كلما رأيته تذكرت عبارة جرامشي عن المثقف العضوي. وهو المثقف الفاعل الذي له دور جوهري في الحياة الثقافية. لا يكتفي بكتابته. لكن دوره وتأثيره في المجتمع الثقافي المحيط به لا يقل أهمية عما يكتبه

حدثني أكثر من صديق عن محمد الراوي. وعن محنته المرضية التي يمر بها. تكلم معي الصديق شعبان يوسف معاتباً أننا نمارس الفرجة علي حالة محمد الراوي دون أن نفعل له شيئاً. أو أن نفكر في فعل شيء له. وتكلم معي آخرون. ربما كان من بينهم القاص والروائي محمود عرفات، الذي اختار أن يعيش في كفر الزيات. أول مدينة أراها في حياتي في خروجي الأول من قريتي الضهرية.
وأنا عرفت محمد الراوي عندما كان كثير التردد علي القاهرة. بحثت في مكتبتي عن كتبه. واكتشفت كتابا له صدر عن هيئة قصور الثقافة. أرسله لي الصديق الدكتور أحمد مجاهد عندما كان رئيساً للهيئة. وعلي الغلاف الخلفي تعريف به. مع أن الرجل لا يحتاج أي تعريف. ولكني رغم معرفتي التامة به قرأت التعريف. فاكتشفت أن اسمه الكامل: محمد الراوي صالح. وكنت أتصور أن الراوي هو لقب العائلة الأخير. والراوي بالنسبة لي روائي وباحث ومهتم بالشأن الأدبي العربي. كلما رأيته تذكرت عبارة جرامشي عن المثقف العضوي. وهو المثقف الفاعل الذي له دور جوهري في الحياة الثقافية. لا يكتفي بكتابته. لكن دوره وتأثيره في المجتمع الثقافي المحيط به لا يقل أهمية عما يكتبه.
محمد الراوي من أبناء السويس جاء إلي القاهرة فترة من الوقت. وما من مرة أتذكر فيها ضياء الشرقاوي حتي يكون الراوي جزءاً من الصورة. ربما لأنني رأيتهما معاً أكثر من مرة. لكن الراوي بعد هذه الفترة عاد إلي السويس. وقرر البقاء فيها وإن كنت أتفهم مبررات الحضور للقاهرة. فحتي الآن لا أعرف لماذا كانت العودة للسويس بعد ذلك. وإن كانت العودة إلي الجذور لا تحتاج للبحث عن أسباب لها.
آخر مرة قابلته كانت في ملتقي القصة القصيرة الذي عقدته لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة. ولكنه لقاء كان جزءاً من إيقاع حياتنا. «علي الواقف». وبسرعة سريعة. كأننا نجونا من حريق. أو أُنْقِذنا من غرق. ولذلك لم أسأله السؤال الذي لا يُسأل ما الذي جعله يعود للسويس بعد أن استقر فترة ليست قصيرة في مصر؟ وللراوي اهتمامات خاصة مثل نشره لرسائله مع ضياء الشرقاوي. وإن كان هذا الكتاب لم يقع في يدي وكذلك أن له كتاباً عبارة عن حوار مع نعيم عطية. الرجل المنسي الذي أمضي أيامه الأخيرة في إحدي دور المسنين. ونحن لا نبالي ولا نسأل ولا نهتم.
كتاب الراوي الذي وجدته عندي عنوانه: جماليات النص. وقد توقفت فيه أمام كثير من الأمور. مثلاً مقاله عن عبد السلام رضوان الذي مضي من حياتنا دون أن نتوقف أمام حكايته وأيضاً ما كتبه عن الدكتور عبد الغفار مكاوي. بعض ما جاء في الكتاب- لمن يريد أن يعرف- يبدأ بملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ وجمال الغيطاني في قاهريات مملوكية. وخيري شلبي بين موال البيات والنوم. ومحمد جبريل وقراءة في شخصيات مصرية. وروح محبات لفؤاد قنديل. ورواية سيد الوكيل فوق الحياة قليلاً. وترجمة محمد إبراهيم مبروك لقصص من أمريكا اللاتينية. وسناء فرج وشخصياتها النسائية. وقصة صفية فرجاني طفولة. ودراسة مهمة عن الدكتور عبد الفتاح الديدي. والدكتور مراد وهبة ومواقفه من جراثيم التخلف في حياتنا. ومحمد عبد الحليم عبد الله. والظلم الذي وقع عليه.
وفي الكتاب دراسات عن أشقاء عرب. وأخري عن كتابات عالمية. لكن أريد التوقف وسط الزحام الذي يثيره الكتاب من قضايا في النفس أمام ما كتبه عن أليفة رفعت. التي رحلت عن دنيانا في 4 يناير 2000 ومحمد الراوي يكتب عن لقائه بها في سبعينيات القرن الماضي في مكتب الدكتور عبد العزيز الدسوقي ويتابع كتاباتها. ويورد رأيه بعد قراءة ما كتبته. وإن كان هذا الفصل وعنوانه: الأديبة الراحلة أليفة رفعت. والكتابة بالجسد. بعد قراءتي له لم أجد ما كنت أبحث عنه في حكايته.
صحيح أنه يقول إنها برحيلها تكون قد حققت أمنياتها في الموت بعد عزلة طويلة وصراع مع المرض. قرأت الكلام وأنا أعتبر نفسي أمام احتمال من اثنين. إما أنه لا يعرف ظروف وفاتها. أو أنه يعرف. وهو مثقف متابع بشكل جيد لما يجري في ثقافتنا. ولا يريد أن يكتب. سمعت «طراطيش كلام» عن ظروف وفاتها في لندن ومحاولات إجبارها علي السفر لإسرائيل ورفضها. فما هي الحقيقة فعلاً أيها الأخ العزيز محمد الراوي؟ سؤال لن يجيب عنه الراوي.
ثم هل أناشد الصديق حلمي النمنم وزير الثقافة، والعزيزة الدكتورة أمل الصبان أمين عام المجلس الأعلي للثقافة بالاهتمام بحالة محمد الراوي.