إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

أنانية الحُزن!

إيهاب الحضري

الخميس، 19 أغسطس 2021 - 06:33 م

فى تلك الليلة دخلتْ زوجتى غرفة مكتبى فى ساعة متأخرة، ثم خرجتْ دون أن تقول كلمة. أبتسم، ربما تكون لحظة شك عابرة راجعتْ نفسها فيها، بعد أن اكتشفتْ أن ضبطى مُتلبسا بالجريمة المُتخيّلة سيكون مستحيلا.


حرائق الذكريات


الأربعاء:


يحتفظ وجدان معظم أبناء جيلى بذكريات طفولة خارج مصر، تعود لزمن شهد هجرات مؤقتة، لأسر تبحث عن واقع وردى بالعمل فى دول عربية ذات أوضاع أفضل اقتصاديا.

كانت كلمة» الإعارة» بوابة الانتقال بين عالمين، حيث قادت الملايين تباعا إلى بلدان تُشيّد نهضتها، ساهموا فى بناء تقدمها، وفى الوقت نفسه انتقلوا إلى مستويات معيشة أرقى. على عكس الكثيرين كتب القدر لأسرتنا الصغيرة حظا باتجاه الغرب.

انطلق والدى رحمه الله للعمل فى الجزائر، وبطبيعة الحال لحقنا به، لتحتفظ ذاكرتى بمشاهد جذّابة، تعود للحضور تحت وطأة اللحظة الراهنة.

فقد اقتحمت النيران واحدة من أهم مناطق ذكرياتي. فجأة، اكتسبت الأحداث أهمية استثنائية، لأننا اعتدنا أن يظل الخبر جامدا، حتى يُلامس أحد أوتارنا الشخصية.


هناك.. بالقُرب من مدينة تيزى أوزو، عشتُ لسنوات فى بلدة كانت صغيرة وقتها تُدعى برج منايل، تنتمى لمنطقة القبائل الأمازيغية الكُبرى.

كُتب لى أن أنشأ فى بيئة تتميّز بطبيعة مُختلفة عما اعتدتُه. سلسلة جبال الأطلس تحيطها من كل الجوانب، والأفق مُمتد على اتساعه لمساحات خضراء، تتوسطها جُزر من المبانى غير المُتلاصقة.

يتحدّث أقرانى الجزائريين بانبهار عن عمارات القاهرة الشاهقة، يرونها فى أعمال فنية تعرضها قناة تليفزيون وحيدة، بينما أبدو مُنجذبا لطبيعة جبلية تفتح لى أبواب خيال شكّلته الحواديت.

اللون الأخضر يختلف حتى عما شاهدتُه من قبل، فى قريتنا كان الوصول إلى» الغيطان» يتطلب المرور بعدد كبير من المبانى المتلاصقة لحدّ التداخل.

المشى مجهود لا تتحمله قدماى الصغيرتان، مما يتطلّب استراحات متفرقة.

فى البلدة الجزائرية كان الأمر مختلفا، معانقة اللون الأخضر تتطلب فقط عدة خطوات قصيرة، لنمارس اللهو وسط طبيعة خلابة، غير أنها لا تخلو من قسوة.

الشتاء قارص وأمطاره مصحوبة عادة بالجليد، أدهشتنى رؤية الثلج المتساقط من السماء كحدث استثنائى فى البداية، ثم اعتدتُ عليه بعد ذلك وصار طقسا مألوفا. 
الجزائر تحترق.

هذا تحديدا ما جعلنى أركّز مع النيران التى اجتاحت أماكن مُتفرّقة من العالم. بطبيعة الحال ركّزتُ اهتمامى على تلك المنطقة التى احتضنتْ فترة التأسيس فى طفولتي. الشعور بالأسى مُبرّر، فها هو جزء من الذكريات يتحوّل إلى رماد.

يتراجع الواقع بينما تبقى الذكرى. إنها الطبيعة البشرية التى تُدمن الحنين، والحنين يفتح بوابات الشجن.

نحن أنانيون حتى فى الحزن، فما يتماس معنا قادر على تحريك مشاعرنا، ونظل جامدين فى إحساسنا بالآخرين، لا نشعر غالبا بالتعاطف معهم، بل نتعاطف مع أنفسنا فى زمن آخر.

ينتصر الماضى دائما فى سباق الأزمنة، مهما تحدثنا عن ضرورة مجاراة الحاضر أو التخطيط للمُستقبل، تماما مثلما ينتصر الزمان على المكان فى أية منافسة.

 

عادة ما ترتبط مشاعرنا بالزمن، حتى لو أحسسنا بالحنين لأماكن بعينها، فإن حنيننا لها ينطلق من نُقطة قديمة فى زمان بعيد، وإلا.. فلماذا نشعر بالملل من مكان نحيا فيه، ونعود بعد سنوات لنعتبره الفردوس المفقود؟! 


الكوكب.. عاد لينتقم!


الخميس:


تتوالى أخبار حرائق عابرة للحدود. تنتقل النيران من بلد لآخر، وتُذكّرنا بجنايتنا على الكوكب، الذى نهشنا موارده بنهم جعل خصائصه تتبدّل. جشع الإنسان لم يقتصر فقط على الجرائم الفردية والجماعية فى حق أبناء جنسه، بل امتد إلى الطبيعة، لهذا ارتد السهم إلى البشر جميعا.

نعانى من حرارة الصيف ونظنّ أنها الخطر الوحيد، ثم نفاجأ بأن الحر انقلب إلى نار الله الموقدة. العبارة تتجاوز حدود التعبيرات المجازية، لتُصبح واقعا نتابعه فى نشرات الأخبار. الغابات..

رئة العالم تتنفس لهبا ودخانا، ودمارها يعنى أننا نكتب فصول نهايتنا بأيدينا.

بعد قليل يتجاوز الكثيرون الأخبار، مثلما تجاوزوا من قبل أنباء قتلى الصراعات والنزاعات، الذين تحولوا إلى أرقام جامدة! 


هل أصبح كوكب الأرض شرسًا فجأة؟ أم أنه انتفض ليثور وينتقم بعد قرون من المعاناة؟ النتيجة واحدة فى الحالتين، والمعاناة تتنوع بين ما هو مرحلى ومُزمن. أطلق الكوكب تحذيرات متتابعة، ودافع عن نفسه بأسلحة ليست الأقوى حتى الآن، ورغم ذلك نشعر بالعجز أمامها. فتح مجاله الجوى أمام أشعة الشمس، كى تحاصرنا بالحرّ الذى تجاوز حدوده.

وفقا لمؤسسات مختصة ضرب يوليو الماضى رقما قياسيا، وأصبح الأشد حرارة منذ 134 عامًا.

مواطنة إسبانية شكتْ لوكالة الأنباء الألمانية من أن مقاومة الحر بجهاز التكييف يتسبب فى التهاب فاتورة الكهرباء، دون أن تعلم أن هذه الأجهزة مسئولة بشكل مباشر عن أزمتنا.

الافراط فيها يزيد من الاحتباس الحراري، وبهذا نبدو وأننا نواجه نار الفُرن الراهنة بفتح أبواب جهنم على أنفسنا فى المستقبل!

إنها دائرة مفرغة، تسببتْ فيها التكنولوجيا الحديثة دون قصد، وهكذا أصبحت الرفاهية المؤقتة واحدة من أهم مُسببات معاناة مُزمنة.

فى المنطقة العربية انطلقت اتهامات بأن عددا من الحرائق اشتعلتْ بفعل فاعل، صناعة الخراب تجد من يتحمسون لها فى كل الأزمان، لكن المؤكد أن ابن آدم هو الجانى الوحيد فى كل أنحاء العالم، حتى لو لم يقم بإشعال الحريق بشكل مُباشر.


رحيل أبو غدير


الجمعة:


من طقوسى الليلية أن أجلس فى الظلام، أكتفى بالإضاءة الخافتة المُنبعثة من جهاز الكمبيوتر خلال الكتابة، لأننى أشعر أن الضوء يبدّد القدرة على الخيال. فى تلك الليلة دخلت زوجتى غرفة مكتبى فى ساعة متأخرة، ثم خرجتْ دون أن تقول كلمة. أبتسم، ربما تكون لحظة شك عابرة راجعتْ نفسها فيها، بعد أن اكتشفتْ أن ضبطى مُتلبسا بالجريمة المُتخيّلة سيكون مستحيلا. للرجال عادة وسائل تتيح لهم فرصة الإفلات بخطاياهم، إلى أن يسقط أحدهم فى شر أعماله فيجمع الحساب بين الجديد والقديم!

 

ينقطع انسياب أفكارى بعد ثوان. عادتْ وفتحتْ الباب، وقتها فقط عرفتُ سبب ترددها، تحمل خبرا سيئا تراجعتْ وقررتْ تأجيله للصباح، ثم رأتْ أننى يجب أن أعلم. قالت: الدكتور أبو غدير توفى. كانت تعرف مدى اعتزازى به، لهذا خشيتْ من وقع الخبر علىّ.

تلقيتُ النبأ بانقباضة قلب أصبحتْ مُعتادة، بعد أن تزايد عدد الراحلين.

لكن التكرار يمنح القلب بلادة لا تليق بنا كبشر، وسط زحام أيام نلهث فيها وراء تحقيق أهدافنا، الغريب أنها لم تعد أهدافا كبرى، لأننا نتمنى أن نُحقق فقط حدّ الكفاف من أحلام تحتضر.

كان الدكتور محمد أبو غدير نفسه يفعل ذلك حتى قبيل أسابيع من رحيله.

اعتاد أن يتصل بى كل فترة، ويحدثنى عن مشروع بحثى أو ثقافى يُخطط له، ويؤكد على ضرورة بقاء الأمر سرا بيننا إلى أن نلتقى.


عرفتُه فى ظرف لا أذكره، حدث ذلك غالبا خلال عملى في» أخبار الأدب»، لكن علاقتنا أصبحت وثيقة منذ عرف أننى أعد كتابى الأول عن ممارسات إسرائيل للسطو على تراثنا، على الفور بدأ توفير مراجع علمية نادرة لي، باعتباره واحدا من أكبر المتخصصين فى الإسرائيليات بمنطقتنا العربية، واحتفى بعدها بكتابى عندما صدرت طبعته الأولى قبل 15 عامًا. الغريب أننى كنت أفكر قبل رحيله مباشرة فى الاتصال به، كى أخبره بصدور الطبعة الثانية، والاتفاق على موعد كى أهديها له، لكنه القدر يجعلنا دائما نصل متأخّرين!


غابات افتراضية


الثلاثاء:


الهاتف صامت أغلب الوقت. تدب الروح فيه كل فترة عبر دقات متقطعة. الرسائل النصية تؤكد أن هناك من يحاول الاتصال بي، لكنه يعجز عن الوصول لى رغم أن الهاتف مفتوح دائما، يعانى من الصمت والوحدة، ويشعر بالشوق لتلقى اتصال ينفض عنه الشعور بالعزلة. قديما كنتُ ألجأ لغلقه بعض الوقت، كى أرتاح من صخب زاد عن حده، أما الآن فلم أعد فى حاجة إلى ذلك. شركة المحمول قدّمت خدمة مجانية على غير العادة، وجعلتْ معظم الأماكن تعانى من سوء التغطية، وهو ما يضمن عدم الإزعاج!

تبدأ المشكلة فقط عندما تضيع اتصالات تتعلق بالعمل، أو أخرى من زوجات تشعر كل منهن بالقلق من عبث شريك حياتها، هنا يفتح الهاتف غير المتاح باب تحقيق موسّع، لا تنفع فيه حجة سوء الخدمة، ويُصبح مطلوبا من الزوج تقديم» شهادة تحركات» مدعومة بأدلة، تُثبت أن خروج الهاتف من الخدمة فى توقيت الاتصال، لم يكن مرتبطا بسلوكيات أخرى مشكوك فيها!


فى مصر 100 مليون مشترك فى خدمة الهواتف المحمولة، أى أن مليونى مواطن فقط خارج نطاق الخدمة، بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون الاستنتاج السابق صحيحا، لأن عدد المواليد الرضع والأطفال الذين لا يزالون فى طور» الزحف» أكبر من ذلك بكثير، ولا نحتاج لذكاء مُفرط كى نستنتج أن هذا العدد ناتج عن امتلاك الكثيرين أكثر من خط.

 

أكثر من خمسين بالمائة من» أسرى المحمول» يستخدمونه للوصول إلى شبكة الإنترنت، التى أصبحت أضخم غابة صناعية فى العالم، تتشابك فروعها الافتراضية لتحاصرنا حتى الاختناق، وكالعادة لا نشعر بالخطر لأن المتعة تسلبنا التركيز.

 

حركاتنا مرصودة وحياتنا الشخصية مستباحة بإرادتنا، الأوقات المُهدرة تفوق الطاقة الاستيعابية لأعمارنا. اختراع آخر تم ابتكاره لمنح البشر مزيدا من الرفاهية، لكنه يزيد من معاناتهم المادية والنفسية، ويقودهم لإدمان لا يُمكن الخلاص منه، والأهم أنه فضح العالم السرى لملايين الرجال على سطح الأرض، فغالبا لا يجرؤ الكثيرون على دخول منازلهم إلا بعد» كتم» صوت الأجهزة، لتفادى توابع أية «رنة» طائشة!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة