أحياناً تدفعك المسئولية الوطنية للكتابة عن الأحداث السيارة في مجالنا السياسي العام، ربما لضرورة يقتضيها الظرف القائم، أو لنقص ربما يري الكاتب معه توجب المشاركة فيه، عله يفض اشتباكاً أو يجلي حقيقة أو ينبه لسد الذرائع فيتناول الأمر من زاوية يري وجاهتها فيقدم إقتراحاً أو يحرر مسألة تتضح معها الصورة وتساعد متخذي القرار ممن يقع الحدث في مناط مسئولياتهم. هذا دور المثقف العضوي الذي لاينبغي له التعالي عن أدائه إذا ماقادته الظروف لذلك. وكأستاذ جامعي فقد فضلت دائماً النظر في كليات المسائل وعلاج قضايا الفكر والعلم والسياسة في مظانها الكبري ورؤاها الاستراتيجية، بعيداً عن استقطاب الأحداث السيارة التي يركز عليها أغلب الكتاب وبالتالي تشبع من متابعتها القارئ. إذن هي الضرورة، أقول هذا ربما توطئة للعودة لاستكمال مناقشة مابدأناه الأسبوع الماضي في هذا المكان بعنوان «كلام للشعب ونوابه»، ولكن من زاوية ينبغي التنبه لأهميتها وخطورتها علي مستقبل العمل السياسي في بلادنا المحروسة. وعلي الرغم مما وجهناه من نقد وملاحظات فقد جاءت تفاعلات القراء مع المقال أكثر اهتماماً وإيجاباً مماتوقعنا. مر أسبوع طالعتنا فيه أخبار اضطلاع النواب بواجباتهم التشريعية في مناقشة وإجازة القرارات الجمهورية بالقوانين، وتنوعت مواقف اللجان وملاحظاتها، وتنوع تصويت الأحزاب والكتل البرلمانية والتحالفات، وبرزت أصوات متحفظة وأخري ممتنعة وغيرها رافضة، مما يعني أن الجدية لاتنقص هذا المجلس الذي وعدنا دعمه بالنقد والملاحظة والتحليل والاقتراح.
ولعلي أقولها بصراحة ووضوح أنه لم يعجبني تسرع البعض في التقول علي المجلس بأنه يمارس نفس دور مجلس فتحي سرور بإعتباره مسلقة للقوانين، وهذا تجاوز للحقيقة إذ الضرورة الدستورية تحتم عليهم النظر في 351 قرارا جمهوريا بقانون في مدة أسبوعين، وهي غير كافية، وليس أمام النواب إلا إجازة القوانين الضرورية خصوصاً منها القوانين المكملة للدستور، أو غيرها مما يترتب علي رفضها مشكلات إجرائية ربما عرضت مصالح الناس والبلاد لمخاطر ما أغنانا عنها، خصوصاً أنه ليس هناك مايمنع المجلس بعد إجازته للقوانين في الفترة المحددة أن يتقدم النواب بطلب مايرون توجب تعديله من قوانين تحقيقاً للمصلحة العامة أو تحقيقاً لمطالب جماهيرية ملحة. إذن نحن وحتي هذه اللحظة في إطار الممكن والمتاح وإعمال المواءمات والتوصل للتوافقات التي تدفع بالعمل العام ولاتؤخره. ولم يعجبني تصريحات أشرف العربي أو غيره من الوزراء ممن أزعجهم أن يختلف معهم النواب في رؤاهم ومعالجاتهم للأمور المطروحة عليهم، ولم أتقبل بارتياح محاولات الهيمنة والسيطرة وتوجيه النواب والضغط عليهم، وكأنهم تلاميذ في مدرسة لايقدرون مسئولياتهم ولايعرفون مصالح الوطن العليا كما يراها حضرة الناظر.
علي كل حال البداية جادة وأحسب ان النواب تنبهوا لأخطاء الجلسات الأولي، وهي واردة في مثل ظروف مجلس تمت هندسته علي عجل، لكن رهاننا علي يقظة الغالبية منهم، وعلينا تشجيع النواب علي ممارسة أدوارهم بتجرد وشفافية، وليعلم الجميع أنهم نواب عن الشعب وند ورقيب علي الحكومة لا تابع لها. وعليهم الاستعداد لبيان الحكومة بما يليق بمجلس مسئوليته كبري في ظرف دقيق تمر به البلاد، وأن يعلموا أنه ليس مطلوباً منهم إلا التجرد والتوازن فلا إفراط ولاتفريط، ولايطلب الشعب منهم إلا الموضوعية، ولاننتظر منهم تعويق الحكومة أو إدارة الدولة، غاية مانطلبه استقلال القرار النيابي في إطار المسئولية الوطنية بما تقتضيه من حفاظ علي مصالح الوطن وجماهيره ممن وضعوا فيهم الثقة وأعطوهم أصواتهم.، فليختلفوا مع الحكومة إذا اقتضي ذلك صالح الوطن، فهذه هي آليات العمل البرلماني ومسئولياته التاريخية، ولايسمحوا لأحد بأن يبتز قرارهم باسم الرئيس، فالرئيس بشعبيته الجارفة لايعنيه إلا أن يؤدي كل منهم عمله علي الوجه الأكمل، وأن دعم الرئيس ليس له باب وحيد يمر من خلال تأييد الحكومة، إنما بابه الأوسع هو باب الشعب وطموحه وآماله في حياة حرة وعدالة اجتماعية نشارك فيها جميعاً في الغنم كما نتحمل مسئولياتنا عند الغرم.
هذا كلامي للنواب، أما كلامي للسيد شريف إسماعيل رئيس الوزراء فيتعلق ببيان الحكومة أمام البرلمان، حيث نتوقع أن يكون بيانه خريطة سياسية متكاملة تحمل توجهات الحكومة وبرنامجها ليس في صيغة إنشائية تبحث عن البلاغة وفخامة الصياغات بينما تعاني فقر الأفكار وخلل الانحيازات. ولعل شريف إسماعيل أول رئيس وزراء مصري أسمعه في حديث تليفزيوني مقتضب يتحدث بصراحة وموضوعية ويشير إلي قناعته بأن المنهج العلمي هو مدخلنا الوحيد لتحقيق طموحاتنا ومواجهة مشكلاتنا، ومن هنا نتمني أن يأتي برنامج الحكومة في إطار علمي يحدد الرؤية والأهداف والغايات والآليات والخطوات والإلتزامات. برنامج علمي في رؤية استراتيجية شاملة تحدد التوجه العام وترسم له الـ Master Plan وتحدد أولوياتها في المدي القصير والمتوسط والطويل الأمد، ثم تنزلها علي الخطط التنفيذية Action Plans وتضع لها علامات الطريق ومؤشرات الإنجاز Land Marks وتحدد توقيتاتها ومعالمها بدقة علي جدول زمني يمكن متابعته والاجتهاد في إطاره Milestones
وأن يأتي مخططه الاستراتيجي العام في إطار الحوكمة العلمية والنظم الإدارية والرقابية الشفافة ومعايير الجودة الشاملة T.Q.M.، التي تسمح للحكومة بالمسئولية التضامنية كفريق عمل واحد وليس جزراً منعزلة، وأن يأتي برنامجه متوازناً في توزيع الأعباء علي فئات الشعب المختلفة، وأن توضح حكومته كيف يكون انحيازها للمواطن البسيط الذي اعتادت كل حكوماتنا السابقة المتاجرة بمعاناته والتشدق بالعمل من أجله ودعمه بينما تأتي سياساتها ضده. وعلي رئيس الحكومة أن يكون موضوعياً مع نفسه ويتخلص من وزراء قصروا أو بدت الكراسي أوسع وأكبر من قدراتهم، وأن تقتنع حكومته بأن الولاء وحده لايصلح بديلاً للكفاءة، وأن تأتي خياراته علي قدر مسئولية المرحلة ومتطلباتها.
وكما قلت في مقالي السابق أن علي النواب أن ينتبهوا لذلك كله، وألا يكون إجازة برنامج الحكومة عملاً مجانياً مفروغاً منه كما كان يحدث من قبل، فليكون كل حزب وائتلاف مجموعات خبراء من أعضائه ويستعين بكل الكفاءات التي يتمتع بها الوطن، ويوكل إليهم المعاونة في دراسة برنامج الحكومة وتحليله وتفنيده والرد عليه، وطلب تعديله إذا لزم، ورفض برنامج أي وزارة لايحقق المعايير العلمية المرجوة، ولا داعي للعجلة فالدستور أعطي للنواب شهراً كاملاً لإقرار برنامج الحكومة أو رفضه. نريد برنامجاً لحكومة جادة تتصدي لمشكلاتنا الحالة والطارئة ليس «بالقطاعي» وإنما في رؤية شاملة تضع منهجاً علمياً لمعالجة أولوياتنا في التعليم والصحة والاستثمار والخدمات والسياحة والأسعار والصناعات الصغيرة والمتوسطة وتخوض بنا غمار التنمية الشاملة في برنامج طموح للبناء والتقدم والنهضة واستعادة دور مصر كقوة إقليمية فاعلة لا تابعة. هذا أو تكون كل البدائل مطروحة. إنه الاختبار الحقيقي لمجلس النواب وعليه أن يجتازه بكل تجرد وشفافية ومسئولية.