رجائى عطية
رجائى عطية


مدارات

الابتلاء بالمنح والخيرات والنعم

رجائي عطية

الجمعة، 20 أغسطس 2021 - 07:39 م

هذا شطر من مقال قديم نشر فى 6/10/2018، شاءت الأقدار أن أعاود طرحه لبيان معنى ومرامى الابتلاء، وأول ما يتوجب فهمه أن الابتلاء هو الامتحان والاختبار، وأن من سنن الله أن يمتحن عباده بالنقيضين، بالشر والخير. والدنيا لا تنقطع فيها الحادثات والاحتمالات، والناس يتفاوتون فى استقبال ما يبتلون فيه، أمَّا المنح والخيرات والنعم فقد يستقبلها البعض بالبطر والغرور، مثلما حصل من قارون.. كان من قوم موسى عليه السلام فآتاه الله كنوزًا تنوء بحملها العصبة من الرجال، ولكنه بغى وتجبر، فنصحه العقلاء من قومه بألا يفرح بما آتاه الله، وليبتغ به وجه الله والدار الآخرة.  بيد أن قارون أعماه التيه والغرور والغطرسة، ولم يدرك أن هذا الثراء ابتلاء ليرى الله تعالى كيف سيتصرف فيه، وجعل يقول لناصحيه إن ما أوتى إياه كان بفضله وجهده هو وقدرته، فخسف الله به وبداره الأرض ولم يجد لنفسه نصيرًا ولا سندًا.
قد يكون الخير فتنة، والفتن ابتلاء واختباراً.. وفى ذلك يقول تعالى : 
«وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ » (الأنبياء 35) .. وكان نبى البر والرحمة ــ عليه الصلاة والسلام ــ يستعيذ بربه من «فتنة الغنى» ـ ويقول فى دعائه : « وأعوذ بك من فتنة الغنى »، ونحن نرى فى الحياة « عفة المستغنى » مقابل « فتنة الغنى »، وهذا هو معنى وغاية الابتلاء.
وهناك من يُبتلى بالخير، فيشكر ربه على ما آتاه . هذا الشكر ليس مجرد شكر باللسان، وإنما هو عرفان وامتنان بالقلب . وما دام صادقًا نابعًا من القلب فسوف يصادقه عمله، فلا يتجبر بما أوتى من خيرات، ولا يزهو ولا يغتر، ويدرك أن للمال الذى بيده وظيفة اجتماعية، يُبْتلى كيف نهض بها برًّا وعطاءً وإنفاقًا فى الخيرات، واتخاذها سبيلاً للإصلاح والعمار .
يروى لنا القرآن الكريم، أن ثعلبة بن حاطب، جعل إثر إسلامه يدعو ربه ويطلب السعة والثراء، ويطلق الوعود، ويقول لأصحابه : « أُشهدكم الله، لئن أتانى الله من فضله، آتيت منه كل ذى حق حقه، وتصدقت، ووصلْتُ القرابة !» .. فلما رزقه الله تعالى، وزادت ثروته وأغنامه، وابتلى بهذه النعمة، إذ به ينقلب على عقبيه، ويمسك عن الصدقة الواجبة عليه، ويتعلل بالعلل حتى لا يؤديها، ويرد كل من أتاه ردًّا جحودًا لا شكر فيه على ما امتن الله تعالى به عليه .  
فى أمر سقوطه فى ابتلائه بالنعم والخيرات، نَزَل قول الحق جل وعلا : 
« وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ - فَلَمَّآ آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ - أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ » ( التوبة 75 ـ 78 ) .
من لا يفهم مرام الابتلاء بالخيرات والنعم، لا يفهم أن الله سبحانه قد استخلف من أنعم عليه واستخلفه فى المال، لا ليتجبر أو يتغطرس به، وإنما لأداء الوظيفة الاجتماعية المستخلف فيها . الانشغال ببهجة المال وقوة الثراء، يصرف الهم إلى اكتنازه والتعاجب به، وينحرف عن الوظيفة الاجتماعية التى يجب عليه أن يسخره فيها، ولا يفهم أن الابتلاء بالمكانة يعادل الابتلاء بالخيرات والنعم، واجب المبتلى بها أن يحسن التصرف فيما يصدر فيه عن هذه المكانة .. بوصلته ضميره .. لا يشعر بوطأة الابتلاء بالنعم والخيرات إلاَّ ذوو الضمير الحى .. فهو كالحارس الذى ينبهه فى كل تصرف أو سلوك، هل يرضى ربه وإنْ أغضب الناس، أم يرضيهم بسخط ربه .. فنرى صاحب الضمير الحى اليقظ يُرضى ربه مهما غضب لذلك بعض الناس، ولا ينزلق إلى إرضاء الناس بغير حق فيخسر دينه ويخسر ربه ويبوء بغضبه وعذابه .   لم يكن ما حدث من قارون، وما حدث من ثعلبة بن حاطب، سوى دليل على الطغيان بالمال، والانحراف به عن غايته، ويؤكد أن الله كما يبتلى بالشدائد، يبتلى أيضًا بالنعم والخيرات. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة