نبش الترجمات القديمة
نبش الترجمات القديمة
الإثنين، 02 أغسطس 2021 - 03:16 م
كتب: د. عبد الرحمن الشرقاوى
خلال الشهور القليلة الماضية استوقفتنى حادثتان منفصلتان تتعلقان بموضوع إعادة نشر الأعمال المترجمة وما يتصل بالقضية من أخلاقيات الترجمة وفنياتها. ففى إبريل الماضى لاحظت وجود نسخة معدلة تعديلاً سافرًا لترجمة عبد الله يوسف على للقرآن. وترجمة عبد الله يوسف على واحدة من الترجمات المشهورة التى أُنجزت فى ثلاثينيات القرن العشرين، وما زال كثيرون يعتبرونها الأفضل خصوصًا بين المسلمين. أما الحادثة الثانية فهى إعادة نشر ترجمة حسن عثمان للكوميديا الإلهية وهى ترجمة صدرت للمرة الأولى فى منتصف القرن العشرين. قام ناشران مختلفان بإعادة نشر الترجمتين وإبراز اسم المترجمين الأصليين عليهما، لكن كلا الناشرين عمدا إلى إدخال كثير من التعديلات بالحذف والإضافة والتغيير. صحيح أن الناشرين كليهما ذكرا صراحة أنهما قاما ببعض التغييرات، لكن هذا وضعنى أمام عدد من التساؤلات حول مسألة إعادة النشر وطرقها وأخلاقياتها.
من المهم أن نتفق أولاً أن إعادة الترجمة أمر جائز ومشروع طبعًا، فكل مترجم يقوم باختياراته وتفضيلاته اللغوية والأسلوبية التى تعبر عن فهمه الخاص. ويمكن أن تكون إعادة الترجمة بمثابة إنتاج نص جديد بفهم مغاير للترجمة القديمة. خلال حوار لى مع المترجم اليابانى الشهير نوتاهارا سبق أن نشرته أخبار الأدب فى مطلع عام 2019 أكد الأستاذ نوتاهارا أن إعادة الترجمة تحقق الكثير من الإتقان والاقتراب من روح النص ومن القارئ معًا. وضرب عددًا من الأمثلة التى كانت دليلاً على وجهة نظره منها ترجمات الأدب الروسى إلى اليابانية.
لكن إعادة الترجمة التى تحدث عنها المترجم اليابانى تعنى أن يقوم مترجم تالٍ بإعادة ترجمة نص ما من أوله إلى آخره مستفيدًا من تطور معرفة اللغة الأصلية وسياقها الثقافى والفنى وأن تكون مبنية على إدراك أن الترجمة الجديدة ستضيف إضافة قاطعة تتخطى مجرد البدائل المعجمية البسيطة والمسائل التحريرية العادية.
أما إعادة النشر فهى أمر مختلف تمامًا. فإن كانت بناءً على رغبة المترجم والناشر معًا فإنها يمكن أن تشهد تغييرات يقوم بها الأول بناءً على ملاحظاته وتطور وعيه. أما إعادة النشر إن جاءت بعد وفاة المترجم فإنها يجب أن تلتزم بما ارتضاه هو فى آخر نسخة وضعها بنفسه ولا تتعداها فى المتن. وأى تغيير للنسخة الأخيرة التى ارتضاها المترجم يمثل خيانة لعمله ولأمانة النشر. فمن المعروف أن الترجمة تقوم على أساس مبادرة يقوم بها المترجم أو هكذا كانت حتى وقت قريب. ثم إن المترجم يلعب دورًا خاصًا فى الترجمة فهو يقوم بدور المتلقى الأول للعمل الأصلى حيث يكوِّن فهمه الخاص للعمل وسياقه العام واختيارات مؤلفه الأصلي. وبعد أن يفرغ المترجم من هذا الدور فإنه يتحول حسبما تشرح كريستيان نورد إلى منتج جديد للنص فى لغته الجديدة. وهنا يقوم المترجم باختيارات لغوية وأسلوبية ترتبط بمقدار معرفته باللغة التى يترجم إليها وأساليبها وذائقة جمهورها من وجهة نظره هو. هنا يصبح النص الجديد وثيقة مركبة يمكن أن نقول مجازًا إن لها مؤلفين مؤلفا أصليا ومؤلفا بالترجمة. وأى تعديلات على هذا النص الجديد هى فى رأيى جرم لا يقل عن جرم العبث بالنص الأصلي.
>>>
ماذا إذن عن الترجمات التى نرى أن لنا عليها ملاحظات لا يمكن كتمانها؟ يمكن أن نجد عدة بدائل تتدرج مع تدرج مستوى الملاحظات حول الترجمة. فيمكن أولاً أن يكتب من يرى بعض الأخطاء مقالاً يوضح فيه مشكلات الترجمة. ويمكن أن يصل الأمر حد اتخاذ قرار بإعادة الترجمة لأن الترجمة المتاحة تهدر قيمة النص الأصلي.
قد يرى البعض أن هناك ترجمة عظيمة بها عيوب واضحة لكنها تظل ترجمة عظيمة لا ينبغى إنكارها، بل يقتضى الأمر إعادة طباعتها. هنا يمكن أن يقوم ناشر بإعادة طباعتها مع مقدمة وافية بميزاتها وأسباب إعادة نشرها مع النص على عيوبها حتى يتابعها القارئ خلال قراءته، ويمكن أن يتم هذا فى ملحق يتلو نص الترجمة. ويجوز طبعًا أن يضع من يراجع الترجمة ملاحظات مباشرة فى هوامش مستقلة خاصة به عند المواضع التى يرى أنها لا تعبر عن الأصل بالدقة المطلوبة. يمكن أن نقبل أى شيء، إلا أن يتم تعديل نص الترجمة تعديلاً لا يستطيع القارئ معه أن يميز الترجمة الأصلية عن التعديل الذى جرى فى مرحلة متأخرة وبعد أن غاب المترجم عن العمل. يمكن أن يحدث أى شكل من التنويه عن الملاحظات أو المشكلات أو العيوب إلا أن يتم التعديل بحيث لا يعرف القارئ أين تم التغيير. إن هذا الفعل بمثابة خلط الأنساب . ويبدو من نافلة القول أن نقول إن إضافة اسم آخر على الترجمة القديمة يضيف إلى هذا العبث بالأنساب كثيرًا.
قبل تطور وسائل الطباعة، قدم العرب حلاً لهذه المشكلة من خلال نموذج المتن والشرح حيث يكون المتن فى الأعلى وتحته الشرح وبينهما فاصل واضح لا يخطئه القارئ. وعندما يريد ثالث أن يضيف إليهما يضع ملاحظاته فى الحواشى المحيطة بالصفحة. لهذا صار لدينا متن وشرح وحاشية. ويستطيع كل شخص أن يكتب ويعلق على سابقه بحرية وبحيث يستطيع المتلقى تمييز كلامه عن سابقه. كان هذا قديمًا، واليوم هناك وسائل أخرى متاحة فى الترقيم وعلاماته تساعدنا كثيرًا وتحفظ لكل حقه.
من المهم المحافظة على الترجمة التى انتهى منها صاحبها كما هى لأسباب منها أن المترجم فى ثقافتنا غالبًا ما كان هو صاحب المبادرة والقائم على تنفيذها رغم ضعف أو غياب الأجر المادي. وفى هذا الإطار فإننا نمحو أثره منها لنتركه بلا عائد مادى ولا أدبي. ثمة سبب ثانٍ أراه مهمًا أيضًا وهو أن الترجمة بصورتها الأخيرة بمثابة الوثيقة الشاهدة على عصرها وعلى فكر منتجها ومتلقيها على السواء. فعندما نتحدث عن الترجمات العربية القديمة لكتاب فن الشعر لأرسطو على سبيل المثال فإننا نجد استخدامًا خاطئًا للمصطلحات. لكن هذا الاستخدام الخاطئ دال على معرفة العرب بأنواع الشعر المختلفة خارج ثقافتهم أو بالأحرى عدم معرفتهم بها. وفى حالة ترجمة حسن عثمان للكوميديا الإلهية وما حذفه منها تحرجًا أو خوفًا من ردود فعل المتلقين، فإننا نستطيع أن نعرف الكثير عن رؤية حسن عثمان الدينية وتصوراته عن جمهوره وما يترتب على هذا من أفكار الرقابة الذاتية أو الخارجية التى تتعرض لها الأعمال عند ترجمتها. وإذا نظرنا إلى حالة عبد الله يوسف على وترجمته لمعانى القرآن التى نشرها فى ثلاثينيات القرن العشرين وخرج يروج لها عبر العالم حتى اعاقته الحرب العالمية الثانية، فإن ترجمته تمثل فهمه واعتقاده الشخصى حول القرآن. وبالتالى فإننا عندما نرى من يحاول تعديل الترجمة فإننا نرى شخصًا يحاول التلاعب بكلام المترجم أو بموقفنا من هذا المترجم ومن مذهبه.
النية قد تختلف بين عبث وآخر لكن النتيجة تظل واحدة طمس لهوية النص فى صورته المترجمة وحجب المعلومات عن القارئ. قد يحدث هذا لمحاولة كسب الشهرة والاعتراف كما فى حالة الكوميديا الإلهية ، وقد يكون بهدف الإخفاء والتعمية على القارئ فى حالة ترجمة عبد الله يوسف علي، وهذه الترجمة بحد ذاتها تحتاج إلى وقفة متأنية.
>>>
فإذا عدنا للترجمة الأصلية قبل العبث بها، فسنلاحظ أن المترجمين مختلفون فى مستويات ظهورهم فى النص المترجم؛ منهم من يسعى لإبراز حضوره ومنهم من يختفى بحيث لا يلاحظه القارئ. والنوع الأخير أكثر شيوعًا فى الترجمات التجارية للأعمال المختلفة ومنها الأعمال الأدبية بشكل خاص. فى المقابل نرى المترجم الحاضر فى عمله قد يكون حضوره بطريق الفذلكة والادعاء فيختار الترجمات الشاذة أو غير المعتمدة للمفاهيم والمصطلحات فى موضوع ترجمته، ومنهم من يسعى ليشرك القارئ معه فى إدراك قيمة النص وصعوبة ترجمته من خلال الهوامش والحواشى الكثيرة.
المترجم الجاد عادة ما يقوم بعمل بحثى شاق ليفهم النص على أدق صورة ممكنة ثم يتخذ عددًا من القرارات بشأن الأسلوب الذى سيستخدمه فى ترجمته والمفردات التى يختارها لتحمل هذا الفهم إلى المتلقي. وعندما ينجز المرحلة الأولى من عمله نجده يحسم أمره بخصوص ظهوره فى النص من عدمه. فى ترجماته لأعمال أمين معلوف، اختار المترجم الكبير الراحل عفيف دمشقية أن ينجز عمله بكل مهارة فى الفهم والبحث واختيار الأساليب والتراكيب والمفردات على ألا يظهر بشخصه إلى القارئ أبدًا. فهو لا يبدى ملاحظاته ولا يضع هوامش شارحة وإنما يضع النص فى أقرب صورة لما يرى عليه الأصل الفرنسى ثم يتوارى تاركًا النص الجديد مع قارئه.
على خلاف دمشقية نرى كلاً من حسن عثمان وعبد الله يوسف على يبديان ملاحظات استهلالية ويضعان هوامش وشروحًا حريصين على أن يبرزا حضورهما أمام القارئ الذى يعرف مقدار ما بذلاه من جهد وما عانياه من أجل الفهم ويقدر الدور الذى لعباه. وإذا كان هذا خيارهما فلا بد أن نحترمه ونتعامل مع إنجازهما بالتقدير والحرص اللائقين بهما.
حظيت الترجمتان بالفعل باهتمام كبير وتقدير من المتلقين ، كما تعرضت كل منهما لمراجعات وانتقادات . ووصل الأمر أن أقدم مترجمون آخرون على إعادة الترجمة مستفيدين من الملاحظات والتعليقات التى تكونت لديهم. كل هذا مقبول ومفهوم. لكن الذى لا يمكن فهمه أن تقوم دار نشر مقرها الولايات المتحدة فى مطلع تسعينيات القرن العشرين بإعادة نشر الترجمة التى أنجزها عبد لله يوسف على فى مع عمل تعديلات عليها غيرت بعض كلماتها، وعدلت أو حذفت بعض هوامشها، ثم أزالت مقدمة عبد الله يوسف على ووضعت مقدمة أخرى لها تحاول من خلالها إيهام القارئ بانتماء مذهبى وعقدى مغاير لما يظهر فى الأصل. كل ذلك حدث بعد قرابة أربعة عقود من رحيل المترجم المعروف. ثم عمد القائمون على بعض التطبيقات على الهواتف الذكية إلى تغيير بعض المفردات فى الترجمة مرة أخرى فى القرن الحادى والعشرين.
نفس الأمر تكرر مؤخرًا مع ترجمة حسن عثمان وزاد من هول الأمر أن صدرت الترجمة باسم مترجمين معًا وبإضافات لم يكن المترجم الأصلى يرضى عنها أو يقبل بنشرها فى النسخة التى قدمها للجمهور.
كل هذا يمثل عبثًا بالترجمتين واعتداء على حقوق المترجمين وانتهاكًا لحرمة مترجمين راحلين دون مبرر مفهوم ودون عذر. هذا لا ينفى أن كلا الترجمتين بهما ما يستحق المراجعة والنقد، ورفض هذا الفعل أو الجرم لا ينفى استحقاق الكتابين الأصليين لترجمات جديدة جادة.
المصدر : جريدة اخبار الادب
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة