‬علامة‭ ‬على‭ ‬قصور‭ ‬أو‭ ‬تقصير‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬الرسمى،‭ ‬وبالأحرى‭ ‬‮«‬هو‭ ‬صرخة‭ ‬احتجاج‭ ‬على‭ ‬جمود‭ ‬الفصحاء‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭). ‬وبذلك‭ ‬ظهرت‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬نَبَتَ‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬الإسلام‭ ‬قصصه‭ ‬الذى‭ ‬يطبعه‭ ‬بطابع‭ ‬عصره،‭ ‬فكان‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬أبى‭ ‬زيد‭ ‬الهلالى‮»‬‭ ‬وسيف‭ ‬بن‭ ‬ذى‭ ‬يزين‭ ‬والظاهر‭ ‬بيبرس‭ ‬إلخ‮»‬‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المتتبع‭ ‬للتصميم‭ ‬الفنى‭ ‬أو‭ ‬البناء‭ ‬الروائى‭ ‬لهذا‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبى،‭ ‬يجده‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الفن‭ ‬لا‭ ‬اللغة‭ ‬هو‭ ‬السائر‭ ‬فى‭ ‬الطريق‭ ‬الصحيح‭ ‬محاديًّا‭ ‬تلك‭ ‬الفنون‭ ‬الجديدة‭ ‬التى‭ ‬قامت‭ ‬بقيام‭ ‬الحضارة‭ ‬الجديدة‭.‬

كما‭ ‬يحكى‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬إبداعه،‭ ‬فمسرحية‭ ‬أهل‭ ‬الكهف،‭ ‬أو‭ ‬التمثيلية‭ ‬القصصيّة‭ ‬كما‭ ‬يسميها،‭ ‬فيذكر‭ ‬لأندريه‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬مصدرها‭ ‬فقط‭ ‬سورة‭ ‬أهل‭ ‬الكهف‭ ‬التى‭ ‬يردّدها‭ ‬الناس‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬أثناء‭ ‬كتابتها‭ ‬واقع‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬القرآن،‭ ‬فحسب‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬كنتُ‭ ‬قرأت‭ ‬الكُتب‭ ‬الدينيّة‭: ‬كتاب‭ ‬الموتى‭ ‬والتوارة‭ ‬والأناجيل‭ ‬الأربعة‭ ‬والقرآن‮»‬‭ ‬وبالأحرى‭ ‬‮«‬إن‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬كلها‭ ‬كانت‭ ‬واقعة‭ ‬تحت‭ ‬سلطان‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬ملكت‭ ‬عليها‭ ‬فكرها‭ ‬وعقائدها‭ ‬ومشاعرها‭: ‬البعث‭. ‬وهى‭ ‬كلمة‭ ‬ذات‭ ‬أربعة‭ ‬أوجه‭ ‬كالهرم،وجهها‭ ‬الأول‭: ‬الموت،‭ ‬ووجها‭ ‬الثاني‭: ‬الزمن،‭ ‬ووجها‭ ‬الثالث‭ : ‬القلب،‭ ‬ووجها‭ ‬الرابع‭: ‬الخلود‭.‬

اهتمامه‭ ‬بالأدب‭ ‬الشعبى‭ ‬وما‭ ‬أنتجه‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬خالدة،‭ ‬مثل‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬وما‭ ‬أحدثته‭ ‬من‭ ‬تأثيرات‭ ‬عالمية،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هى‭ ‬‮«‬فن‭ ‬وخلق‮»‬‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‮»‬انعدام‭ ‬الروعة‭ ‬اللغوية‭ ‬فيها،‭ ‬وضياع‭ ‬الجانب‭ ‬الشكلى‭ ‬اللفظي‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬جعله‭ ‬ينتقد‭ ‬الأدباء‭ [‬أو‭ ‬بتعبيره‭ ‬‮«‬أولئك‭ ‬الجامدون‮»‬‭] ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يعترفوا‭ ‬بها،‭ ‬وبنوا‭ ‬سدًّا‭ ‬‮«‬بين‭ ‬الجامدين‭ ‬والمجددين‮»‬،‭ ‬وتركوا‭ ‬لغيرهم‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬الكنوز‭ ‬يغترفون‭ ‬منها‭ ‬ويربون‭ ‬عليها‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭: ) ‬

أليس‭ ‬من‭ ‬العجيب‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ (‬متن‭) ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬التى‭ ‬أرسلها‭ ‬لأندريه،‭ ‬ضمن‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬الباب‭ ‬الثانى‭ ‬المعنوّن‭ ‬بـ»الأدب‭ ‬العربى‭ ‬وتجدده‮»‬‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الأدب‮»‬‭ (‬1952‭)‬،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬أثواب‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‮»‬‭. ‬

فى‭ ‬رسالته‭ - ‬ضمن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬العمر‮»‬‭ - ‬إلى‭ ‬أندريه‭ ‬وهى‭ ‬مرسلة‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية‭ ‬يبدأها‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬عزيزى‭ ‬أندريه‭/ ‬إمعانى‭ ‬فى‭ ‬بحوث‭ ‬الأدب‭ ‬اليوم‭ ‬يجعلنى‭ ‬غير‭ ‬صالح‭ ‬للحديث‭ ‬فى‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.  ‬وقد‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬مسألة‭ ‬اللغة،‭ ‬فإذا‭ ‬مشكلة‭ ‬أخرى‭ ‬تقوم‭ ‬أمامي‭. ‬هى‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬خلق‭ ‬فنى‭ ‬يبدو‭ ‬لى‭ ‬ناقص‭ ‬التكوين‭. ‬والسبب‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬بسيط‭ ‬أيضًا‭: ‬إذا‭ ‬تأملت‭ ‬الآداب‭ ‬القديمة‭ ‬كلها‭ ‬وجدتها‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬عاصرتها‭ ‬فنون‭ ‬كبرى‭...‬‮»‬‭ (‬زهرة‭ ‬العمر‭: ‬ص‭ ‬223‭).‬

ويبدأ‭ ‬المبحث‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬أثواب‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الأدب‮»‬‭ ‬هكذا‭: ‬‮«‬طالما‭ ‬قلت‭ : ‬إننا‭ ‬لو‭ ‬تأملنا‭ ‬الآداب‭ ‬القديمة‭ ‬لوجدنا‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬عاصرتها‭ ‬فنون‭ ‬كبرى،‭ ‬فمصر‭ ‬القديمة‭ ‬والهند‭ ‬والإغريق‭ ‬والرومان‭. .. ‬إلخ،‭ ‬كانت‭ ‬المعابد‭ ‬العظيمة،‭ ‬والتماثيل‭ ‬الرائعة‭ ‬فيها‭ ‬خليقة‭ ‬أن‭ ‬يعاصرها‭ ‬أدب‭ ‬يضارعها‭ ‬فى‭ ‬قوة‭ ‬البناء‭ ‬ودقة‭ ‬التركيب،‭ ‬وروعة‭ ‬الفن‭: (‬الملاحم،‭ ‬والقصص،‭ ‬والتمثيل‭) ‬ولكن‭ ‬الذى‭ ‬حدث‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬العربى،‭ ‬كان‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭...‬‮»‬‭ (‬فن‭ ‬الأدب‭: ‬‭).‬

لو‭ ‬قارنا‭ ‬بين‭ ‬الرسالة‭ (‬فى‭ ‬زهرة‭ ‬العمر‭) ‬والمقالة‭ (‬فى‭ ‬فن‭ ‬الأدب‭) ‬لما‭ ‬وجدنا‭ ‬اختلافًا‭ ‬فى‭ ‬شيء،‭ ‬سوى‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬صيغ‭ ‬الأفعال،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ضمير‭ ‬المخاطب‭ ‬المفرد‭ [‬تأمّلت،‭ ‬وجدتها‭]‬،‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬خطاب‭ ‬لمرسل‭ ‬إليه‭ / ‬أندريه،‭ ‬وتحوله‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬الخطاب‭ ‬بالجمع‭ : [‬تأملنا،‭ ‬وجدنا‭]‬،‭ ‬فى‭ ‬إشارة‭ ‬لخطاب‭ ‬عموم‭ ‬القرّاء‭ ‬وليس‭ ‬شخصًا‭ ‬مفردًا،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يشير‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬طالما‭ ‬قلت‮»‬‭ ‬تأكيدًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحديث‭ ‬مكرّر،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬ومتى‭ ‬كرّرها‭.‬

هكذا‭ ‬فارقت‭ ‬الرسائل‭ ‬وظيفتها‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬دلالة‭ ‬التوجيه‭ ‬التى‭ ‬يتضمنها‭ ‬معناها‭ ‬المعجمى،‭ ‬إلى‭ ‬دلالة‭ ‬إظهار‭ ‬التكوين‭ ‬الفكرىّ‭ ‬للحكيم؛‭ ‬حيث‭ ‬عكست‭ ‬هواجسه‭ ‬واشتغالاته‭ ‬النقدية‭ ‬بقضايا‭ ‬جوهرية‭ ‬فى‭ ‬الفن‭ ‬والأدب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬لم‭ ‬تفارق‭ ‬الحكيم‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬بوحه‭ ‬ورسائله،‭ ‬وإنما‭ ‬طاردته‭ ‬فى‭ ‬كتاباته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأخذت‭ ‬تلحّ‭ ‬عليه‭ ‬إلحاحًا‭ ‬شديدًا،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬سبيلاً‭ ‬غير‭ ‬الإفصاح‭ ‬عنها‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬مَن‭ ‬يجهلها،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬شخصية‭ ‬أندريه‭ ‬حقيقيّة،‭ ‬كما‭ ‬صرَّح‭ ‬هو‭ ‬فى‭ ‬مقدمة‭ ‬الرسائل،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬حقيقتها‭ ‬لا‭ ‬تنفى‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬قِناعًا‭ ‬لذاته‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المواضع؛‭ ‬ليمرِّر‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬تمريره،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬كرّره‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬كثيرة‭ ‬تالية‭.‬

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة