يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوميات الأخبار

مذكرات محمد سلماوى

يوسف القعيد

الإثنين، 16 أغسطس 2021 - 05:40 م

ولأنها مذكرات، والمذكرات أرقى أدب الاعترافات فنجد أن لديه من الشجاعة عندما يكتب أنه كان لديهم عدد من العبيد

أهدانى الصديق القديم المتجدد محمد سلماوى الطبعة الثالثة من الجزء الأول من مذكراته التى أطلق عليها: يوماً أو بعض يوم. وهى آية قرآنية. فى اختيارها ذكاء لأنها مُعبِّرة عن المدَوَّن بالمذكرات. وهى تغطى سنوات من 1945 حتى 1981، وقد أهداها سلماوى إلى ابنه وابنته وأحفاده.
والمذكرات لا مقدمة لها. صفحات المقدمة فيها مختارات مما كُتِبَ عن هذا المجلد فى طبعتيه الأولى والثانية.

كتبت الدكتورة نيفين مسعد فى جريدة الشروق:
- إنها سيرة تلمس شغاف القلب، تَحَرَّك صاحبها بحرية كبيرة بين التواريخ والأزمنة. وسَخِر بخفة الظل حتى من نفسه.

وكتب أحمد الجمَّال فى المصرى اليوم:
- تمكَّن الأستاذ محمد سلماوى من جدل ضفيرة صغيرة فى مذكراته. تجد فيها سرداً ممتعاً لتفاصيل مُنمنمة. أقرب ما تكون للوشى «شغل الإبرة».
وقال إيهاب الملاح إنها من أمتع الكتب التى قرأها أخيراً. إنها مذكرات رائعة شديدة القيمة والأهمية. كتاب مهم يعرض لفترة خطيرة من تاريخنا المعاصر، وسيثير من اهتمام الناس وفضولهم الكثير مستقبلاً.

ورغم معرفتى القديمة بصاحب المذكرات، إلا أننى فوجئت عند القراءة بما لم أكن أتوقعه. فالرجل الذى حسدته على دوره العام المهم والمؤثر فى تاريخنا الحديث ينحدر لعائلة من باشوات زمان. لقد جمع بين النقيضين فى سبيكة أدبية نادرة. فهو لا يخفى انتماءه للباشوات والباكوات الذين قامت ثورة يوليو 1952 بالقضاء عليهم.

وفى نفس الوقت يُبرز بفرح حقيقى انتماءه للثورة وإيمانه بها وتأييده بما قام به زعيمها وقائدها خالد الذكر جمال عبد الناصر. وهى توليفة ليست سهلة. ومن الصعب أن تجتمع فى إنسان واحد. وإن اجتمعت ففى جمعها بطولة من نوع ما. لا أريد أن أكون مبالغاً وأقول بطولة نادرة.
فى الصفحة الأولى من المذكرات نعرف أن صاحبها فى الخامسة من عمره. وهو يكتب أسماء جدوده مسبوقة بألقاب الباكوية التى كانت سائدة وقتها. وكانت تُشترى بأموال باهظة. إلى أن قامت ثورة يوليو فأبطلتها.

ولأنها مذكرات، والمذكرات أرقى أدب الاعترافات فنجد أن لديه من الشجاعة عندما يكتب أنه كان لديهم عدد من العبيد. ويورد أن مصر عرفت تجارة العبيد حتى أوائل القرن العشرين. مع أن الخديو إسماعيل ألغاها قبل ذلك بسنوات بعد أن فرض عليها سعيد باشا حظراً رسمياً. لكنها لم تنته عملياً إلا مع التوقيع على اتفاقية إلغاء الرق والعبودية 1926.

ستجد فى المذكرات الممتعة أسماء كثيرة لنجوم صنعت نهضتنا الأدبية فى القرن العشرين. وأول اسم يرد فيها هو توفيق الحكيم. الذى أصبح صهراً للمؤلف فيما بعد. وكان بيتهم الذى يصيفون فيه فى سيدى بشر قد انتقلوا منه إلى بيت جديد يقع على الكورنيش مباشرة بجوار كازينو بترو مقر الندوة الصيفية الشهيرة لتوفيق الحكيم.

جمال عبد الناصر
ومن هذا البيت شاهد المؤلف جمال عبد الناصر فى المرة الوحيدة التى رآه فيها رؤيا العين وهو يمر بسيارته الكاديلاك السوداء المكشوفة ليحيى الجماهير التى احتشدت على جانبى الكورنيش. ويكتب:
- وقد لفت نظرى يومها أن لون بشرته البرونزية التى بدت لى غريبة. والتى كان يقال إنها كانت سبب مرض السُكَّرى. لكن فى أواسط الخمسينيات حين شاهدته لا أظن أنه كان قد أصيب بالمرض بعد.

من الأشياء المثيرة التى أدهشتنى فى هذه المذكرات أن شيبرد كان موجوداً فى العتبة. بالتحديد فى الأوبرا. يكتب:
- وفى فندق شيبرد القديم فى ميدان الأوبرا تقابل أبطال مذكراته. وقامت بينهم علاقات أدت إلى التصاهر.

وثائق وصور
من الجديد فى هذه المذكرات التوسع فى نشر الصور والوثائق والخرائط. وأنا أحسده على أنه احتفظ بهذه الأوراق النادرة لحين كتابة مذكراته. فكلنا لا يفعل هذا. تمر علينا أوراق مهمة وتمضى ولا نتذكر أين وضعناها. وعند البحث عنها قد لا نجدها. ولكن الموقف بالنسبة لسلماوى اختلف. وهناك احتمال من اثنين.
إما أن هناك من ساعده وقت كتابة المذكرات فى العثور على هذه الوثائق المهمة. وهذا أمر مشروع. بل نسمع فى الغرب أنه عندما يبدأ كاتب ما فى تدوين مذكراته تُشكَّل لجنة من المعاونين الذين يقدمون له المساعدة المطلوبة لتأتى المذكرات على الوجه الأكمل. أو أن لدى سلماوى قدرة صارمة على الاحتفاظ بالأوراق.

انتحار هتلر
يكتب صاحب المذكرات:
- ولدت فى عام 1945، الذى كانت بداياته شديدة الاضطراب. لكنى لم أخرج إلى العالم إلا بعد انتهاء الحرب. وفى يوم 30 أبريل 1945 انتحر الزعيم النازى أدولف هتلر فى مخبئه ببرلين. وفى الساعة السابعة من مساء يوم 26 مايو بالتوقيت الصيفى الذى كان مطبقاً فى مصر خلال سنوات الحرب، خرجت إلى هذه الدنيا.

ونجد مع المذكرات صورة الطفل الوليد ووالدته تحتضنه. وصورة أخرى فى عامه الأول. ثم يكتب أن الأهرام لم تصدر فى ذلك اليوم لأن العاملين بالجريدة اعتادوا أن يأخذوا يوم الجمعة عطلة. لذلك لم تكن الأهرام فى تلك السنين تصدر أيام السبت.
ورغم أصوله البرجوازية إلا أنه يكتب ما يجعلنا ندرك أنه عاش الحياة من القاع إلى القمة. إقرأ معى عن الأم التى سئلت عن أحب أبنائها فقالت:
- الغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشفى، والصغير حتى يكبُر.

ورغم هذا الواقع الاجتماعى الزاخر. إلا أنه يحيرنى عندما يكتب أن والده كان كثير الأسفار بسبب عمله مع الخارج. وكانت والدته تصحبه فى بعض الأحيان. فهل كان هذا هو سبب شعوره الدائم بالوحدة؟ كان الوالدان كثيرى الأسفار. وأطول هذه الأسفار السفرة التى أمضياها لمدة ستة أشهر كاملة فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1950.

بيوتٌ وذكريات
يتوقف سلماوى أمام البيوت التى عاش فيها. أى بلغة الروائيين الأمكنة التى قضى بعض أيام حياته بين جنباتها. حتى بيتهم القديم الذى هُدِمَ بعد ذلك بسنوات يذكره. والفيللا التى انتقل إليها بشارع مدكور المتفرع من شارع الهرم. ويحكى:
- كان والدى قد اشترى قطعة أرض بغرض أن يبنى عليها بيتاً جديداً بعد أن ترك فيلا الجيزة. وكانت هناك فيلا فخمة مجاورة مملوكة لوالد الصديق العزيز حاتم صادق، زوج الدكتورة هدى جمال عبد الناصر فيما بعد. فاستأجرها والدى منهم لحين بناء الفيلا الجديدة.

نجيب محفوظ
من الطبيعى أن يكون لنجيب محفوظ مكان فى صفحات المذكرات. رغم أننى أتوقع أنه سيحتل مساحة كبيرة وعريضة من الجزء الثانى من هذه المذكرات. وعنوانها: العصف والريحان. وأنا لم أقرأها بعد. لكنه فى هذ الجزء الأول عندما يتحدث عن زيارته لستوكهولم فى ديسمبر عام 1988 يقول لأنه كان ممثلاً شخصياً لأديبنا الكبير نجيب محفوظ فى احتفالات نوبل.

هيكـل
للأستاذ محمد حسنين هيكل يرحمه الله رحمة واسعة. وأنا لا أصدق حتى الآن أنه رحل عنا وتركنا فى وحدة قاتلة. لهيكل مساحة ممتدة ومتواصلة فى هذه المذكرات. بل إنه فى الصفحات الأولى منها يذكر برقاش، باعتبار أن أراضى العائلة وصلت إلى بعض الأراضى المستصلحة بمنطقة برقاش بالجيزة. وكانت غزيرة الإنتاج. ونحن نعرف أن برقاش هى المكان الذى ارتبط لاحقاً بالأستاذ هيكل وأصبح جزءاً من وجدانه.
على أن الأجزاء المتأخرة من المذكرات تكاد تكون أكثر إثارة. لأنه وقعت فيها أحداث 18 و19 يناير، وسفر السادات إلى العدو الإسرائيلى، وهو الحدث المثير، وأيضاً تجارب المؤلف مع السجون والمعتقلات. عندما سافر السادات إلى القدس المحتلة وعاد بالسلام الذى قال إنه ينهى كل الحروب ولم يكن ذلك صحيحاً.

السجن والاعتقال
تجربة السجن فى حياة محمد سلماوى كنت أعرفها قبل قراءة المذكرات. لكنى لم أتصور أنها كانت ضخمة وعميقة وممتدة بهذا الشكل. تعددت مرات سجن سلماوى بسبب آرائه ومناهضته لحكم السادات خاصة بعد انتفاضة 18، 19 يناير 1977. وأيضاً بعد سفره إلى قلب العدو الإسرائيلى. وهو ما أصاب القضية الفلسطينية بأضرار بالغة.

وكتابته عن السجن إنسانية لا تدّعى البطولة. يكتب:
- فى اليوم التالى تأخر فتح الزنازين من الساعة السابعة والنصف حتى الثامنة والثلث. فقد كان يوم الجمعة. ومن معه المفاتيح - كما قيل لنا - لم يصح من نومه مبكراً.

فيليب والجمَّال
يعترف سلماوى بأنه لم يتعرض للتعذيب البدنى. كما كان يحلو لفيليب جلاب أن يُذكِّره. ولم يكن ينتهك شرفنا كل ليلة حسب دعابة أحمد الجمال الساخرة. لكن السجن هو أقسى تعذيب لأنه المنفى. وفيه لا يكون التعذيب بدنياً. فلا نابليون تعرض للتعذيب. ولا سعد زغلول. ولا زعماء الثورة العرابية. ولا الطهطاوى. ولا أحمد شوقى. وبيرم التونسى. ومحمد عبده. وعبد الله النديم. والعقاد.

لكن الرجوع لكتابات بعضهم يشعرك بأقصى درجات الألم النفسى الذى شعروا به. وقد أُخْرِجُوا عنوة من حياتهم الطبيعية. فكانت كتاباتهم تقطر حزناً وأسى.
يروى سلماوى أن السادات أرسل سيد مرعى ومصطفى خليل لهيكل ليعرضا عليه الوزارة. وأنه اعتذر. وهو ما أكده هيكل فى أكثر من مناسبة. لكنه أرسل للسادات مع صديقيه نصيحة وهى ألا يُدخِل نفسه طرفاً فى الأزمة. وأن يأخذ جانب الشعب. ويترك الحكومة تواجه الجماهير. حتى لا تبدو هزيمتها هزيمة له.
الروائى والكاتب المسرحى

كانت قراءة هذه المذكرات ممتعة لأن صاحبها لم يكتبها من فراغ. فهو روائى له أكثر من رواية. وأيضاً كاتب مسرحى. والذى يجمع بين الثلاثة: كتابة المذكرات، والنص الروائى، والمسرحية. كلمة سحرية هى: السرد. وقد كان سلماوى ساحراً فى سرده الذى كان هدفه الوحيد أن يشاركه القارئ معايشة ما مر به.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة