أساطير النيــل
أساطير النيــل


أساطير النيــل

آخر ساعة

الأحد، 15 أغسطس 2021 - 02:07 م

آية فؤاد

النيل بالنسبة إلى المصريين هو مصدر السعادة، لأنه شريان الحياة، فقد ساعدهم تاريخياً على تنظيم مواعيد الري، وحفر الترع للزراعة، مما شكل مجموعة من الأساطير حوله تمحوَّر معظمها بين تمجيده تارة، والخوف منه تارة أخرى، لكن فى النهاية يبقى النيل جزءاً رئيسياً من حياة المصريين وحضارتهم العتيقة وحاضرهم الجميل.
 

آمن المصريون القدماء بالنيل، الضامن لحياتهم من مهالك القحط والضيق، واعتبروه الفيض السماوى الذى يهطل على أرضهم بالخير، وتغنوا بأناشيده على آلاتهم الموسيقية، ورسموا به صورة جميلة شكلت معنى الحياة وجوهر الوجود، لذلك انتشرت حوله العديد من الأساطير بداية من أسطورة إيزيس وأوزوريس، والتى من خلالها ربط المصريون بين دموع إيزيس التى حزنت على مقتل زوجها "أوزوريس" على يد أخيه "ست" وفيضان النيل والبعث مرة أخرى، وامتد تمجيد المصريين للنيل فاعتبروه إله الرخاء وجلب السعادة.


فى هذا الصدد، يوضح حسين عبدالبصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، لـ"آخرساعة"، أن نهر النيل كان مقدساً للغاية فى مصر القديمة، وكان النهر محمياً بشكل عظيم وكافٍ وبكل السبل والوسائل من المصريين القدماء ومن الأرباب المسئولين عن حمايته، وحرص المصرى القديم على حماية النهر وصيانته والإفادة من مياهه من خلال إنشاء السدود وشق القنوات والترع والمصارف واستخدام كل الوسائل الممكنة، مثل السقاية والشادوف والطنبور وغيرها، للاستفادة من مياه النهر الخالد وترشيدها واستهلاكها على النحو الأمثل، وكان المصرى القديم يقسم فى كتاب الموتى: "أنا لم ألوث ماء النهر"، مما يدل على المكانة العظيمة والحماية الكبيرة التى كان يكنها فى وجدانه وضميره لشريان الحياة فى مصر.


يتابع: الوازع الدينى للمصرى القديم صوَّر له أن روحاً تكمن وراء هذا النهر العظيم، تدفع مياه الفيضان حاملة الخصب، وهى روح الإله "حعبي" أو "حابي"، كما جاء فى نص أنشودة النيل "تحية لك يا حعبي، أخرج من هذه الأرض واحضر لتهب مصر الحياة"، وكان الإله حابى هو إله النيل عند المصريين القدماء، واعتبروه جالب السعادة، وأطلق المصريون القدماء على نهر النيل فى اللغة المصرية القديمة صفة "إيترو عا" بمعنى "النهر العظيم"، لتمجيد النيل؛ لأنه كان إله الخصب والنماء الذى يمنع عنهم القحط والجدب، وكانوا يذهبون إلى المعابد ليقدموا القرابين إن تأخر الفيضان عن موعده السنوي.
وأوضح أن المصريين كانوا يلقبون "حابي" بإله الخصب والأب المربي، وتم تصويره فى صورة إنسان يحمل فوق رأسه نباتات مائية، ويظهر جسده معالم الجنس الذكرى والأنثوى فى الوقت ذاته، فتظهر ملامح الذكورة فى عضلات أرجله وذراعيه، وتظهر ملامح الأنوثة فى الصدر والبطن، وهى ترمز إلى الأرض التى كان يتم تخصيبها بمياه الفيضان، وكانت تماثيل حابى تظهره وهو يحمل مائدة عليها مختلف أنواع القرابين، وكان من تماثيل النيل ما هو مختلف اللون، فبعضها أحمر، وبعضها أزرق يحمل على رأسه البردى واللوتس، رمزى الدلتا والصعيد، وبعض هذه المناظر مصوَّرٌ على جدران معبد سيتى الأول بأبيدوس ومعبدى إدفو ودندرة.


يتابع: كانت تقام سنوياً أنواع عديدة من الاحتفالات والطقوس الدينية للإله حابى عند موقعين، الأول كهف حابى فى مضيق قرب أسوان، والآخر فى بيت حابى على مقربة من القاهرة، حيث كانوا يقذفون فى النيل الكعك وحيوانات الضحية والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليه، وكذلك تماثيل الإناث لتثير إخصاب النيل العظيم فيفيض فى أمواج عاتية معطياً الحياة للأرض.


أما أسطورة عروس النيل، فتحدث عنها المؤرخ اليونانى بلوتارك، وتناقلها عنه غيره، حيث قال: "اعتماداً على وحى أجيبتوس ملك مصر قدَّم ابنته قرباناً للنيل ليخفف غضب الآلهة، وأنه بعد فقد ابنته ألقى بنفسه فى النيل". وهذا القول هو أصل الاعتقاد بتقديم فتاة عذراء قرباناً للنيل كل سنة.
فيما يعلِّق هشام عبدالعزيز، الكاتب والباحث فى التراث الشعبي، أن نهر النيل كان مرتكزاً أساسياً فى منظومة العادات والتقاليد فى المجتمع المصرى من الميلاد إلى الممات، بل إن علاقة المصريين تبدأ بالنيل منذ فترات شهور الحمل الأولى حيث يكون وحم بعض المصريات عبارة عن أكل بعض من طين النهر، ثم تضع المصرية ولدها فلا تجد أمامها غير النهر لترمى خلاصها فيه، ليتمتع الطفل بـ"العمر الطويل"، وكان يشترط أن تحمل الخلاص إحدى قريبات الأم، ولتكن أمها أو أختها، أو إحدى صديقاتها المقربات، وتذهب به إلى نهر النيل وترمى الخلاص فى النهر وهى تبتسم حتى يكون المولود سعيداً فى حياته بشوشاً بين أقرانه، والأمر نفسه تقريبًا يحدث مع شعر المولود أو أى شعر آخر غير شعر الحلاقة ترميه الأم أو صاحب الشعر فى نهر النيل راجين بذلك شعراً أطول وأغزر وأجمل، متخوفين من رميه فى الطرقات حتى لا يمر فوقه الناس فيصاب صاحبه بالقرع أو يأخذه خصمٌ فيعمل عليه عملاً من أعمال السحر.


يتابع: لم يكن رمى الخلاص والشعر فى مجرى النيل متعلقاً بالإنسان وحده، بل بمواشيهم أيضاً حين تضع مولودها يرمون "المشيمة" فى مجرى النهر راجين إدرار لبن الأم، على أن بعض قرى مصر ومنها قرى منطقة البحث تدفن خلاص الأم أو مشيمة البهيمة فى التراب ولا يفرقون بين النيل وتراب الأرض إلا باعتقادهم أن المولود إذا دُفِن خلاصه فى التراب طابت جروحه بوضع التراب عليها، أما إذا ألقى بخلاصه فى الماء فسوف تطيب جروحه بوضع الماء عليها.
ومثلما حضر النيل فى مشهد الميلاد، حضر وبقوة أيضاً فى مشهد الموت، فحينما يحتضر الفلاح المصرى ينسى الدنيا وينسى أهله، ولكنهم جميعاً يذكرون النهر الخالد، يتذكرون النيل فيستهدونه للمرة الأخيرة لمريضهم بجرعة أخيرة من الماء، كما أن عائلة المتوفى فى غمرة الحزن على متوفاهم لم ينسوا، وخاصة النساء منذ هيردوت وحتى وقت قريب أن يغطين وجوهن بـ"النيلة" ذلك النبات النيلى المرتبط بالموت والفأل السيء، مشيراً إلى أن هذا الملمح فى نهر النيل يكاد يكون حالة متفردة، حيث إن مصادر المياه دائماً تكون محلاً للاعتقاد بوجود الجن كما أنها مصدر خوف، لكن نهر النيل هنا مصدر للاطمئنان والتطهر من الذنوب.


من جانبه، يؤكد عمرو عبدالعزيز، أستاذ مساعد تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب جامعة جنوب الوادي، أن المفكرين اهتموا فى جميع العصور منذ بدء التاريخ بنهر النيل ووصفه، وتتبع منابعه، وحوضه، ومصبه، وكثرت المحاولات لتفسير أحواله وظواهره المختلفة، وهذه الأمور جميعها هى ما يطلق عليها "جغرافيا النيل"، وسنجد أن رحلة اكتشاف منابع النيل فى الكتابات التاريخية استوعبت القصص والأساطير الشعبية الإسلامية مع الرواسب الأسطورية الفرعونية والقبطية، بجانب بعض قصص الإسرائيليات لتصب كلها فى مجرى واحد غايته فى المخيلة الشعبية اكتشاف منابع نهر النيل التى ظلت لغزاً محيراً لآلاف السنين.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة