السد العالي
السد العالي


ترويـض النهــر

آخر ساعة

الأحد، 15 أغسطس 2021 - 02:01 م

إيثار حمدى

كان ترويض النيل هو الشغل الشاغل للمصريين منذ آلاف السنين، ليس فقط بهدف حمايتهم من الفيضان، ولكن أيضا من أجل الحصول على المياه فى أوقات الجفاف، ما جعلهم يفكرون فى شق الترع وإنشاء الأسوار، والقناطر والسدود، عبر رحلة طويلة بدأت من الملك مينا (موحد القطرين) ومرورا بالفتح الإسلامى، وعصر محمد على، والخديو إسماعيل والرئيس جمال عبدالناصر وبناء السد العالى وحتى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفى هذا التحقيق يرصد الخبراء محاولات المصريين لترويض نهر النيل عبر العصور المختلفة.
 

يقول الدكتور ضياء الدين القوصي، مستشار وزير الرى السابق ورئيس قطاع التوسع الأفقى بالوزارة الأسبق، إن عملية ترويض النيل بدأت فى زمن قدماء المصريين، مشيراً إلى أن الملك مينا (موحد القطرين) كان مهندس رى متميزاً، لأن النيل وقتذاك كان ينقسم لفرعين أحدهما يصل للبحر المتوسط، والآخر إلى منخفضات الصحراء الغربية التى نطلق عليها الواحات، فقام بغلق الخط الذى يصل للواحات، ما يجعل المياه بالكامل تصب فى الخط الحالي، ونتيجة لذلك ارتفع منسوب المياه.


ويضيف: قام الملك بعمل سور ليستوعب الكم الكبير من المياه، إلى أن جاء الفتح الإسلامى الذى حدد أنواع التربة والأراضى العالية التى تحتاج إلى رفع المياه إليها، ثم عصر محمد على الذى قام بعمل ثورة حقيقية فى الزراعة اعتمادا على جملة نابليون بونابرت "لو قدر لى أن أحكم هذا البلد لن أسمح لنقطة واحدة من مياه النيل أن تنساب فى البحر المتوسط".


فكر محمد على فى مشروع أطلق عليه "الترع الصيفية"، وهى فروع للنيل فلم يكن هناك فرعان فقط (دمياط ورشيد)، بل ما يقرب من 7 أفرع أحدها يمر من سيناء ليصل إلى بحيرة البردويل، فقام بتعميق الترع وتوسيعها لتخزين أكبر كمية ممكنة من المياه.


ويواصل: بعد ذلك بدأ التفكير فى القناطر الخيرية، فلم يكن المشروع الأول والوحيد للحفاظ على مياه النيل، ولكنه وسَّع مجرى النيل، وجعل هناك إمكانية للتحكم فى المياه التى تذهب للدلتا، وتحويل جزء من الأراضى التى تروى حوضياً مرة أو مرتين سنوياً إلى الزراعة المستديمة.
وكان لإسماعيل باشا إسهامات لا بأس بها فى مواجهة الفيضانات والحفاظ على مياه النيل، إلى أن وصلنا لعام 1902 بإنشاء خزان أسوان الذى كان يستوعب مليار متر مكعب من مياه النيل وتمت تعليته ليستوعب 2.5 مليار ووصل فى تعليته الأخيرة إلى 5 مليارات متر مكعب.


وتم إنشاء قناطر إسنا ونجع حمادى وأسيوط وزفتى وإدفينا وبعدها دمياط وقنطرة ديروط التى ستقوم بتوصيل المياه للفيوم، وقناطر محمد على وقناطر الدلتا إلى أن وصلنا عام 1960 إلى بناء السد العالي.


ويوضح الدكتور إسلام ممدوح، خبير السدود الدولي، أن مصر والعراق هما مهد الحضارات فى المنطقة، باعتبارهما دولتى مصب للأنهار، حيث كان الإنسان يهبط من الجبال، بحثا عن الأودية ليستفيد من الأنهار بعد الفيضانات عن طريق جمع المياه فى أحواض ويبدأ فى تنظيم حياته وفقا لها، ومن هنا بدأ تكوين القرى التى تطورت إلى مدن.
ويشير إلى أن المصبات تعتبر أقل خطورة من المنابع التى تحتوى على ميول حادة فى الجبال وعندما يحدث الفيضان يدمر القرى فى لحظة، أما المصبات فيرتفع بها منسوب المياه تدريجياً ما يمكن السكان من أخذ احتياطاتهم، ولهذا ازدهرت الحضارات فى المصبات أكثر من المنابع.. مشيراً إلى أن ثورة يوليو تبنت ونفذت مشروع السد العالى لترويض النيل.


أما عالم المصريات بسام الشماع فيوضح أن ترويض النهر كان صعبا للغاية على المصرى القديم، نجح فى حالات وفشل فى أخرى، وقد استطاع المصرى القديم أن يتعامل مع الفيضان الضخم ولكنه لم يكن قادرا على التعامل مع عدم وصول الفيضان.
ويشرح: المياه عندما تأتى بمستوى أكبر من المعتاد يتحول الشريان إلى دمار ويهد البيوت الطينية التى تقابله، ووجد المصرى القديم أن البذور التى يزرعها تقوم مياه النهر بكسحها وقت الفيضان، ومن ناحية أخرى نهر النيل به تماسيح وحيوان البرنيق "فرس النهر"، ولم يتم السيطرة على هذه الحيوانات إلا بعد بناء خزان أسوان، وبشكل أكبر مع السد العالى.


كان المصريون القدماء يعانون فى مزارعهم من حيوان "سيد قشطة" الذى يخرج فى مجموعات يتغذى على المحاصيل الزراعية إضافة إلى أنه حيوان نباتى، إلا أن عضاته وإصاباته فى أفريقيا أقوى من الأسود، وكذلك التمساح الذى يهاجم الإنسان، ففكروا فى كيفية ترويض النهر، ومنع كل هذه الكوارث فقام بدراسة توقيت الفيضان، وبذلك تكون معرفة وتعريف ودراسة ورصد النهر ارتفاعا وانخفاضا من باب الدفاع عن النفس حتى يستطيع أن يكمل حياته، ومن هنا يكون معرفة التقويم السنوى وتقسيم السنة إلى 3 مواسم كان من ضمن حلول التعامل مع الفيضان، وبدأ يدرس علاقة النجوم والكواكب وحركة الشمس والقمر بنهر النيل، فوجد أن هناك نجمة تختفى لمدة 70 يوما وتظهر فى فجر اليوم رقم 70 وتجلب معها الفيضان، وهذا اليوم يوافق فى تقويمنا الحالى 19 يوليو، ومن هنا أصبح قادرا على التعامل مع الفيضان واستغرق فى ذلك حضارات وسنوات طويلة.


وبعد ذلك جاء اخترع النايلوميتر أو مقياس النيل وهو عبارة عن سلم له باب يفتح على النيل وعتبة الباب السفلى تلامس مياهه، والسلم على يمينه ويساره نقوش بخطوط مستقيمة عبارة عن مقاسات وأرقام وأذرع تمكنه من معرفة مدى ارتفاع مستوى المياه، إذا وصل إلى 12 ذراعا تكون نسبة معقولة وإذا زاد إلى 16 ذراعا يقولون وفّى النيل - ومن هنا جاءت تسمية وفاء النيل- ، وأكثر من ذلك يعلمون ان الفيضان قد أتى، وكانوا يعتمدون أيضا على هذه المقاييس فى حسابات الضرائب، فإذا جاء الفيضان وسقيت أراضى المزارعين تزداد الضرائب، والعكس فإذا قل منسوب النيل يتم خفض الضرائب عن الشعب.
محطات الرصد والقياس
حدوتة نهر النيل يحكيها لنا واحد من عشاق نهر النيل، والذى ارتبطت حياته به، وهو الدكتور محمد عبدالسلام عاشور، أستاذ هندسة الرى والمنشآت المائية ونائب رئيس جامعة أسيوط، حيث يقول: اعتقد المصريون القدماء أن الفيضان يأتى ليس بسبب هطول الأمطار الغزيرة على منابعه فى الجنوب أو على جبال الحبشة، بل كانوا يرجعون الفيضان لرضاء الإله «حابى».
وخلال رحلته الطويلة، كان النيل ينشر الخير والنماء فى الأراضى التى يمر بها، أو يسبب الموت والدمار إن تجاوزت كمياته حدود الأمان زيادة أو نقصا.
وقد أدرك المصريون منذ الأزل هذه الأهمية القصوى للنهر فى حياتهم، فلن تجد شعبا أعطى لنهر من الاهتمام والعناية ما أعطاه المصريون للنيل، فأقاموا منذ نحو 200 عام محطات الرصد والقياس عند منابع النيل فى دول المنابع بتواجد مهندسين مصريين يسجلون على مدار الساعة حالة الأمطار التى تسقط على دول المنابع ومقدارها والتبليغ بها لاسلكيا يوميا للقاهرة لتتم عملية حساب إحصائى معقدة يتم من خلالها تقدير الكميات التى ستصلنا منها وتاريخ وصولها والتنبؤ الدقيق بالمناسيب المتوقعة للمياه فى النهر داخل حدودنا لأخذ احتياطات الأمان والسلامة اللازمة تجاه البشر والممتلكات والمنشآت على ضفتى النهر فى حال الفيضانات المرتفعة.


وقد حدثت هذه الارتفاعات فى مناسيب المياه عامى 1886-1887، وبلغ حجم الفيضان من الكبر ما تجاوز الـ150 مليار متر مكعب، أو كما حدث عامى 1981-1982، حيث بلغ حجم الفيضان من التدنى ما دون الـ42 مليار متر مكعب، وهذا ما دفع إلى بناء سد أسوان عام 1912 ثم السد العالى عام 1964.
وفى هذا الإطار من الاهتمام الكبير بالنهر، فقد تم أيضا إقامة وإنشاء مقاييس النيل التى كانت تسمى بـ«النيلوميتر» لمعرفة مدى ارتفاع أو انخفاض مناسيب المياه فى النهر على مدار العام، وعلى أساسها يتم رسم السياسة الزراعية والمائية وتقدير حجم العائد الاقتصادى الزراعى للعام الجديد والتى على أساسها يتم تقدير الضرائب والرسوم.
ولما لم يكن النيل مجرد نهر عابر فى حياة المصريين كباقى أنهار العالم، فقد اعتبروه محور حياتهم اهتماماً ودراسة وصيانة، وتبارى مختلف حكام مصر فى إقامة مقاييس الرصد والتسجيل لارتفاعات المياه أو انخفاضها على مدار أشهر العام، حيث أوجد الفراعنة مقاييس نظامية فى العديد من المواقع للرجوع إليها فى موازنة وتوزيع المياه بين الأقاليم توزيعا ثابتا يفى باحتياجاتها وحالتها الطبيعية، حيث يحدثنا التاريخ أن الملك سنوسرت الثالث أقام فى السنة الثامنة من حكمه بعض الإصلاحات فى العديد من المقاييس القائمة حيث كان يقام بالقرب من كل معبد عند كل مدينة على النيل مقياس خاص بها يستفيد به أهل الجهات فى معرفة درجات الفيضان فى بداياته ونهاياته.


وفى البداية كانت المقاييس عبارة عن علامات ترسم على ضفاف النهر، ثم تطورت فى وقت لاحق إلى بناء درج وأعمدة وآبار أطلق عليها اسم «مقاييس النيل»، ويعود تاريخ بناء هذه المقاييس فى شكل مبانٍ إلى عام 861 بعد الميلاد..


ويعتبر مقياس الروضة الموجود حاليا جنوب جزيرة الروضة بمنطقة المنيل بالقاهرة ثانى أكبر أثر إسلامى فى مصر بعد مسجد عمرو بن العاص الشهير.. وقد أنشئ فى عهد الخليفة المتوكل فى العصر العباسى سنة 247 هجرية، والمقياس عبارة عن عمود من الرخام المدرج يبلغ طوله 19 ذراعاً أى حوالى 10.5 متر حفرت عليه علامات المقياس ومثبت على قاعدة تتوسط  بئر المقياس الذى تصله مياه النهر من ثلاث فتحات على ثلاثة مستويات لضمان وصول المياه إلى البئر ممثلة تماما لمتوسط منسوب سطح الماء دون تذبذب أو اهتزاز.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة