العنصرية ما زالت موجودة فى أوروبا
العنصرية ما زالت موجودة فى أوروبا


بعد دخول السياسة إلى الملاعب

العنصرية تكشف وجـه أوروبا القبيح

آخر ساعة

الأحد، 01 أغسطس 2021 - 01:11 م

دينا توفيق

من المفترض أن تكون كرة القدم شكلاً من أشكال الترفيه والهروب من الواقع؛ 90 دقيقة من الحماس والتشويق لتجاهل مشاكل الحياة ومتاعبها، ونسيان ما يدور فى العالم من صراعات ونزاعات وكوارث طبيعية، وفرصة لنشر قيم التسامح والمساواة والتآخي.. لكن يبدو أن التقليد القديم المتمثل فى فصل السياسة عن الرياضة، والرياضة عن السياسة، قد أصبح غير قابل للتطبيق من قبل مجتمع ظاهره لا يعكس باطنه.. ينادى بما لا يفعل؛ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان باتت شعارات تتردد مع استمرار مسلسل العنصرية فى أوروبا بالاعتداء الذى استهدف ثلاثة لاعبين إنجليز بعد خسارة منتخبهم لنهائى كأس أمم أوروبا يورو 2020 أمام المنتخب الإيطالى بركلات الترجيح، ليسقط قناع الحريات والمساواة عن القارة العجوز...

امتلأت منصات وسائل التواصل الاجتماعى التى باتت جزءا لا يتجزأ من السياسة، برسائل ومنشورات وإساءات عنصرية موجهة إلى ثلاثة لاعبين سود ماركوس راشفورد وجادون سانشو وبوكايو ساكا، فى فريق كرة القدم الإنجليزى الذين شاركوا فى ركلات الترجيح لتحديد الفائز فى المباراة والبطولة، إلا أن الثلاثة لم يسددوا أى أهداف؛ حيث أضاع ساكا، البالغ من العمر 19 عامًا، وهو أحد أصغر اللاعبين فى تشكيلة إنجلترا، ركلة الجزاء التى منحت اللقب لإيطاليا وحرم إنجلترا من أول لقب دولى لها منذ كأس العالم 1966، ما دفع الاتحاد الإنجليزى لكرة القدم إلى إصدار بيان يدين إساءة معاملة اللاعبين الثلاثة واللغة المستخدمة ضدهم. كان الفريق قد جثا على ركبتيه قبل المباريات للإشارة إلى دعمه لإنهاء عدم المساواة العرقية. وبحسب مجلة تايم الأمريكية، كانت وزيرة الداخلية البريطانية بريتى باتيل هى نفسها التى وصفت اتخاذ اللاعبين وضعية الجثو قبل بدء المباريات بأنها ذات مدلول سياسي، بعد أن أصبح تقليداً بارزاً فى الرياضة مع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية فى السنوات الأخيرة.

وفى الساحرة المستديرة، أصبحت العنصرية آفة تاريخية مستوطنة؛ منذ السبعينيات، حيث عانى اللاعب السابق بالمنتخب الإنجليزى لكرة القدم وفريق وست بروميتش ألبيون سيريل ريجيس تحمل أقسى الإساءات العنصرية أثناء نزوله إلى الملعب. وفى عام 1988، ركل لاعب ليفربول وإنجلترا جون بارنز، قشرة موز كانت قد ألقيت عليه خارج الملعب. وفى سبتمبر الماضي، تعالت الهتافات العنصرية ضد لاعب إنتر ميلان، روميلو لوكاكو فى الملاعب الإيطالية، بعد أن ردد المشجعون المعارضون أصوات القرود. ووفقًا لمجلة GQ∪ الأمريكية، فإن العنصرية تبدو مشكلة تواجه الهيئات الإدارية الرياضية وأنها غير مجهزة لمكافحتها؛ حيث يولد المناخ الثقافى فى أوروبا السلوك العنصرى الذى أضعف اللعبة فى المواسم الأخيرة. لقد عبر قادة الأحزاب السياسية الوطنية بالمشاعر المعادية للمهاجرين وصاغوها فى خطاباتهم. كما عمل الإعلام أيضًا، على استهداف اللاعبين الملونين من خلال صحافة التابلويد بعناوين الإثارة والنقد المجهري. وبالنظر إلى العوامل المجتمعية، تنتشر الإساءات العنصرية على أرض الملعب كعرض من أعراض الغضب الرجعى فى القارة ويبدو أن النهاية لا تلوح فى الأفق؛ نظرًا لأنه عندما تحدث حوادث عنصرية فى الملاعب، تبدأ الهيئات الحاكمة التى تترأس مختلف البطولات تحقيقاتها وتصدر عقوبات إذا تم العثور على أدلة. وتتبع الإجراءات كنص روتيني، والعقوبات المفروضة، مثل حظر المشجعين العنصريين بشكل دائم أو فرض غرامات ضعيفة، التى لم تنجح فى منع الإساءات العنصرية فى مباريات كرة القدم الأوروبية؛ إنها معضلة تعكس قضايا التنوع عبر المؤسسات بعيدًا عن كرة القدم.

كارثة العنصرية الحالية ليست إلا حالة تثبت أن التاريخ يعيد نفسه، وأنها لن تموت أبدًا؛ رغم محاولات سن الاتحاد الأوروبى تشريعات لمكافحة التمييز والجرائم العنصرية من خلال توجيه المساواة العرقية والتصدى لكافة أشكال العنصرية والتعصب وكراهية الأجانب على مستوى دول القارة، ووفقًا للتقرير الصادر عن وكالة الاتحاد الأوروبى للحقوق الأساسية عام 2000. ومع محاولة إحياء المبدأ المنصوص عليه فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، فى قلب إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بأن يولد الجميع أحرارًا ومتساوين فى الكرامة والحقوق، والذى يعد حجر الأساس لنظام حقوق الإنسان الدولي؛ إلا أن العنصرية تجتاح القارة العجوز، والتى تمثلت فى الاعتداءات بالأسلحة فى ألمانيا ولندن مع تنامى ظاهرة الكراهية والعنصرية ضد الأجانب بشكل عام والأقليات الإسلامية بوجه خاص. ونددت الحكومات الأوروبية بالتطرف الذى أصبحت تمثله الحركات اليمينية المتشددة على الأمن والاستقرار وعلى التعايش بين العرقيات المختلفة. وتأسف مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، دنيا مياتوفيتش لعدم التعامل مع السود وفقًا للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، على الرغم من كل التقدم الذى تم إحرازه فى مجال المساواة وعدم التمييز، إلا أنهم ما زالوا يتعرضون للعنصرية الهيكلية والمؤسسية فى العديد من الدول الأوروبية. وتضيف فى تصريحاتها مع شبكة دويتشه فيله الألمانية، إذا كنت من السود، فمن المرجح أن تواجه التمييز فى سوق العمل والتعليم والرعاية الصحية والإسكان، وأن يتم إيقافك وتفتيشك من قبل الشرطة. وعلى الرغم أن معظم الدول الأوروبية لا تجمع بيانات حول التمييز العنصري، إلا أن بعض التقارير تقدم لمحة عن حجم المشكلة.

وفى فرنسا، أظهر استطلاع أجرته الهيئة المستقلة المدافعة عن الحقوق والحريات، Defenseur des Droits أن الشباب من أصول عربية وأفريقية كانوا أكثر عرضة 20 مرة للتوقيف والتفتيش من أى مجموعة ذكور أخرى. وتم تحديد مشاكل مماثلة فى بلدان أخرى، بما فى ذلك بلجيكا والدنمارك وقبرص وأيرلندا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، وفقًا لـ Equinet، الشبكة الأوروبية لهيئات المساواة. بينما كشف تقرير صدر عام 2017 فى فنلندا عن التمييز الذى يتعرض له المنحدرون من أصل أفريقى وتعرضهم للتمييز المنتظم والمنهجي. وسلط تقرير برلمانى حديث فى المملكة المتحدة الضوء على أن معدل وفيات النساء السود أثناء الولادة أعلى بخمس مرات من النساء البيض، وأن أكثر من 60% من السود فى المملكة المتحدة لا ينالون الرعاية الصحية الجيدة من قبل خدمة الصحة الوطنية  NHS∪ مقارنة بالأشخاص البيض. كما أظهر أحدث استطلاع أجرته وكالة الحقوق الأساسية فى الاتحاد الأوروبى حول هذا الموضوع أن 18% من المشاركين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و 24 عامًا لا يعملون بأجر ولا يحصلون على التعليم أو التدريب. ويظهر أن واحدًا من كل خمسة مشاركين من أصل أفريقى يشعر بالتمييز العنصرى ضده فى الحصول على مسكن. وفى استطلاع نشرته اللجنة الأيرلندية لحقوق الإنسان والمساواة عام 2018، وجد أن السود محرومون من الوصول إلى الوظائف العليا، على الرغم من مؤهلاتهم الجيدة. 

لم يقتصر الأمر على العنصرية والاضطهاد فى العمل وأمور الحياة اليومية، بل امتد إلى العنف الجسدى واللفظى مشكلة أخرى يواجهها السود، حيث يتعرض المدافعون عن حقوق الإنسان والمشرعون المنحدرون من أصل أفريقى للهجوم وتلقوا تهديدات بالقتل. وتعرضت وزيرة التكامل الإيطالية السابقة، سيسيل كينجي لمضايقات واستفزازات عنصرية كثيرة، كونها أول سيدة سوداء تتولى وزارة التكامل الإيطالية عام 2013، فقد استنكرت الوزيرة المولودة فى جمهورية الكونغو الديمقراطية قيام أحد متابعى خطاب لها برشقها بالموز، بينما كانت فى تجمع احتفالي. ومثلها تعرضت وزيرة العدل الفرنسية السابقة كريستيان توبيرا، مرارًا وتكرارًا للاعتداءات العنصرية.

وترى مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان مياتوفيتش، أن هناك استمرارية للظلم الذى عانى منه السود فى أوروبا لأجيال، والأسوأ من الاستمرارية هناك حالة إنكار واسعة لهذه المشكلة؛ بسبب الوعود الواهية التى تخون مبدأ سياسيًا وفلسفيًا وقضائيًا، الذى وضع المساواة فى قلب الديمقراطيات الأوروبية. ولدى كل من محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وكذلك اللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية وهيئات معاهدات الأمم المتحدة، بسوابق قضائية بشأن تطبيق هذا المبدأ. ومع ذلك، يبدو أن دول القارة العجوز بطيئة فى كبح الممارسات التمييزية التى تمارس على السود كمواطنين من الدرجة الثانية داخلها. لذا، يتعين عليهم أن يضعوا مكافحة العنصرية والتمييز العنصرى على رأس أولوياتهم.

وتمضى مياتوفيتش قائلة إنهم بحاجة إلى معالجة جذور العنصرية ضد السود ومعالجة إرث الماضى الاستعمارى والعبودية التاريخية. ومن الضرورى أيضًا مكافحة خطاب الكراهية والجرائم العنصرية بشكل أكثر منهجية. هذا بالإضافة إلى مواجهة حالات الإنكار للتنميط العنصرى من قبل أجهزة الشرطة وعدم وجود آلية تظلم مستقلة ما يعزز الإفلات من العقاب التى يرتكبها الموظفون المكلفون بإنفاذ القانون. كما يجب تعزيز القوانين والممارسات لضمان المساواة فى الحصول على التعليم والعمل والمسكن والرعاية الصحية. ومع ذلك، فإن التغيير لا يتحقق إلا من خلال التشريع والتعليم. يجب أن تعكس المناهج الدراسية بشكل أفضل التاريخ والتراث الثقافى للمنحدرين من أصل أفريقى ومساهمتهم فى تنمية المجتمع الأوروبي، لا يوجد نقص فى الأدوات القانونية والمهنية والمالية لتحقيق كل هذا؛ ما ينقص هو الإرادة السياسية. ويجب على الدول الأوروبية ألا تتجاهل رهاب الأفارقة بعد الآن، لقد حان الوقت لهم للعمل على تضييق الفجوة بين الواقع ووعد المساواة للجميع.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة