لا تنسوا أن تذاكي أحمد عز في مثل هذه الظروف أطاح بنظام مبارك ودفع ثمنه الجميع ولاتزال آثاره تطاردنا حتي اليوم

إحساس غامض يدهمك عندما تنظر في الأزمة المثارة بين مجلس النواب والحكومة، تشعر للوهلة الأولي أنها تمثيلية أريد بها أن تكون محكمة، لكن فلت زمامها، أو أن الطبخة ربما «شاطت» علي نار من حاول تسبيكها أكثر من اللازم، أو خانته محاولات تذاكيه فخرجت منه محروقة يصعب استساغة طعمها. محصلة الأمر أنك لا تصدق المشهد كما تراه أمامك، ولا يمكنك أن تحسبه في إطار التفاعل السياسي بين نواب استبد بهم الحماس لإثبات جدارتهم بالكراسي، يحاولون أن يبعدوا شبهة أن بعضهم مصنوع علي عين الدولة وتسهيلات أجهزتها، فانتهزوا الفرصة لتحدي الحكومة بدعوي كف يديها عما اعتادته من توغل علي أعمال واختصاصات السلطة التشريعية، وفي نفس الوقت ينفضون عنهم أنهم يمكن أن يكونوا نواباً مدجنين، كل همهم هو التحالف من أجل دعم الدولة والرئيس وتعديل الدستور وتمثيل مصالح اليمين الرأسمالي في نسبته الغالبة علي تشكيل المجلس، وهو أمر يمكن اعتباره في إطار المناورة السياسية الهادفة الي إعطاء انطباع جيد عن مجلس نواب لن يفرط في حقوق من انتخبوه ليكون رقيباً علي الحكومة لا تابعاً لها محققاً مشيئتها، مستجيباً لإرادتها إذا ما تصادمت مع صلاحيات النواب والبرلمان وحقوقهم.
كانت الفرصة مواتية إذ بدا أن وزير مجلس النواب والشئون القانونية المستشار مجدي العجاتي تعسف في استخدام السلطة ضد أمين عام مجلس النواب اللواء خالد الصدر، الرجل الكفء القادم من هيئة الأمن القومي والذي دفعه الوزير لكتابة استقالته بعد أن أدي دوراً مشهوداً في إعداد المجلس وهيكلة العاملين به وتطوير أدائه وتحديث آليات عمله، وأحسن استقبال نواب المرحلة الأولي، ووجدوا في أدائه تمايزاً وإيجابية وتقاربا وتفاهما وتعاونا لم يكن موجوداً من قبل، لا من أمين مجلس الشعب الماضي المستشار سامي مهران، ولا من أمين مجلس الشوري السابق المستشار فرج الدري. إنه إذن رجل مختلف، فاهم ومميز، علي الأقل بطبيعة تكوين الجهة القادم منها.
كان من الممكن أن يمر الأمر في إطار أن دولتنا دائماً ضد الأكفاء والمميزين، وأن حكوماتنا دأبت علي اضطهاد الكفاءات، وأن الوزير لم يحتمل وجود خالد الصدر بشخصيته القوية ودرجته الوظيفية العالية «علي درجة وزير» إلي جواره، فآثر التخلص منه بعدما أنجز ما طلب منه وزيادة. لكن في تقديري أن هناك من دخل علي الخط لإشعال الموقف، وقام بتسخين الطرفين، الحكومة والنواب، وصور الأمر علي أنه اختبار قوة، يكسبه من يبادر «بذبح القطة» للآخر. إذ ليس طبيعياً أن تقدم حكومة علي تحدي مجلس النواب الذي ستتقدم له ببرنامجها وأوراق اعتمادها خلال أسبوعين ليقرر استمرارها من عدمه. ثم الوزير مجدي العجاتي يعرف قبل غيره أن تعيين الأمين العام لمجلس النواب يتم بتسمية من رئيس المجلس وترشيح من هيئة المكتب ويعرض في جلسة عامة للإحاطة، وهذا أمر قانوني حتماً يعرفه الوزير، ثم في غيبة البرلمان يشرف رئيس الوزراء بتفويض من رئيس الجمهورية القائم علي سلطة التشريع مرحلياً علي أعمال المجلس الإدارية، وسواء فوض الوزير في ذلك أو مارسه رئيس الوزراء بنفسه، فلا ينبغي له أن يصدر قرارات جوهرية باعتبار أن ولايته مؤقتة وتشكل فترة ريبة إدارية مؤقتة، وإلا اعتبر أساء استخدام السلطة. ثم هل من اللياقة القانونية والمواءمة السياسية أن يعين مجدي العجاتي مستشاراً رفيع القدر في موقع هو يعلم بعد اعتراض السادة النواب أنهم قد لا يبقون عليه في موقعه بعد أسبوعين؟، وهل لا يعلم الوزير وهو القاضي الأريب، أنه منذ ترك منصة القضاء لم يعد قاضياً وإنما يشغل موقعاً سياسياً يخضع لمعطيات السياسة من بناء التوافقات والمفاوضات والمواءمات، وليس إصدار أحكام لا رجوع فيها؟. الأمر إذن وراءه حبكة أخري، وهناك من دخل علي الخط وأربك المشهد عن عمد أو ربما بسبب عدم الكفاءة، وربما أصابع تلعب لتحقيق أهداف أخري، والأمر يثير عدداً من الأسئلة تمتد خطوطها تصاعداً متجاوزاً شريف إسماعيل رئيس الوزراء الذي انحاز لصف وزيره، وصولاً إلي رئيس الجمهورية الذي سبق أن أصدر في ديسمبر 2014 قراره بندب خالد الصدر، فهل قدم للرئيس مشروع قرار لم يراع لائحة المجلس في شروط شغل الوظيفة؟ وهل فجأة اكتشف الوزير أن الصدر لا يحمل ليسانس حقوق؟ وهل أمن الوزير ألا يحرج الأمين العام الذي عينه «المستشار أحمد سعد» بإصرار هيئة المكتب بعد تشكيلها علي إزاحته، وإعادة اللواء الصدر؟ إلا إذا كان يعلم من هو رئيس مجلس النواب القادم، وضمن رضاءه عن المستشار سعد وسيقوم بتثبيته. وهنا نكون أمام عدم حصافة وضعف كفاءة، إذ يصبح الأمر مكشوفاً ويسبب حرجاً للدولة والحكومة والنواب، ونكون أمام مسرحية عبثية، لا إجراءات قانونية ومراسم بروتوكولية مرعية في دولة تحترم مؤسساتها، خصوصاً سلطتها التشريعية.
هل هي تمثيلية حبكت خيوطها في مكان ما بالدولة، ليبدو معها رفض مجلس النواب استمرار الحكومة وتغييرها أمراً له ما يبرره، ويرفع الحرج عن رئيس الجمهورية الذي كلفها بتقديم برنامجها وبيانها لمجلس النواب، ولما اكتشف بالممارسة ضعف أدائها وترديه، فتكفل بعض النافذين بتدبير هذا السيناريو الركيك لإقالتها. أم هو عمل يأتي ضمن صراع أجنحة في الحكم أو أجهزة قصد إحراجها مع الرئيس والحكومة والنواب؟
في كل الحالات، فهذا استهلال غير جيد، بل هو خطر علي دولة نحاول جميعاً العمل علي تثبيت أركانها ودعائمها، ويتلاعب بمقدراتها من أشعل الفتيل وأوقد النار بين النواب والحكومة، وإذا صح ذلك فهو تهديد لكيان الدولة ومؤسساتها، لا تحمد عواقبه ونحن في مرمي فوهة مدافع الإرهاب وتربص الخارج وتهديدات الداخل، ومطالب الشعب وطموحات الناس وآمالهم المحبطة. مصر لا تحتاج منا اللعب بالنار، وعلي الرئيس والنواب أن يحاكموا مشعلي الحرائق والمتحذلقين في مؤسسات الدولة والمتذاكين بلا كفاءة أو أفق أو رؤية. ولا تنسوا أن تذاكي أحمد عز في مثل هذه الظروف أطاح بنظام مبارك ودفع ثمنه الجميع ولاتزال آثاره تطاردنا حتي اليوم.
ولا يصح بعد أن أنجزنا انتخابات حرة شفافة، وحققنا مفاهيم المواطنة التي كانت غائبة، ونجح إخواننا الأقباط والمرأة والشباب في الانتخابات الفردية، مما يعد نقلة موضوعية في محيطنا السياسي العام الذي ينبغي أن نحافظ علي صحته ومناعته وعافيته ونزاهته، ولا نعرضه لألاعيب رخيصة، وتمثيليات مكشوفة، سواء بسبب نقص الكفاءة وسوء الإدارة أو التذاكي في غير موقعه.